[ ص: 1680 ] الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل ويكتمون ما آتاهم الله من فضله
وإن من صفة هؤلاء المختالين أنهم بخلاء، ويحرضون الناس على البخل، ويكتمون ما أعطاهم الله من فضله. والبخل أن يضن الشخص في مواضع الخير، فليس البخل مرادفا للاستمساك بالمال، إذ إن في لسان الشرع والعقل، كما أن الإنفاق في الشر والضن على الخير يسمى بخلا فتبرع الإنفاق في سبيل البر مهما يكثر لا يكون إسرافا، بكل ماله في الحرب لا يسمى إسرافا، ومثل ذلك تبرع أبي بكر رضي الله عنه بالشطر من ماله، وكذلك تبرع عمر بالأموال الضخمة للمسلمين، ولهذا روي عن عثمان : " درهم في الشر إسراف وألف في الخير ليس بإسراف " فلا غرابة إذن إذا وجدنا المختالين، ينفقون الألوف في المظاهر والاستعلاء، ومع ذلك وصفهم الله تعالى بالبخل، ولا تناقض بين وصفهم بالبخل، وكونهم مثل الذين ينفقون رئاء الناس؛ لأن كلا الوصفين ينبع من نفس واحدة، وهي الشح في الخير. عبد الله بن عباس
ودأب هؤلاء أن يبخلوا وأن يحرضوا على طريقهم الذي سلكوه، ويسخروا ممن يؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة؛ لأنهم في بيعتهم لا يحسون إلا بأنفسهم، ولا يؤمنون بحق الغير عليهم.
وقوله تعالى: ويكتمون ما آتاهم الله من فضله المراد بها كتمان المال في موضع البر، فهم أشحة على الخير يحسبونه مفنيا لمالهم، فيكتمون ما أعطاهم الله من مال بفضله، وعلى هذا سار بعض المفسرين، وحجته أن الكلام في المال، فالكتمان فيه.
وقال آخرون: إن المراد الذي أوتوه بفضل الله عليهم، وإرسال رسل كثيرين فيهم، ويكون النص في اليهود؛ لأنهم يتصفون بكل هذا، ويرشح لذلك قوله تعالى في ختام الآية: كتمان العلم وأعتدنا للكافرين عذابا مهينا وأرى أن يفسر الكتمان تفسيرا عاما يشمل العلم والمال. [ ص: 1681 ] وقوله تعالى: وأعتدنا للكافرين عذابا مهينا معناه: وهيأنا للجاحدين لرسالة محمد -صلى الله عليه وسلم- ولوحدانية الله تعالى عذابا يهينهم ويذلهم، فإذا كانوا قد استكبروا وطغوا واستعلوا واختالوا في الدنيا، وهي متاع قليل، فالذل الدائم والهوان المستمر لهم في الآخرة.
وتعقيب هذا النص السامي للأوصاف السابقة يشير إلى أن تلك الأوصاف أوصاف الكافرين الجاحدين بنعيم الله، لا أوصاف المؤمنين المقربين بأنعمه، وقد وصف سبحانه أمثال هؤلاء بقوله:
* * *