وبعد أن نهى سبحانه عن التبذير، وأمر بالعطاء أمر بالاعتدال فقال:
ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوما محسورا .
معنى النهي في قوله تعالى: ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك نهى عن البخل بأبلغ تعبير، وفيه استعارة، وهو تشبيه البخيل بمن شد يده بغل من حديد إلى عنقه، فلا تمتد بعطاء قط، ولا تستطيع سد حاجة معوز، ولا إمداد مستغيث بقوت، والجامع في التشبيه هو عدم العطاء؛ لأن البخيل غله بخله فلم يعط، والمشدود شدت يده فلا تتحرك، والبخل يؤدي إلى الذم من الناس.
وقوله تعالى: ولا تبسطها كل البسط ومعنى بسط اليد فتحها بحيث لا تقبض شيئا، يستولي على ما فيها من يستحق ومن لا يستحق فلا ينضبط عطاؤه، [ ص: 4370 ] بل ينفق من غير ضابط يضبط، وقد شبه المسرف بمن تبسط يده يؤخذ ما فيها من غير إرادة صاحبها ومن غير تقديره، ومن غير تعرف من يستحق فيعطيه، ومن لا يستحق فيمنعه، بجامع ضياع المال من غير إرادة حكيمة مقدرة، تضع الندى في موضع المندى، وتمنع من يستحق المنع.
وقد بين الله تعالى نتيجة البخل والإسراف، فقال تعالت كلماته: فتقعد ملوما محسورا الفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها، وما قبلها هو البخل والإسراف، فقوله تعالى: فتقعد ملوما محسورا و(تقعد) هنا أي تصير في حال قاعدا فيها ملوما على بخلك، محسورا بضياع مالك في غير حقه، ففي الكلام لف ونشر مرتب، كما قال ابن كثير: أي فيكون ملوما في حال البخل، ومحسورا في حال الإسراف، ومحسورا، أي أصابته الحسرة على ضياع ما في يده، وصيرورته فقيرا بعد أن كان غنيا، ونقول محسورا من حسر في السفر لا يستطيع الحركة، ويكون في الكلام تشبيه حال من أصبح لا مال له بحال المحسور في السفر، الذي انقطع عن أهله، كما انقطع هذا عن ماله.
أو نقول إنه محسور، أي كليل عاجز كالدابة المحسورة العاجزة، كما في قوله تعالى: ثم ارجع البصر كرتين ينقلب إليك البصر خاسئا وهو حسير أي كليل.
والواقع أن الإسراف يجعل المسرف في حسرة على ماله الذي أضاعه ويجعله مقطوعا عما كان له من مال كالمسرف المحسور ويجعله كليلا متعبا، لأن الله أعطاه رزقا فأضاعه.
روي في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " ما من يوم يصبح العباد إلا وملكان ينزلان من السماء يقول أحدهما: اللهم أعط منفقا خلفا، ويقول الآخر اللهم أعط ممسكا تلفا ".