هذا قول بعض العلماء في معنى الفحشاء هنا وتوجيهه ، وهو تفسير للكلمة بمعناها الشائع في استعمال القرآن الكريم ، وقد فسر هنا الفحشاء بالبخل الشديد ; فإن كلمة الفاحش تطلق في لغة الزمخشري العرب على البخيل الشديد البخل ، ومن ذلك قول طرفة بن العبد :
أرى الموت يعتام الكرام ويصطفي عقيلة مال الفاحش المتشدد
فالفاحش هنا المراد به البخيل .
ويكون توجيه الكلام على هذا المعنى ، أن الشيطان يوسوس في نفس الغني ، يخوفه بالفقر ، حتى إذا استمكن من نفسه وسيطر عليها في هذا وجهه إلى طريق [ ص: 1007 ] البخل الشديد فاتجه وأطاعه كما يطيع المأمور الآمر ، ويصير سيقة في يده يسوقه حيث يشاء .
ولقد قال - صلى الله عليه وسلم - : " الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء الآية . إن للشيطان لمة بابن آدم وللملك لمة فأما لمة الشيطان فإيعاد بالشر وتكذيب بالحق ، وأما لمة الملك فإيعاد بالخير وتصديق بالحق ، فمن وجد ذلك فليعلم أنه من الله فليحمد الله ومن وجد الأخرى فليتعوذ بالله من الشيطان الرجيم» ، ثم قرأ
هذه ، وتلك خاطرة النفس الملكية ، وقد ذكر سبحانه أمره في مقابل وسوسة الشيطان فقال : وسوسة الشيطان والله يعدكم مغفرة منه وفضلا
صدر سبحانه القول بلفظ الجلالة للإشارة إلى أن الوعد الذي وعد به المنفقين وعد حق ، لا يمكن أن يجيء الشك في صدقه ; لأنه وعد الله ذي الجلال والإكرام المعبود بحق ، الذي لا يستحق العبادة سواه سبحانه وتعالى عن الشريك والمثيل ، وإذا كان الشيطان يهدد بالفقر عند العطاء ، فالولي تعالت حكمته يعد المنفق بأمرين : أولهما المغفرة ، وثانيهما الفضل ، وهو الزيادة في الدنيا والآخرة .
فأما المغفرة ، فلأن الصدقة التي يقصد بها وجه الله تعالى لا لأحد سواه ، وليس فيها رياء ولا نفاق ، ولم يعقبها من ولا أذى ، تدل على نفس صافية خالصة مخلصة ، متجهة إلى الله تعالى منصرفة ، فإن كان منها في ماضيها ما يؤاخذ المرء عليه ، فإن الله تعالى يغفر له ، ويتوب عليه ، ولقد قال تعالى : إن الحسنات يذهبن السيئات وقال - صلى الله عليه وسلم - : " " ولأن النفس تكون صافية إذا كانت الصدقة على هذا الوجه ، قال الله تعالى : الصدقة تطفئ الخطيئة خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها فالصدقة التي تؤدى ابتغاء وجه الله تعالى تطهر النفس كما تطهر المال ، وتوجه النفس نحو الخير ، كما تنمي المال .
[ ص: 1008 ] هذه هي المغفرة التي يعد الله سبحانه وتعالى بها ، وأما الفضل وهو النماء والزيادة فإن ذلك يتحقق بالصدقات ; لأنها تحدث البركة في الرزق فيكون القليل في يد المتصدق كثيرا بتوفيق الله تعالى ، وبتوجيه من الله تعالى إلى السبل الناجحة ، وإبعاده عما يذهب فيه المال ضياعا ، وإن الفضل يتحقق بسيادة المرء على نفسه ، ومن ساد على نفسه فقد ساد على غيره ، والمنفق يغالب الأهواء فينتصر ، فيشرف في نفسه ، ويشرف أمام الناس ; ثم إن الله سبحانه مخلف الرزق في الدنيا بالتيسير والتسهيل والرزق الوفير ، وفي الآخرة بالنعيم المقيم ; ولقد قال تعالى : وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه وهو خير الرازقين وقد روى البخاري أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " ومسلم " وإن ذلك مشاهد محسوس بين الناس اليوم ، فإن الممسك إن لم يتلف ماله تلف جسمه ، فإن لم يتلف جسمه تلفت نفسه ، أو شرفه ، وتقطعت صلات المودة بينه وبين الناس حتى أقرب الناس إليه . ما من يوم يصبح فيه العباد إلا ملكان ينزلان يقول أحدهما : اللهم أعط منفقا خلفا ، ويقول الآخر : اللهم أعط ممسكا تلفا
والله واسع عليم ختم الله سبحانه وتعالى هذه الآية بتلك الجملة السامية تأكيدا لوعده الذي وعد به عباده المتقين المتصدقين ; فإنه سبحانه وتعالى قد وعدهم بأن يعطيهم من فضله ، فبين سبحانه وتعالى أنه واسع المغفرة ، واسع الفضل ، يعطي من يشاء ; فإذا كان هو الذي أعطى الغني من فضله ابتداء ، فهو الذي يمده إن تصدق بفضله أيضا ، وهو مع سعة فضله ومغفرته عليم بموضع المغفرة وموضع الفضل ، وهو الصادق فيما يعد ، يعلم نتيجة العطاء ، وأنها لا تنتج فقرا كما يوسوس الشيطان ، بل يعلم الغيب ، وقد أكن في قدره أنها تنتج مغفرة وفضلا ، فصدقوا أيها المنفقون من يعلم الغيب ، ولا تسيروا وراء وسوسة الشيطان الرجيم .
* * *