nindex.php?page=treesubj&link=19605_29396_30794_30798_31791_32484_34221_28974nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=144وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل تقرير لحقيقة ثابتة وأمر واقع، وهو أن
محمدا بشر من البشر، وأنه يموت كما يموت سائر البشر، وقد قرر هذه الحقيقة ومعها دليلها، وذلك ببيان حقيقتين كل واحدة منهما تصلح مقدمة في دليل لإثبات أنه ميت لا محالة كما قال تعالى:
nindex.php?page=tafseer&surano=39&ayano=30إنك ميت وإنهم ميتون
الحقيقة الأولى أو المقدمة الأولى:
nindex.php?page=treesubj&link=31791أن محمدا رسول فقط فليس أكبر من رسول، ولذا قال تعالى:
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=144وما محمد إلا رسول أي: ليس له صفة تميزه على الناس إلا الرسالة، والحقيقة الثانية: أن
nindex.php?page=treesubj&link=32028الرسالة لا تقتضي البقاء، فقد مضى رسل من قبله وماتوا، وقد قررها سبحانه بقوله:
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=144قد خلت من قبله الرسل
ومن مجموع الحقيقتين يثبت أن
محمدا سيموت؛ لأنه إذا كان ليس إلا رسولا، والرسل من قبله قد ماتوا، فهو سيموت لا محالة.
وإذا كان محمد سيموت لا محالة فإن رسالته لا تموت من بعده، ولا يصح أن ينقلب المؤمنون من بعده، بل عليهم أن يحملوا العبء من بعده، وقد بلغ
[ ص: 1432 ] رسالات ربه، وأتم بيان دينه، ولذا وبخ المؤمنين على ما كان منهم يوم أحد إذ ذاع في وسطهم أن
محمدا قد قتل، فقال تعالى:
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=144أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم
الفاء هنا لترتيب ما بعدها على ما قبلها، أو للإفصاح عن شرط مقدر، والاستفهام للتوبيخ، والمعنى: أإذا مات وقد علمتم أن موته حق لا ريب فيه، أو قتل في الميدان والقتل طريق من طرق الموت، انقلبتم على أعقابكم، أي عدتم كفارا بعد أن آمنتم، وعباد أوثان بعد أن صرتم من أهل التوحيد، وضلالا بعد أن اهتديتم، والتعبير عن ذلك بقوله تعالى:
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=144انقلبتم على أعقابكم تصوير سام لمن ضل بعد أن اهتدى، فهو تصوير لمن يرجع إلى الوراء وبصره إلى الأمام، وأعقابه هي التي تقوده، وهو منكس جعل رأسه في أسفل وعقبه في أعلى، وذلك أقبح منظر يكون للإنسان.
ولكن هل وقع ذلك الضلال أو كان ما يدل على احتمال وقوعه. يروى في ذلك أن
عبد الله بن قمئة
الحارثي أقبل يريد قتل النبي - صلى الله عليه وسلم -، فتصدى له
nindex.php?page=showalam&ids=104مصعب بن عمير حامل راية المؤمنين فقتله المشرك، وظن أنه الرسول فأذاع ذلك في المشركين، وانتقل الخبر إلى بعض المؤمنين، إذ قد اختلط الحابل بالنابل، فروعت قلوب بعض المسلمين وولوا مدبرين، وانطلق المنافقون يقولون: لو كان نبيا ما قتل، وثبت المؤمنون الصادقون، وقد مر
أنس بن النضر، ووجد قوما خارت عزائمهم فقال لهم: يا قوم، إن كان
محمد قتل فإن رب
محمد حي لا يموت، وما تصنعون بالحياة بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقاتلوا على ما قاتل عليه، وموتوا على ما مات عليه. . اللهم أعذر إليك مما يقول هؤلاء، وأبرأ إليك مما جاء به هؤلاء، ثم شد بسيفه فقاتل حتى قتل. وقد مر بعض المهاجرين بأنصاري يتشحط في دمه، فقال له: أشعرت أن
محمدا قد قتل؟ فقال: إن كان قد قتل فقد بلغ، فقاتلوا على دينكم، ولقد صاح بعض المجاهدين في وسط ذلك البلاء: يا معشر المؤمنين، إن كان
محمد قد أصيب أفلا تمضون على ما مضى عليه نبيكم حتى تلحقوا به.
[ ص: 1433 ] وبهذا يتبين أن المحاربين كانوا فريقين: أحدهما رعب واضطرب، والثاني ثبت وجاهد، ولقد ذكر الله حال الفريقين، ومقام كل واحد من الحق ودعوته فقال تعالت كلماته في الفريق الأول:
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=144ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا أي: ومن ينقلب على عقبيه بعد وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - فلن يضر دين الله- تعالى- في شيء، ولأن دين الله تعالى بعد أن بلغ النبي رسالة ربه، وأكمل البيان لهذا الدين، قد ظهر وصار حقيقة ثابتة في الوجود، فلا عبرة بمن يخرج، كما قال تعالى:
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=54من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين
وفى هذا تنبيه إلى ثلاثة أمور:
أولهما: أن من يجاهد عليه أن يجاهد لحقيقة من الحقائق الثابتة الخالدة التي لا تفنى ولا تنتهي، ولا يقاتل لأجل الأشخاص الذين ينتهون ويفنون، فالمعاني خالدة، والأشخاص ميتون.
الثانية: أن
nindex.php?page=treesubj&link=9951من يفسد قلبه فيرتد بعد إيمان ويكفر بعد يقين، لا يضر دين الله بل يضر نفسه؛ لأن الضال المضل يضر نفسه قبل أن يضر غيره.
ثالثها: إخبار الله تعالى بأن هذا الدين خالد ثابت باق إلى يوم القيامة؛ لأنه سبحانه قد قرر أنه لا يضره من يخرج عنه أو يمرق عن أحكامه، أو يتركها مستهينا، فإن للإسلام ربا يحميه، ورجالا صدقوا ما عاهدوا الله عليه. ثم بين سبحانه من بعد ذلك جزاء الصابرين الذين لم يرعبوا ولم يضطربوا، فقال سبحانه: " وسيجزي الله الشاكرين " .
أي: وسيجزي الله سبحانه وتعالى الذين صبروا في هذه الشديدة وشكروا الله- تعالى- في السراء والضراء، فلم يزعجهم البلاء كما لم تبطرهم النعماء، فصفة الشكر كصفة الصبر كلتاهما تظهر في السراء والضراء معا، فالصبر يكون في النعمة بالقيام بحقها، وفي الكريهة باحتمالها، من غير تململ وتضجر.
[ ص: 1434 ] وقد يقول قائل لماذا عبر هنا بالشاكرين ولم يعبر بالصابرين، والصبر هنا هو الأظهر؟ فنقول: إن الشكر في هذا المقام هو أعلى درجات الصبر، وذلك أنهم لم يحتملوا البلاء فقط، بل تجاوزوا حد الصبر إلى حد الشكر على هذه الشديدة، فالشكر هنا صبر وزيادة، وقليل من يكون على هذه الشاكلة، ولذا قال تعالى:
nindex.php?page=tafseer&surano=34&ayano=13وقليل من عبادي الشكور
وإنا نضرع إلى الله تعالى أن يجعلنا من الصابرين في البلاء، الشاكرين في الضراء والسراء معا، إنك سميع الدعاء.
nindex.php?page=treesubj&link=19605_29396_30794_30798_31791_32484_34221_28974nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=144وَمَا مُحَمَّدٌ إِلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ تَقْرِيرٌ لِحَقِيقَةٍ ثَابِتَةٍ وَأَمْرٍ وَاقِعٍ، وَهُوَ أَنَّ
مُحَمَّدًا بَشَرٌ مِنَ الْبَشَرِ، وَأَنَّهُ يَمُوتُ كَمَا يَمُوتُ سَائِرُ الْبَشَرِ، وَقَدْ قَرَّرَ هَذِهِ الْحَقِيقَةَ وَمَعَهَا دَلِيلُهَا، وَذَلِكَ بِبَيَانِ حَقِيقَتَيْنِ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا تَصْلُحُ مُقَدِّمَةً فِي دَلِيلٍ لِإِثْبَاتِ أَنَّهُ مَيِّتٌ لَا مَحَالَةَ كَمَا قَالَ تَعَالَى:
nindex.php?page=tafseer&surano=39&ayano=30إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ
الْحَقِيقَةُ الْأُولَى أَوِ الْمُقَدِّمَةُ الْأُولَى:
nindex.php?page=treesubj&link=31791أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولٌ فَقَطْ فَلَيْسَ أَكْبَرَ مِنْ رَسُولٍ، وَلِذَا قَالَ تَعَالَى:
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=144وَمَا مُحَمَّدٌ إِلا رَسُولٌ أَيْ: لَيْسَ لَهُ صِفَةٌ تُمَيِّزُهُ عَلَى النَّاسِ إِلَّا الرِّسَالَةُ، وَالْحَقِيقَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=32028الرِّسَالَةَ لَا تَقْتَضِي الْبَقَاءَ، فَقَدْ مَضَى رُسُلٌ مِنْ قَبْلِهِ وَمَاتُوا، وَقَدْ قَرَّرَهَا سُبْحَانَهُ بِقَوْلِهِ:
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=144قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ
وَمِنْ مَجْمُوعِ الْحَقِيقَتَيْنِ يَثْبُتُ أَنَّ
مُحَمَّدًا سَيَمُوتُ؛ لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ لَيْسَ إِلَّا رَسُولًا، وَالرُّسُلُ مِنْ قَبْلِهِ قَدْ مَاتُوا، فَهُوَ سَيَمُوتُ لَا مَحَالَةَ.
وَإِذَا كَانَ مُحَمَّدٌ سَيَمُوتُ لَا مَحَالَةَ فَإِنَّ رِسَالَتَهُ لَا تَمُوتُ مِنْ بَعْدِهِ، وَلَا يَصِحُّ أَنْ يَنْقَلِبَ الْمُؤْمِنُونَ مِنْ بَعْدِهِ، بَلْ عَلَيْهِمْ أَنْ يَحْمِلُوا الْعِبْءَ مِنْ بَعْدِهِ، وَقَدْ بَلَّغَ
[ ص: 1432 ] رِسَالَاتِ رَبِّهِ، وَأَتَمَّ بَيَانَ دَيْنِهِ، وَلِذَا وَبَّخَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا كَانَ مِنْهُمْ يَوْمَ أُحُدٍ إِذْ ذَاعَ فِي وَسَطِهِمْ أَنَّ
مُحَمَّدًا قَدْ قُتِلَ، فَقَالَ تَعَالَى:
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=144أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ
الْفَاءُ هُنَا لِتَرْتِيبِ مَا بَعْدَهَا عَلَى مَا قَبْلَهَا، أَوْ لِلْإِفْصَاحِ عَنْ شَرْطٍ مُقَدَّرٍ، وَالِاسْتِفْهَامُ لِلتَّوْبِيخِ، وَالْمَعْنَى: أَإِذَا مَاتَ وَقَدْ عَلِمْتُمْ أَنَّ مَوْتَهُ حَقٌّ لَا رَيْبَ فِيهِ، أَوْ قُتِلَ فِي الْمَيْدَانِ وَالْقَتْلُ طَرِيقٌ مِنْ طُرُقِ الْمَوْتِ، انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ، أَيْ عُدْتُمْ كُفَّارًا بَعْدَ أَنْ آمَنْتُمْ، وَعُبَّادَ أَوْثَانٍ بَعْدَ أَنْ صِرْتُمْ مِنْ أَهْلِ التَّوْحِيدِ، وَضُلَّالًا بَعْدَ أَنِ اهْتَدَيْتُمْ، وَالتَّعْبِيرُ عَنْ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=144انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَصْوِيرٌ سَامٍ لِمَنْ ضَلَّ بَعْدَ أَنِ اهْتَدَى، فَهُوَ تَصْوِيرٌ لِمَنْ يَرْجِعُ إِلَى الْوَرَاءِ وَبَصَرُهُ إِلَى الْأَمَامِ، وَأَعْقَابُهُ هِيَ الَّتِي تَقُودُهُ، وَهُوَ مُنَكَّسٌ جَعَلَ رَأْسَهُ فِي أَسْفَلَ وَعَقِبَهُ فِي أَعْلَى، وَذَلِكَ أَقْبَحُ مَنْظَرٍ يَكُونُ لِلْإِنْسَانِ.
وَلَكِنْ هَلْ وَقَعَ ذَلِكَ الضَّلَالُ أَوْ كَانَ مَا يَدُلُّ عَلَى احْتِمَالِ وُقُوعِهِ. يُرْوَى فِي ذَلِكَ أَنَّ
عَبْدَ اللَّهِ بْنَ قَمِئَةَ
الْحَارِثِيَّ أَقْبَلَ يُرِيدُ قَتْلَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَتَصَدَّى لَهُ
nindex.php?page=showalam&ids=104مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ حَامِلُ رَايَةِ الْمُؤْمِنِينَ فَقَتَلَهُ الْمُشْرِكُ، وَظَنَّ أَنَّهُ الرَّسُولُ فَأَذَاعَ ذَلِكَ فِي الْمُشْرِكِينَ، وَانْتَقَلَ الْخَبَرُ إِلَى بَعْضِ الْمُؤْمِنِينَ، إِذْ قَدِ اخْتَلَطَ الْحَابِلُ بِالنَّابِلِ، فَرُوِّعَتْ قُلُوبُ بَعْضِ الْمُسْلِمِينَ وَوَلَّوْا مُدْبِرِينَ، وَانْطَلَقَ الْمُنَافِقُونَ يَقُولُونَ: لَوْ كَانَ نَبِيًّا مَا قُتِلَ، وَثَبَتَ الْمُؤْمِنُونَ الصَّادِقُونَ، وَقَدْ مَرَّ
أَنَسُ بْنُ النَّضْرِ، وَوَجَدَ قَوْمًا خَارَتْ عَزَائِمُهُمْ فَقَالَ لَهُمْ: يَا قَوْمُ، إِنْ كَانَ
مُحَمَّدٌ قُتِلَ فَإِنَّ رَبَّ
مُحَمَّدٍ حَيٌّ لَا يَمُوتُ، وَمَا تَصْنَعُونَ بِالْحَيَاةِ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَقَاتِلُوا عَلَى مَا قَاتَلَ عَلَيْهِ، وَمُوتُوا عَلَى مَا مَاتَ عَلَيْهِ. . اللَّهُمَّ أَعْذِرُ إِلَيْكَ مِمَّا يَقُولُ هَؤُلَاءِ، وَأَبْرَأُ إِلَيْكَ مِمَّا جَاءَ بِهِ هَؤُلَاءِ، ثُمَّ شَدَّ بِسَيْفِهِ فَقَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ. وَقَدْ مَرَّ بَعْضُ الْمُهَاجِرِينَ بِأَنْصَارِيٍّ يَتَشَحَّطُ فِي دَمِهِ، فَقَالَ لَهُ: أَشْعَرْتَ أَنَّ
مُحَمَّدًا قَدْ قُتِلَ؟ فَقَالَ: إِنْ كَانَ قَدْ قُتِلَ فَقَدْ بَلَّغَ، فَقَاتِلُوا عَلَى دِينِكُمْ، وَلَقَدْ صَاحَ بَعْضُ الْمُجَاهِدِينَ فِي وَسَطِ ذَلِكَ الْبَلَاءِ: يَا مَعْشَرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنْ كَانَ
مُحَمَّدٌ قَدْ أُصِيبَ أَفَلَا تَمْضُونَ عَلَى مَا مَضَى عَلَيْهِ نَبِيُّكُمْ حَتَّى تَلْحَقُوا بِهِ.
[ ص: 1433 ] وَبِهَذَا يَتَبَيَّنُ أَنَّ الْمُحَارِبِينَ كَانُوا فَرِيقَيْنِ: أَحَدُهُمَا رَعَبَ وَاضْطَرَبَ، وَالثَّانِي ثَبَتَ وَجَاهَدَ، وَلَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ حَالَ الْفَرِيقَيْنِ، وَمَقَامَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْحَقِّ وَدَعْوَتِهِ فَقَالَ تَعَالَتْ كَلِمَاتُهُ فِي الْفَرِيقِ الْأَوَّلِ:
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=144وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا أَيْ: وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ بَعْدَ وَفَاةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَنْ يَضُرَّ دِينَ اللَّهِ- تَعَالَى- فِي شَيْءٍ، وَلِأَنَّ دِينَ اللَّهِ تَعَالَى بَعْدَ أَنْ بَلَّغَ النَّبِيُّ رِسَالَةَ رَبِّهِ، وَأَكْمَلَ الْبَيَانَ لِهَذَا الدِّينِ، قَدْ ظَهَرَ وَصَارَ حَقِيقَةً ثَابِتَةً فِي الْوُجُودِ، فَلَا عِبْرَةَ بِمَنْ يَخْرُجُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=54مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ
وَفَى هَذَا تَنْبِيهٌ إِلَى ثَلَاثَةِ أُمُورٍ:
أَوَّلُهُمَا: أَنَّ مَنْ يُجَاهِدُ عَلَيْهِ أَنْ يُجَاهِدَ لِحَقِيقَةٍ مِنَ الْحَقَائِقِ الثَّابِتَةِ الْخَالِدَةِ الَّتِي لَا تَفْنَى وَلَا تَنْتَهِي، وَلَا يُقَاتِلُ لِأَجْلِ الْأَشْخَاصِ الَّذِينَ يَنْتَهُونَ وَيَفْنَوْنَ، فَالْمَعَانِي خَالِدَةٌ، وَالْأَشْخَاصُ مَيِّتُونَ.
الثَّانِيَةُ: أَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=9951مَنْ يَفْسُدُ قَلْبُهُ فَيَرْتَدُّ بَعْدَ إِيمَانٍ وَيَكْفُرُ بَعْدَ يَقِينٍ، لَا يَضُرُّ دِينَ اللَّهِ بَلْ يَضُرُّ نَفْسَهُ؛ لِأَنَّ الضَّالَّ الْمُضِلَّ يَضُرُّ نَفْسَهُ قَبْلَ أَنْ يَضُرَّ غَيْرَهُ.
ثَالِثُهَا: إِخْبَارُ اللَّهِ تَعَالَى بِأَنَّ هَذَا الدِّينَ خَالِدٌ ثَابِتٌ بَاقٍ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ؛ لِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ قَدْ قَرَّرَ أَنَّهُ لَا يَضُرُّهُ مَنْ يَخْرُجُ عَنْهُ أَوْ يَمْرُقُ عَنْ أَحْكَامِهِ، أَوْ يَتْرُكُهَا مُسْتَهِينًا، فَإِنَّ لِلْإِسْلَامِ رَبًّا يَحْمِيهِ، وَرِجَالًا صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ. ثُمَّ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ جَزَاءَ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ لَمْ يَرْعَبُوا وَلَمْ يَضْطَرِبُوا، فَقَالَ سُبْحَانَهُ: " وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ " .
أَيْ: وَسَيَجْزِي اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الَّذِينَ صَبَرُوا فِي هَذِهِ الشَّدِيدَةِ وَشَكَرُوا اللَّهَ- تَعَالَى- فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ، فَلَمْ يُزْعِجْهُمُ الْبَلَاءُ كَمَا لَمْ تَبْطُرْهُمُ النَّعْمَاءُ، فَصِفَةُ الشُّكْرِ كَصِفَةِ الصَّبْرِ كِلْتَاهُمَا تَظْهَرُ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ مَعًا، فَالصَّبْرُ يَكُونُ فِي النِّعْمَةِ بِالْقِيَامِ بِحَقِّهَا، وَفِي الْكَرِيهَةِ بِاحْتِمَالِهَا، مِنْ غَيْرِ تَمَلْمُلٍ وَتَضَجُّرٍ.
[ ص: 1434 ] وَقَدْ يَقُولُ قَائِلٌ لِمَاذَا عَبَّرَ هُنَا بِالشَّاكِرِينَ وَلَمْ يُعَبِّرْ بِالصَّابِرِينَ، وَالصَّبْرُ هُنَا هُوَ الْأَظْهَرُ؟ فَنَقُولُ: إِنَّ الشُّكْرَ فِي هَذَا الْمَقَامِ هُوَ أَعْلَى دَرَجَاتِ الصَّبْرِ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ لَمْ يَحْتَمِلُوا الْبَلَاءَ فَقَطْ، بَلْ تَجَاوَزُوا حَدَّ الصَّبْرِ إِلَى حَدِّ الشُّكْرِ عَلَى هَذِهِ الشَّدِيدَةِ، فَالشُّكْرُ هُنَا صَبْرٌ وَزِيَادَةٌ، وَقَلِيلٌ مِنْ يَكُونُ عَلَى هَذِهِ الشَّاكِلَةِ، وَلِذَا قَالَ تَعَالَى:
nindex.php?page=tafseer&surano=34&ayano=13وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ
وَإِنَّا نَضْرَعُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى أَنْ يَجْعَلَنَا مِنَ الصَّابِرِينَ فِي الْبَلَاءِ، الشَّاكِرِينَ فِي الضَّرَّاءِ وَالسَّرَّاءِ مَعًا، إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ.