فلما جاءتهم آياتنا مبصرة قالوا هذا سحر مبين وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا فانظر كيف كان عاقبة المفسدين ؛ الفاء: للإفصاح؛ أي أنهم لما جاءت الآيات التسع مبصرة موضحة مبينة؛ كأنها الأبصار التي تبصر؛ وهي ذاتها بصائر بينة واضحة؛ قالوا: هذا سحر مبين؛ و " مبين " ؛ معناها واضح بين؛ وذلك لقصر مداركهم؛ وقد كانوا يظنون العصا سحرا؛ وجمع السحرة في المدائن حاشرين؛ وأيقنوا أنها آية الله؛ وليست بسحر؛ ثم كان اختبارهم بالقمل والضفادع والدم آيات مفصلات؛ فهل كانت سحرا؛ لعلهم لغلبة الأوهام عليهم؛ ولعدم إيمانهم؛ ولعدم إدراكهم الفرق بين الحق؛ والباطل؛ قالوا أيضا: إنها سحر؛ فقد كان غالبا على تفكيرهم؛ ويعدون السحرة علماء لهم؛ وهم في هذا الادعاء كانوا ضالين؛ يدركون الحقائق؛ وتذعن أفهام لها؛ ولكنهم يجحدونها؛ وهي بينة واضحة يذعن لها أهل الحق؛ ولذا قال (تعالى) - في حالهم -: وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ؛ و " الجحود " : نفي ما يثبت في العقل؛ وإثبات ما ينفى في العقل؛ فهؤلاء يجحدون الحق بعقولهم وأقوالهم؛ ولكن نفوسهم مستيقنة؛ لأنها لا سبيل لها لأن تنكر وتجحد؛ فهم بتوارد الأدلة المختلفة؛ وتكاثرها; ولأن نفوسهم فطرية؛ يستيقنون ويذعنون؛ ولكن يعارضهم جو عام وبيء؛ فنفوسهم مستيقنة بالحق؛ وتذعن له؛ لولا مقاومة التيارات الفاسدة التي تدفعهم إلى الجحود دفعا.
وقد بين - سبحانه وتعالى - ذلك؛ مشيرا إليه بأنه الظلم؛ فقال: ظلما وعلوا ؛ وهما مفعول لأجله؛ من فعل " جحدوا " ؛ أي: جحدوا وأنكروا؛ وخالفوا نفوسهم؛ وفطرتهم؛ لأجل الظلم؛ أي: استمرارهم في الظلم والطغيان؛ ومعاضدتهم لفرعون في ظلمه وعدوانه؛ وإرادتهم العلو في الأرض؛ وقد أدى ذلك [ ص: 5439 ] الطغيان الآثم؛ والعلو الباطل إلى فساد الأرض؛ وإلى غرقهم؛ ولذا قال (تعالى): فانظر كيف كان عاقبة المفسدين ؛ أي: انظر كيف كان مآل الفساد؛ وهو الخراب والغرق؛ والفساد كان في الظلم؛ وإرادة العلو بالباطل؛ إنه لا يفسد الجماعات إلا الظلم أولا؛ والتعالي بالباطل ثانيا؛ والفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها؛ وهو الغرق والهلاك؛ وهو عاقبة الجحود الظالم المستعلي المفسد.