[ ص: 1012 ] وما أنفقتم من نفقة أو نذرتم من نذر فإن الله يعلمه النفقة هي العطاء العاجل في باب من أبواب البر ، فهي عطاء منجز ، توجبه حاجة من يعطيه ، أو حاجة الجماعة التي يعيش فيها ، والضرورات الاجتماعية ، أو السياسية أو العسكرية لها . أما النذر فهو التزام طاعة من الطاعات ، أو في بر . ويقول عطاء الراغب : النذر أن توجب على نفسك ما ليس بواجب لحدوث أمر ، يقال نذرت قال تعالى : إني نذرت للرحمن صوما فلن أكلم اليوم إنسيا وأصل مادة نذر من الخوف ; لأن الإنسان إنما يلتزم ما يلتزمه على نفسه مما ليس بلازم عليه خوف التقصير وخوف أن تضعف الإرادة البشرية في القيام بذلك الفعل الذي ليس واجبا في أصله . والصيغة المشهورة للنذر أن يقول : لله علي نذر أو نذرت لله كذا ، فهي في معناها تتضمن العهد الموثق لله .
ومعنى الجملة السامية : ما أنفقتم من نفقة عاجلة وأديتموها ، أو التزمتم بنفقة قابلة وعاهدتم الله على القيام بها ، فإن الله تعالى سبحانه وتعالى يعلمه ، فيعلم الباعث عليه أقصد ابتغاء مرضاة الله أم قصد به رئاء الناس ، أو كان من الطيب الذي يقبله الله ، أم تيمم الخبيث فلم يختر لله سواه ، وأتبعه منا وأذى ، وجرحا للكرامة وعزة النفس ، أم كان بطيب النفس ، ومن غير ذل ولا امتهان ; ثم يعلم سبحانه أوفى الناذر بنذره على الوجه الأكمل أم نكث عهده ، وأبطل ذمته ؟ يعلم الله سبحانه وتعالى ذلك كله ، يعلمه علم القادر القائم على كل شيء ، الذي يجازي المحسن إحسانا والمسيء إساءة ; فقوله تعالى : فإن الله يعلمه مع إيجازها أفادت فوائد جمة : أفادت الوعد والوعيد ، أفادت التبشير بالثواب والنعيم المقيم ورضوان الله تعالى ، وأفادت الإنذار بالعقاب ، لمن فسد قلبه ، فلم يقصد بعطائه وجه الله تعالى ، ولمن نقض عهده ، وأخل بذمته ; ثم أفادت مع ذلك تربية المهابة في قلب المؤمن ; فإن المؤمن إذا ذكر أن الله تعالى يعلم عمله ، أحس برقابته في خلجات نفسه ، وخصوصا أن الجملة السامية : فإن الله يعلمه صدرت بما يؤكدها . وذكر العليم الحكيم بلفظ الجلالة الدال على الاستحقاق الكامل للألوهية ، وانفراده سبحانه وتعالى بها ، فإن ذلك كله من شأنه أن يجعل المؤمن يحس بمقام الألوهية ، [ ص: 1013 ] ويشعر بحق العبودية ، فتخلص نيته ، ويخلص قلبه من كل الشوائب والأغراض الدنيوية .
وما للظالمين من أنصار ختم الله سبحانه وتعالى الآية الكريمة بهذه الجملة السامية التي تفيد النفي المطلق لنصرة الظالمين ، ومعناها ليس للظالمين أي نصير في الدنيا والآخرة ، وهي تؤكد الوعيد في الجملة السابقة ، وتشير إلى أن الامتناع عن الإعطاء ظلم ، وليس للظالم نصير ; وأن الامتناع عن الإعطاء حقيقة هو ظلم ، فهو ظلم للجماعة ، لأنه منع صاحب الحق من حقه ; لأن الله سبحانه وتعالى وهو أحكم الحاكمين حكم بأن للفقير في مال الغني حقا معلوما ، ولا ظلم أفحش من أن يمنع صاحب الحق من حقه ، ولأن الممتنع عن العطاء يظلم نفسه ; لأنه يعرضها للهوان في الدنيا ، ولعذاب الله في الآخرة ، وهو يظلم نفسه وجماعته ; إذ إن الجماعة التي يشح فيها الغني بالعطاء لإمداد الجند المدافع ، ولإمداد الفقير وجعله يعيش عيشة آدمية محترمة - يبتليها الله تعالى ببلاء واقع ما له من دافع ، لأن ذلك الفقير إذا جوعته كان أداة هدم للجماعة ، فيكون الشذاب الذين يبدلون أمن الجماعة خوفا ، ويكون المنحرفون في تفكيرهم ومنازعهم الذين يهدمون بناء الجماعة ، ويقوضون كل قائم .
ونفي الأنصار يشمل النفي في الدنيا والآخرة كما قررنا ; أما نفيه في الآخرة فمعلوم ظاهر ثابت ، ونفيه في الآخرة يدركه البصير النافذ البصيرة ; فإن البخلاء بأموالهم عن مواطن الخير مبغضون إلى الناس ، لا يرضى عنهم أحد ، ولا يناصرهم أحد بالقول أو العمل ، وأحب الناس إلى الناس الباذل المعطي ، وأبغضهم إليهم الشحيح المانع .
والآية الكريمة تشير إلى أن ; فإنه اقترن بالإنفاق المطلوب الذي حث عليه القرآن الكريم في الآيات السابقة ، فكذلك ما اقترن به . الوفاء بالنذر مطلوب في العطاء
[ ص: 1014 ] وإنه من الحق علينا قبل أن ننتقل إلى تفسير الآية الآتية نتكلم في النذر :
إن العلماء يقسمون النذر إلى قسمين : نذر مطلق هو التزام بطاعة غير معلق على زمن ، ولم يكن المقصود منه الحض على فعل أو المنع من فعل ، أو الامتناع عن فعل ، أو توثيق فعل ، كأن يقول القائل : لله علي نذر أن أعتكف في العشر الأخيرة من رمضان ، أو : لله علي نذر أن أتصدق على الفقراء بعشرة جنيهات . فإن النذر في هذه الحال يجب الوفاء به ما دام طاعة باتفاق الفقهاء ويقسم الفخر الرازي في تفسيره الكبير هذا النذر إلى قسمين : مفسر وغير مفسر ، فالمفسر أن يقول مثلا : لله علي حج ، وهذا يلزم الوفاء به ، وغير المفسر أن يقول : لله علي نذر ، من غير أن يسمي النذر ويبينه فيلزمه فيه كفارة يمين لقوله - صلى الله عليه وسلم - : " من نذر نذرا وسمى فعليه ما سمى ، ومن نذر نذرا ولم يسم فعليه كفارة يمين " .
وهذا مذهب ، ويلحق بالنذر غير المفسر في المذهب الشافعي الشافعي ، كأن يقول : نذرت لله ألا أفعل كذا ثم يفعله ، فإنه يجب فيه كفارة يمين ; لأنه في معنى اليمين . النذر الذي يكون في معناه تحريض على فعل ، أو الامتناع من فعل
ولقد روي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " " . من نذر نذرا لم يسمه فكفارته كفارة يمين ، ومن نذر نذرا في معصية فكفارته كفارة يمين ، ومن نذر نذرا لا يطيقه فكفارته كفارة يمين
هذا إذا ; فقد اتفق الفقهاء على وجوب الوفاء به ما دام قربة ، لقوله - صلى الله عليه وسلم - : " كان النذر التزاما مجردا من غير تعليق أو تقييد بمكان من نذر أن يطيع الله فليطعه ، ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه " . ولقوله تعالى . وليوفوا نذورهم فهو أمر حتمي لازم .
[ ص: 1015 ] أما إذا كأن يقول : إن شفى الله مريضي مما ألم به فلله علي نذر أن أتصدق بمائة جنيه مثلا ، فقد اختلف الفقهاء فيه ; فقال الحنفية فيجب الوفاء بشروط ثلاثة : ألا يكون معصية وألا يكون واجبا ، وأن يكون قربة بحيث يكون من جنسه واجب ; فنذر المعصية باطل كما قدمنا ، وكنص الحديث الذي ذكرناه ; ونذر الواجب لا جدوى فيه ; لأنه واجب من تلقاء نفسه ; أما علق النذر على أمر سيقع في المستقبل كالصدقات والصيام والحج فإن الوفاء به واجب ، وهذا هو مذهب المالكية إلا أنه إذا كان نذر القرب التي من جنسها واجبات وجب الثلث فقط عندهم ، إن لم يكن المال معينا بالتعيين . النذر بجميع المال في قول اعتبر النذر المعلق على الشرط كاليمين تجب به كفارة ، كأن يقول : إن شربت الدخان وجب علي كذا صدقة ، فشرب ، فإنه تجب كفارة يمين . والشافعي
ومذهب كما حققه العلامة الإمام أحمد ابن تيمية أن إن قصد به التعليق حقيقة كـ : " إن جاء رمضان فلله علي نذر أن أعتكف العشرة الأخيرة منه " ، فهذا يجب الوفاء به ، وإن كان المقصود به الحض على فعل أو الامتناع عن فعل ، فإنه لا يجب الوفاء به ولكن تجب كفارة يمين ; لأنه حلف تجب فيه الكفارة . النذر المعلق على شرط
وقد اتفق العلماء على ، لقوله - صلى الله عليه وسلم - : " عدم وجوب الوفاء في نذر المعصية " . وقال من نذر أن يعصي الله فلا يعصه أبو حنيفة ومالك : لا يجب شيء ; ولكن قال والشافعي : تجب كفارة يمين ، للحديث الذي رواه أحمد ونقلناه آنفا ; ففيه التصريح بأن نذر المعصية تجب فيه الكفارة ولأن منطق الحنابلة أن النذر الذي يكون فيه الحض على فعل أو منع فعل هو من قبيل اليمين ، واليمين في المعاصي حكمها أنه يجب الحنث فيها ، وتجب كفارة اليمين ، لقوله - صلى الله عليه وسلم - : " أبو داود من حلف على شيء فرأى خيرا منه فليحنث وليكفر " .
[ ص: 1016 ] هذه كلمة إجمالية في حكم النذر واختلاف أقوال الفقهاء فيه ، ومن المفيد في هذا الموضع أن نتكلم في أمرين :
أحدهما : في ، كالصدقة عند نذر القيام بقربة في مكان معين البيت الحرام ، أو عند المسجد الفلاني .
وثانيهما : ؟ فقد كان الكلام في وجوب الوفاء به . أما الكلام في هذا الموضع فهو في أصله أيكون من المستحسن أن يلتزم الإنسان الطاعة أم يفعلها ولا يقيد نفسه بالتزامها أولا ثم يفعلها ؟ . هل النذر في ذاته حسن في الدين أو ليس بحسن
أما بالنسبة للأمر الأول ، فقد اتفق الفقهاء على أن الالتزام بقربة في مكان تشد الرحال إليه وله مزيد اختصاص بالفضل في الشرع ، كالمسجد الحرام والمسجد الأقصى ومسجد النبي - صلى الله عليه وسلم - ، يجب الوفاء به ; فقد ورد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نص على أنه لا تشد الرحال إلا إلى هذه المساجد الثلاثة ، فالنذر بالصلاة فيها أو الصدقة عندها يجب الوفاء به ; لأن الصدقة في ذاتها قربة ، والاتجاه إلى الله في هذه الأمكنة بالذات قربة ثانية .
وأما إذا كان المكان الذي نذرت القربة فيه ليس من الأماكن التي تشد الرحال إليها ، فقد قال كثيرون من الفقهاء : تجب القربة من غير تقييد بالمكان ; فمن مسجد الحسين أو غيره فالوفاء واجب من غير تقيد بالمكان . نذر أن يتصدق عند
وقال بعض الفقهاء : يجب الوفاء بهذا المكان الذي عينه ، واستدلوا على ذلك بما روى أبو داود ثابت بن الضحاك قال : " نذر رجل على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن ينحر إبلا ببوانة فأتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسأله ، فقال - صلى الله عليه وسلم - : " أكان فيها وثن يعبد ؟ " قال : لا ، قال : " فهل كان فيها عيد من أعيادهم ؟ " فقال : لا ، فقال : " أوف بنذرك ، فإنه لا وفاء لنذر في معصية الله تعالى ، ولا في قطيعة رحم ، ولا فيما لا يملك ابن آدم " . أن
[ ص: 1017 ] وبهذا يتبين أن الوفاء بالنذر واجب ما دام غير معصية ، وفي مكان لا معصية فيه ، ولكن هل ؟ إن ذلك موضع نظر ، والاحتياط في النذور أن تكون لله خالصة . النذر عند الأضرحة والقبور خال من المعصية
أما الأمر الثاني ، وهو وإن كان يجب الوفاء به إن التزمه ; لقد اختلف في ذلك الفقهاء ; فقال فريق كبير منهم : إن الأولى ألا ينذر العبادة ، بل يقوم بها متى قدر عليها من غير نذر ، وذلك لما روي عن التزام الطاعات بالنذور المطلقة أو النذور المعلقة على شرط ، أهو أمر مستحب ، أم الأولى خلافه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه نهى عن النذر ، وقال : " إنه لا يأتي بخير ، وإنما يستخرج الله به من البخيل " وإن أكثر النذور في الماضي كما هي في الحاضر تكون لرجاء أمر فتعلق القربة على وجوده ، أو للخوف من نتائج أمر فتعلق القربة على عدمه ، وإن تعليق القربة على ذلك أمر غير مستحسن ، بل هو مكروه ، بل صرح بعض الأئمة بأنه حرام ; ولقد قال ذلك القول كثيرون من فقهاء المذاهب الأربعة ، بل رواه ابن عمر عن بعض الصحابة . أبو داود
وقال آخرون : إن النذر مستحب ; لأنه يحمل الشخص على القيام بالقرب ، فهو تقوية للعزيمة على الطاعة ; ولقد صرح النووي في المجموع بأنه مستحب .
وعندي أن قد يكون مستحبا لما فيه من حمل النفس على الإصرار على الطاعات ، وأما النذر غير المعلق على شرط ، فهو الذي ينطبق عليه الحديث ، وقد صرح النبي - صلى الله عليه وسلم - بأنه لا يأتي بخير لمنع اعتقاد الناس ذلك ، وكثيرون يتوهمون أن النذر يغير القدر ، فنفى النبي - صلى الله عليه وسلم - صحة اعتقادهم . والله سبحانه هو القادر على كل شيء ، وله عاقبة الأمور . المعلق على شرط
* * *