وإذا رآك الذين كفروا إن يتخذونك إلا هزوا أهذا الذي يذكر آلهتكم وهم بذكر الرحمن هم كافرون إن الإيمان والكفر يتبديان من أول لقاء؛ أو من أي لقاء؛ فإذا صحب اللقاء إقبال وتعرف؛ سلك طريق تعرف الحق واهتدى؛ وإذا كان اللقاء إعراضا؛ وسدا لينابيع الإدراك؛ [كان العكس؛] ومن أشد مظاهر الإعراض الاستهزاء والسخرية; لأن الاستهزاء يميع النفس؛ فلا تتجه إلى طلب المعرفة؛ وتحري الصواب؛ ولقد كان الاستهزاء شأن المشركين في لقاء النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ وهذا قوله (تعالى): وإذا رآك الذين كفروا إن يتخذونك إلا هزوا "إن "؛ هي النافية؛ والمعنى: لا يتخذونك في اللقاء إلا هزوا؛ أي: إلا مستهزئين منك؛ غير مقبلين على دعوتك؛ ولا على شخصك؛ بتعرف ما عندك من قول؛ والنفي والإثبات بالاستثناء مفيد لاستغراق الاستهزاء كل أحوالهم؛ فليس عندهم في نفوسهم فراغ لسماع الحق؛ والإنصات إليه في جد وإقبال؛ وإنهم إذ يرون النبي - صلى الله عليه وسلم - رؤوفا بهم؛ لا يريد إغباتهم؛ متواضعا؛ وادعا؛ تغريهم هذه الرؤية؛ بأن يجعلوا هذه الصفات العليا موضع استهزاء؛ أهذا الذي يذكر آلهتكم وقد ابتدوا في عباراتهم عن كلامهم ذكر الآلهة بسوء؛ فقالوا: يذكرها؛ وأنى يكون له أن يعلو إلى ذكرها؛ فضلا عن تسفيه أحلامهم في عبادتها؟! وهذا استفهام للتعجب والاستهزاء والسخرية؛ وذلك كقول الله (تعالى) عنهم: وإذا رأوك إن يتخذونك إلا هزوا أهذا الذي بعث الله رسولا إن كاد ليضلنا عن آلهتنا لولا أن صبرنا عليها وسوف يعلمون حين يرون العذاب من أضل سبيلا
و "يذكر آلهتكم "؛ فيها معنى إعلاء آلهتهم؛ وتصغير شأن النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ ومثلهم كمثل فرعون من موسى: هذا الذي هو مهين ولا يكاد يبين ؛ فهو استفهام للتعجب والاستغراب من أن هذا للتواضع؛ والتواضع عند أهل الفساد ضعة؛ لأن مقياس الخير والشر عندهم القوة؛ وقاعدتهم: "من لا يظلم الناس يظلم ". [ ص: 4863 ] وهم بذكر الرحمن هم كافرون و "بذكر الرحمن "؛ أي: تذكير الرحمن لهم؛ فهو من إضافة المصدر إلى فاعله؛ "كافرون "؛ أي: جاحدون؛ وهنا أمران يجب الإشارة إليهما؛ أولهما تقديم "بذكر الرحمن "؛ على "كافرون "؛ وهو يدل على التخصيص؛ أي: هم بذكر الرحمن وحده كافرون؛ فهم كافرون بالوحدانية؛ الأمر الثاني: ذكر الله (تعالى) موصوفا بصفة الرحمن؛ وفي ذلك إشارة إلى أن بعث الرسل - وخصوصا محمدا - صلى الله عليه وسلم - هو من الرحمة؛ كما قال (تعالى): وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين ؛ ونقول: إن محمدا - صلى الله عليه وسلم - لم يكن مهينا؛ وإن كان متواضعا وديعا؛ متطامنا؛ موطأ الكنف؛ ولكنه كان ذا هيبة إذا اشتدت سخريتهم؛ يروي عن يوم من أشد الأيام التي لقيها النبي - صلى الله عليه وسلم - من المشركين؛ عبد الله بن عمرو بن العاص أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يطوف بالبيت؛ والملأ من قريش بفناء البيت؛ فكان إذا مر بهم وهو يطوف غمزوا بالقول؛ فبدا أثر ذلك في وجه النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ حتى إذا أتم الطواف التفت إليهم؛ وقال: "شاهت هذه الوجوه؛ وأرغم الله هذه المعاطس؛ يا معشر قريش لقد جئت بالذبح "؛ فما كان إلا من يقول يرفؤه بأحسن القول؛ ويقول: اذهب أبا القاسم موفورا؛ ما علمنا عنك إلا خيرا؛ فكان - عليه السلام - مهيبا؛ ولم يكن مهينا؛ ولكن تطامن ليدخل الناس في الدعوة مختارين اختيارا كاملا؛ لا رهبة فيه.