[ ص: 215 ] nindex.php?page=treesubj&link=18470_28328_31912_31931_32215_32421_32438_28973nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=44أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون nindex.php?page=treesubj&link=19570_25353_842_28973nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=45واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين nindex.php?page=treesubj&link=30179_30347_34513_28973nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=46الذين يظنون أنهم ملاقو ربهم وأنهم إليه راجعون nindex.php?page=treesubj&link=32419_28973nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=47يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأني فضلتكم على العالمين nindex.php?page=treesubj&link=19860_30180_30311_30364_30497_30525_34100_28973nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=48واتقوا يوما لا تجزي نفس عن نفس شيئا ولا يقبل منها شفاعة ولا يؤخذ منها عدل ولا هم ينصرون )
* * *
هذا خطاب لبني إسرائيل في أمر يفعله علماؤهم ، ويرضى به سائرهم ، فيلامون جميعا عليه ، وهو خطة يسير عليها أسلافهم ، ويرضى عنها أخلافهم ، فصح أن يخاطب بها جميعهم ، إذ هو عيب فيهم سلفا وخلفا ، وهو عيب الناس إذا ضعف وازع الدين ، وغلب عليهم حب الدنيا ، وهو أن يأمروا الناس بالحقائق الدينية ، ويدعونهم إليها ، ولا يأخذون بهديها ، وتلك إحدى صفات النفاق ، وهي شأن الذين يلبسون الحق بالباطل ، ويكتمون ما أنزل الله تعالى ، فيكون قولهم مخالفا لفعلهم
nindex.php?page=tafseer&surano=61&ayano=3كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون .
كان أحبار اليهود في كل أدوارهم عندما صار التدين شكلا لا روح فيه ، ومظهرا لا حقيقة له كانوا يذكرون للناس حقائق دينية ، لا يعملون بها ، ويعلنون أمورا في نجواهم ينكرونها في جهرهم ، فكانوا يقررون أن أوصاف النبي - صلى الله عليه وسلم - في كتبهم ، وينكرونها أمام النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه لكيلا يحاجوهم بها عند ربهم ، وكأنه سبحانه وتعالى لا يعلم خفي أمرهم .
ولذا خاطبهم الله سبحانه وتعالى مستنكرا تلك الحال فيهم ، لأن من فعلها منهم لم ينكرها سائرهم ، والاستفهام هنا إنكاري لإنكار الواقع ، أي أنه كان منهم ،
[ ص: 216 ] ويستنكره الله تعالى عليهم ، وإنكار الواقع توبيخ ، وبيان أنه لا يصح ، ولا ينبغي أن يكون ، والبر هو الخير ، وهو ضد الإثم ، والنبي - صلى الله عليه وسلم - عرف الإثم بأنه "
nindex.php?page=hadith&LINKID=661640ما حاك في صدرك وكرهت أن يطلع عليه الناس " .
والنص استنكار لحالهم من أنهم يأمرون الناس بالخير ، وينسون أنفسهم ، أي يتركونها من غير توجيه إليه ، ويكونون بمنزلة من ينسونها ، ولا يفكرون في أمرها ، مع أن دواعي التذكير والتفكر في ذات أنفسهم قائمة لأنهم يتلون الكتاب ; ولذلك قال تعالى في هذا النص السامي :
[ ص: 217 ] nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=44وأنتم تتلون الكتاب أي وأنتم تجددون تلاوته آنا بعد آن ، فالاستنكار للحال التي يجتمع فيها الأمر بالخير والحث عليه مع ترك أنفسهم لا تفعلها ، وكأنهم نسوها ولم يذكروها ، والذكر دائم مستمر ، وليس الاستنكار للبر مجردا عما لابسه من حالهم ، لأن الأمر بالبر في ذاته ليس بمستنكر ، ولا يمكن أن يكون مستنكرا ; لأنه دعوة إلى الحق ، ولا تنكر الدعوة إلى الحق في ذاتها .
وإن حالهم من دعوة إلى الحق مع نسيان أنفسهم ، وتركه مع استمرار التذكير به ، وكان ينبغي مع التذكير التذكر - لا يغفله الذين يفكرون ويعملون عقولهم ; ولذا قال سبحانه :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=44أفلا تعقلون والاستفهام هنا للتنبيه إلى مناقضة حالهم للعقل المدرك .
والعقل مصدر عقل بمعنى منع ، ثم أطلق على ما يكون به الإدراك السليم لأنه يمنعه من القبيح ، ويعقله ويقصره على الجميل ، ومعنى الاستفهام ، أن حالهم هي حال من لا عقل له ولا إدراك ، و (أفلا ) هنا - كما ذكرنا - للاستفهام والتنبيه إلى نفي ما وراءه ، والفاء فاء السببية أي بسبب هذه الحال يحكم عليهم بأنهم لا يعقلون ، وأخرت الفاء عن الهمزة لأن الاستفهام له الصدارة ، فهي مؤخرة عن تقديم .
[ ص: 218 ] وقد أشرنا إلى أن المستنكر هو الحال المجتمعة من دعوة إلى الخير وعدم العمل مع التذكير الدائم ، أما الأمر نفسه فلا إنكار فيه ، وقد تكلم الناس في أن
nindex.php?page=treesubj&link=20198من وقع في المعاصي أيجوز له أن ينهى عنها ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ، أم يطهر نفسه من المعاصي ، ثم يتولى الإرشاد ؟
إن الحق أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب بنفسه ، تركه معصية كغيره ، ووقوعه في معاص غيره لا يسوغ له أن يتركه ، فيقع في معصية الترك ، نعم إن الموعظة نصابها الألفاظ ، كما قال
nindex.php?page=showalam&ids=14847الغزالي في إحدى رسائله ، ولكن الموعظة في ذاتها لا تحتاج إلى نصاب ، وقد قال سعيد بن جبير التابعي ، الشهيد في الحق الآمر بالمعروف : إذا كان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يكون ممن يقع في معصية ، فلن يكون هناك داع إلى الخير . ولكن مع ذلك يجب أن يروض المؤمن نفسه دائما على ألا ينهى عن أمر يقع هو فيه ، فيمتنع عن النهي عن المنكر ، ولكن يمتنع عن أن يقع فيما نهى عنه ، كما حكى الله عن نبيه
شعيب عليه السلام :
nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=88وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب .
وإن الواعظ الذي لم يكن يتعظ بوعظه يحاسب على إهماله بأكثر مما يحاسب عليه غيره ، ويحاسب أشد من كان يعلم الحق ولا ينطق به ، فيحرم الموعظة والاتعاظ ويحاسب من بعد حسابا عسيرا ، ولقد روي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "
إن الله يعافي الأميين يوم القيامة ما لا يعافي العلماء " وروي : أنه "
يغفر للجاهل سبعين حين يغفر للعالم مرة واحدة ، ليس من يعلم كمن لا يعلم " .
[ ص: 219 ] هذه عيوب من يأمرون بالخير ، ولا يأتمرون به ومن ينهون عن الشر ، ولا ينتهون عنه ، ولكن كيف تربى النفس على أن تكون متعظة قبل أن تعظ ؟ ذكر الله سبحانه وتعالى الدواء ; وهو الصبر ، والصلاة ، فقال تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=45واستعينوا بالصبر والصلاة الاستعانة طلب العون ، والمساعدة ، وفي استعمال القرآن أنها إذا كانت للمعين تعدت بغير باء ، كقوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=1&ayano=5وإياك نستعين ، وفي الدعاء "
اللهم إنا نستعينك ونستهديك ونستغفرك ونتوب إليك " ، وإذا كانت الاستعانة بما تكون به الإعانة كانت بالباء ، فيقال نستعين بكذا لفعل كذا ، وهكذا نجد بالاستقراء استعمال القرآن .
وهنا الاستعانة بشيء ولذا تعدت بالباء فقال تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=45واستعينوا بالصبر والصلاة أي استعينوا على تربية نفوسكم لتكون متعظة فاعلة الخير ، آمرة به ولا يتجافى فعلها عن قولها .
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=45بالصبر والصلاة والصبر ضبط النفس وسيطرة الإرادة ، على الهوى ، وسيطرة العقل على الشهوة ، فإنه إذا سيطرت الإرادة والعقل والفكر المستقيم انقمعت الشهوات ، وإذا انقمعت استقامت النفس ، وكان التنسيق بين القول والعمل ، وقذف الله في القلب بنور الحكمة ، والقول الطيب ، والعمل ، وكل ما في الحياة يحتاج إلى الصبر ، فالجهاد قوته في الصبر ، وكما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=651203إنما الصبر عند الصدمة الأولى " ، ونقص الأموال والأنفس والثمرات إنما يكون بالصبر . كما قال تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=155ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=156الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون .
ويقول الفاروق الإمام
nindex.php?page=showalam&ids=2عمر بن الخطاب رضي الله عنه : الصبر صبران صبر على المصيبة ، وهو حسن ، وصبر عن المعاصي وهو أحسن . فالصبر على المعاصي ، هو السيطرة على الأهواء والشهوات ، وهو تهذيب النفس وتقويمها .
[ ص: 220 ] هذه كلمات موجزات في الصبر ، وهو طريق السيطرة على النفس ; ولذا أمرنا الله تعالى بالاستعانة به .
أما الصلاة فإنها بما اشتملت عليه من ركوع وسجود وقراءة ، وخشوع ، واستحضار لعظمة الله تعالى وإحساس بأنه في حضرته وواقف بين يديه سبحانه وتعالى تنفعل نفسه في وجودها بحضرته ، بأوامره ، ونواهيه ، وطلب مرضاته . ولقد قال تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=29&ayano=45اتل ما أوحي إليك من الكتاب وأقم الصلاة إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ولذكر الله أكبر ولقد
nindex.php?page=hadith&LINKID=673047كان النبي - صلى الله عليه وسلم - " إذا حزبه أمر صلى " nindex.php?page=hadith&LINKID=679962وكان يأمر بالصلاة ، من كان به وجع ليصبر وينسى ألمه ، فيقول - صلى الله عليه وسلم - : " قم فصل فإن الصلاة شفاء " لأنه يكون في مناجاة بينه وبين ربه ، فينسى الدنيا وما فيها ينسى ألمه ووجعه ، وهمومه .
وإن الصبر والصلاة تجعلان النفس تتغلب على المحن ، كما تتغلب على الإحن ، فيلقى الله تعالى بقلب سليم ، قال تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=41&ayano=34ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم nindex.php?page=tafseer&surano=41&ayano=35وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم .
وإن
nindex.php?page=treesubj&link=24589_28680_19572الاستعانة بالصبر والصلاة ليست أمرا هينا لينا ، ولكنها أمر عظيم خطير ، لا يتلقاها إلا النفوس القوية ذات العزيمة الحازمة ; ولذا قال تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=45واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين .
الضمير في قوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=45وإنها قيل إنه يعود إلى الضمير المنسبك من (استعينوا بالصبر والصلاة ) ، لأن الصبر والصلاة الحقيقية أمران كبيران خطيران
[ ص: 221 ] عظيمان يسيران بالنفس في مدارج الكمال النفسي والروحاني ، فيكون الانسجام بين القول والعمل ، ولكن قد يقال إن المصدر غير موجود ، والضمير يعود إلى أقرب مذكور ، فعوده إلى الصلاة أقرب وأظهر ، ولذلك قال الأكثرون إنه يعود إلى الصلاة .
ولا شك أن الصلاة إذا أديت على وجهها باستحضار عظمة الله والشعور بأنه في حضرته سبحانه وتعالى ، حتى كأنه يراه ويخاطبه بقرآنه عندما يتلو آياته ، وأنه عندما يقول : إياك نعبد ، وإياك نستعين يحس بأنه في حضرته ، وأنه يخاطبه ، وأنه يناجيه ، فمقام
nindex.php?page=tafseer&surano=1&ayano=5إياك نعبد وإياك نستعين ، مقام لا يندرج فيه إلا الخاشعون .
والخاشع هو الخاضع المتطامن الساكن الذي لا يتحرك لشهوة ، والخشوع مظهر الخضوع الذي يظهر في الأعضاء والجوارح ، ولذلك يسند إليها فيقول تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=20&ayano=108وخشعت الأصوات للرحمن فلا تسمع إلا همسا ، فالخشوع خضوع كامل في النفس والجسم ، وأصله في القلب ; قال
nindex.php?page=showalam&ids=2عمر لشاب قد نكس رأسه فقال له : " يا هذا ارفع رأسك فإن الخشوع ما في القلب " . وقال
nindex.php?page=showalam&ids=8علي كرم الله وجهه : الخشوع في القلب ، وأن تلين نفسك للمرء المسلم ، وألا تلتفت في صلاتك .
وقد ذكر سبحانه أثر الخشوع في القلب والعقل والنفس ، فقال تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=46الذين يظنون أنهم ملاقو ربهم وأنهم إليه راجعون .
عرف الله سبحانه وتعالى الخاشعين بأخص صفات المؤمن ، وهو الإيمان بالغيب ، لأنه فرق بين الإيمان والإسلام والزندقة ، وإن أبلغ الإيمان بالغيب تأثيرا في النفس الخاشعة الإيمان بلقاء الله تعالى الذي يجازي المحسن بإحسانه ، والمسيء بجزاء ما يعمل ، ولذلك ذكر إيمان الخاشعين بلقاء الله تعالى فقال تبارك وتعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=46الذين يظنون أنهم ملاقو ربهم الظن يطلق بمعنى العلم الراجح ، ومن ذلك قوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=45&ayano=32إن نظن إلا ظنا وما نحن بمستيقنين ، ويستعمل الظن بمعنى اليقين :
nindex.php?page=tafseer&surano=18&ayano=53ورأى المجرمون النار فظنوا أنهم مواقعوها ولم يجدوا عنها مصرفا ، وقوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=69&ayano=20إني ظننت أني ملاق حسابيه .
والظن بمعنى العلم اليقيني ، ولكن التعبير عن العلم بالظن يفيد مع اليقين توقع الأمر المعلوم ، فمعنى
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=46الذين يظنون أنهم ملاقو ربهم ، أنهم يتوقعون هذا اللقاء وقتا بعد آخر ، فهم يؤمنون إيمانا صادقا بلقاء الله ، ويترقبون ذلك اللقاء ، وينتظرونه متوقعين له ، فيقينهم يقين المتوقع المترقب ، فيكون في قلوبهم دائما ويستعدون له بعمل صالح يقدمونه رجاء أن يغفر لهم وأن يتغمدهم برحمته ، ويكفر عنهم سيئاتهم .
والتعبير بـ (ربهم ) فيه شعور بنعمه تعالى عليهم ، لأنه هو الذي رباهم وأنشأهم وتعهدهم في الوجود ، كما يتعهد المزارع زرعه بالسقي والإصلاح .
ويؤمنون مستيقنين متوقعين أنهم إليه وحده راجعون ، وتقديم (إليه ) للدلالة على أنه وحده الذي يرجعون إليه ويجزيهم بالإحسان إحسانا وأنه الغفور الرحيم .
هذا الذي مضى من القول الكريم من قوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=44أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم خطاب لبني إسرائيل الحاضرين منهم والماضين باعتباره واقعا منهم في حاضرهم وماضيهم ، وهو يصلح خطابا لبني إسرائيل وغيرهم لما فيه من توجيه وتهذيب وإصلاح بين الناس ، وبه تستقيم أمورهم في معاشهم ومعادهم .
ذكر الله تعالى بعد ذلك بني إسرائيل بنعمه عليهم ، فقال تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=47يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأني فضلتكم على العالمين .
[ ص: 222 ] تكلمنا في ماضي قولنا في معنى النداء بيا بني إسرائيل ، وأشرنا إلى النعم التي أنعم الله بها على بني إسرائيل ، وقد ذكر نعمة لم يذكرها سبحانه وتعالى فيما مضى من قوله الحكيم ، وهو أنه سبحانه وتعالى فضلهم على العالمين ، والعالمون جمع عالم كما ذكر من قبل ، ويراد أهل العقل والتفكير في هذه الأرض .
والتفضيل ليس تفضيل ذواتهم على غيرهم كما توهموا هم ، ودلاهم غرورهم ، فزعموا أنهم صنف الله المختار ، ودلوا على الناس بذلك بل دلوا على الله تعالى وقالوا نحن أبناء الله وأحباؤه ، وأكلوا الحقوق ، وعاملوا غيرهم بكل أمر ليس فيه خلق ولا دين ، وقالوا ليس علينا في الأميين سبيل .
ليس التفضيل لذواتهم إنما الفضل الذي اختصهم الله تعالى به في جيلهم أنه جيل فيهم أنبياء ، ودعاهم أولئك الأنبياء إلى التوحيد لله سبحانه وتعالى ، فقد كانوا موحدين كما دعاهم
موسى ومن جاء بعده من الأنبياء في وسط وثنيين ، فكان كل من حولهم وثنيين ; فالمصريون وثنيون يعبدون الشمس ومن دونها ،
والفرس يعبدون النيران ،
والروم يعبدون الأوثان ، واليونان من قبلهم على شاكلتهم ، والبابليون يعبدون الكواكب ، وهكذا كان جيلهم الأول جيل موسى ، وحين نزول التوراة على
موسى .
اختارهم الله تعالى أن يكونوا قوم
موسى ، وأن يكون التوحيد فيهم ، وكان مقامهم يمكنهم من أن يدعوا إلى التوحيد ; لأنهم كان مقامهم في وسط تلك الأراضي التي كان يسكنها الوثنيون .
وإن ذلك التفضيل نعمة أنعم الله تعالى بها عليهم ، وأنها توجب شكرا ، وتحملهم تكليفا ، أما الشكر فلأن شكر النعم واجب بحكم العقل ، وبحكم التكليف الإلهي وقد كفروا بأنعم الله تعالى ، وأما التكليف الذي حملوه فهو الدعوة إلى الوحدانية ولم يقوموا بحقها ، بل إنهم اعتبروا اليهودية جنسا ، ومن دخل معهم في
[ ص: 223 ] ديانة
موسى عليه السلام من غيرهم كالسامرة لم يعترفوا به ، وبذلك ضلوا ضلالا ولقد أخذ بعد ذلك سبحانه يذكر موجبات التفضيل وغايته فقال تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=48واتقوا يوما لا تجزي نفس عن نفس شيئا ولا يقبل منها شفاعة ولا يؤخذ منها عدل ولا هم ينصرون .
(واتقوا ) أي اجعلوا لكم وقاية تقيكم عذاب يوم شديد الهول ، فيه العذاب الشديد ، ولا ينفع نفسا إيمانها إن لم تكن آمنت من قبل ، وهو يوم القيامة ، وقال سبحانه : (يوما ) بالتنكير لتذهب النفس مذاهب شتى في تصوير هوله ، والإبهام وحده يوجد رهبة ، ويشعر بالتهويل ، وبأنه لا يحد عذابه وصف ، ولا هوله ذكر ، وإن ذلك اليوم الذي اتقاؤه بالعمل الصالح والقيام بالحقوق التي للغير ، وأداء الواجبات التي عليه ، يتقدم فيه الإنسان منفردا إلا من عمله ، لا يجزيه إلا عمله إن خيرا فخير ، ولا تجزى فيه نفس عن نفس شيئا ، أي لا يجزي عمل نفس عن نفس شيئا من الجزاء ، فيقدر في قوله لا تجزي نفس عن نفس أي عمل نفس عن نفس أخرى ، أو نقول تجزي بمعنى تقضي ، أي لا تقضي نفس عن أخرى أي شيء قل أو جل ، وأن ليس للإنسان إلا ما سعى ، وكل امرئ بما كسب رهين .
وعقب سبحانه وتعالى بما يؤكد أن النفس لا يجزي عنها غيرها ، وأنه لا منفعة إلا من عملها ، فقال تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=48ولا يقبل منها شفاعة والشفاعة من الشفع ، والشافع يضم قوته إلى من يشفع فيه ، فلا يقبل الله تعالى شفاعة من أحد لأحد ، إنما العمل وحده هو الذي ينفع كما قال تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=74&ayano=48فما تنفعهم شفاعة الشافعين ، وإذا كان للأنبياء شفاعة فبأمر الله تعالى وحده
nindex.php?page=tafseer&surano=21&ayano=28ولا يشفعون إلا لمن ارتضى وهم من خشيته مشفقون ،
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=48ولا يؤخذ منها عدل أي لا يؤخذ منها بدل ، فالعدل البدل ، فلا ينجيهم من عذاب شفاعة ولا فدية من العذاب ببدل يدفع ،
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=48ولا هم ينصرون لأنه لا ناصر إلا الله ، لمن الملك اليوم ; لله الواحد القهار .
[ ص: 224 ] أخذ سبحانه وتعالي يذكر النعم التي أنعمها عليهم ، وابتدأ بنعمة الإنقاذ ، فقال تعالى : * * *
[ ص: 215 ] nindex.php?page=treesubj&link=18470_28328_31912_31931_32215_32421_32438_28973nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=44أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ nindex.php?page=treesubj&link=19570_25353_842_28973nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=45وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلا عَلَى الْخَاشِعِينَ nindex.php?page=treesubj&link=30179_30347_34513_28973nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=46الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ nindex.php?page=treesubj&link=32419_28973nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=47يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ nindex.php?page=treesubj&link=19860_30180_30311_30364_30497_30525_34100_28973nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=48وَاتَّقُوا يَوْمًا لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ )
* * *
هَذَا خِطَابٌ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ فِي أَمْرٍ يَفْعَلُهُ عُلَمَاؤُهُمْ ، وَيَرْضَى بِهِ سَائِرُهُمْ ، فَيُلَامُونَ جَمِيعًا عَلَيْهِ ، وَهُوَ خُطَّةٌ يَسِيرُ عَلَيْهَا أَسْلَافُهُمْ ، وَيَرْضَى عَنْهَا أَخْلَافُهُمْ ، فَصَحَّ أَنْ يُخَاطَبَ بِهَا جَمِيعُهُمْ ، إِذْ هُوَ عَيْبٌ فِيهِمْ سَلَفًا وَخَلَفًا ، وَهُوَ عَيْبُ النَّاسِ إِذَا ضَعُفَ وَازِعُ الدِّينِ ، وَغَلَبَ عَلَيْهِمْ حُبُّ الدُّنْيَا ، وَهُوَ أَنْ يَأْمُرُوا النَّاسَ بِالْحَقَائِقِ الدِّينِيَّةِ ، وَيَدْعُونَهُمْ إِلَيْهَا ، وَلَا يَأْخُذُونَ بِهَدْيِهَا ، وَتِلْكَ إِحْدَى صِفَاتِ النِّفَاقِ ، وَهِيَ شَأْنُ الَّذِينَ يُلَبِّسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ ، وَيَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى ، فَيَكُونُ قَوْلُهُمْ مُخَالِفًا لِفِعْلِهِمْ
nindex.php?page=tafseer&surano=61&ayano=3كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ .
كَانَ أَحْبَارُ الْيَهُودِ فِي كُلِّ أَدْوَارِهِمْ عِنْدَمَا صَارَ التَّدَيُّنُ شَكْلًا لَا رُوحَ فِيهِ ، وَمَظْهَرًا لَا حَقِيقَةَ لَهُ كَانُوا يَذْكُرُونَ لِلنَّاسِ حَقَائِقَ دِينِيَّةً ، لَا يَعْمَلُونَ بِهَا ، وَيُعْلِنُونَ أُمُورًا فِي نَجْوَاهُمْ يُنْكِرُونَهَا فِي جَهْرِهِمْ ، فَكَانُوا يُقَرِّرُونَ أَنَّ أَوْصَافَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي كُتُبِهِمْ ، وَيُنْكِرُونَهَا أَمَامَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابِهِ لِكَيْلَا يُحَاجُّوهُمْ بِهَا عِنْدَ رَبِّهِمْ ، وَكَأَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَا يَعْلَمُ خَفِيَّ أَمْرِهِمْ .
وَلِذَا خَاطَبَهُمُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مُسْتَنْكِرًا تِلْكَ الْحَالَ فِيهِمْ ، لِأَنَّ مَنْ فَعَلَهَا مِنْهُمْ لَمْ يُنْكِرْهَا سَائِرُهُمْ ، وَالِاسْتِفْهَامُ هُنَا إِنْكَارِيٌّ لِإِنْكَارِ الْوَاقِعِ ، أَيْ أَنَّهُ كَانَ مِنْهُمْ ،
[ ص: 216 ] وَيَسْتَنْكِرُهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِمْ ، وَإِنْكَارُ الْوَاقِعِ تَوْبِيخٌ ، وَبَيَانُ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ ، وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ ، وَالْبِرُّ هُوَ الْخَيْرُ ، وَهُوَ ضِدُّ الْإِثْمِ ، وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَرَّفَ الْإِثْمَ بِأَنَّهُ "
nindex.php?page=hadith&LINKID=661640مَا حَاكَ فِي صَدْرِكَ وَكَرِهْتَ أَنْ يَطَّلِعَ عَلَيْهِ النَّاسُ " .
وَالنَّصُّ اسْتِنْكَارٌ لِحَالِهِمْ مِنْ أَنَّهُمْ يَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْخَيْرِ ، وَيَنْسَوْنَ أَنْفُسَهُمْ ، أَيْ يَتْرُكُونَهَا مِنْ غَيْرِ تَوْجِيهٍ إِلَيْهِ ، وَيَكُونُونَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ يَنْسَوْنَهَا ، وَلَا يُفَكِّرُونَ فِي أَمْرِهَا ، مَعَ أَنَّ دَوَاعِيَ التَّذْكِيرِ وَالتَّفَكُّرِ فِي ذَاتِ أَنْفُسِهِمْ قَائِمَةٌ لِأَنَّهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ ; وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى فِي هَذَا النَّصِّ السَّامِي :
[ ص: 217 ] nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=44وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَيْ وَأَنْتُمْ تُجَدِّدُونَ تِلَاوَتَهُ آنًا بَعْدَ آنٍ ، فَالِاسْتِنْكَارُ لِلْحَالِ الَّتِي يَجْتَمِعُ فِيهَا الْأَمْرُ بِالْخَيْرِ وَالْحَثُّ عَلَيْهِ مَعَ تَرْكِ أَنْفُسِهِمْ لَا تَفْعَلُهَا ، وَكَأَنَّهُمْ نَسُوهَا وَلَمْ يَذْكُرُوهَا ، وَالذِّكْرُ دَائِمٌ مُسْتَمِرٌّ ، وَلَيْسَ الِاسْتِنْكَارُ لِلْبِرِّ مُجَرَّدًا عَمَّا لَابَسَهُ مِنْ حَالِهِمْ ، لِأَنَّ الْأَمْرَ بِالْبِرِّ فِي ذَاتِهِ لَيْسَ بِمُسْتَنْكَرٍ ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مُسْتَنْكَرًا ; لِأَنَّهُ دَعْوَةٌ إِلَى الْحَقِّ ، وَلَا تُنْكَرُ الدَّعْوَةُ إِلَى الْحَقِّ فِي ذَاتِهَا .
وَإِنَّ حَالَهُمْ مِنْ دَعْوَةٍ إِلَى الْحَقِّ مَعَ نِسْيَانِ أَنْفُسِهِمْ ، وَتَرْكِهِ مَعَ اسْتِمْرَارِ التَّذْكِيرِ بِهِ ، وَكَانَ يَنْبَغِي مَعَ التَّذْكِيرِ التَّذَكُّرُ - لَا يَغْفُلُهُ الَّذِينَ يُفَكِّرُونَ وَيُعْمِلُونَ عُقُولَهُمْ ; وَلِذَا قَالَ سُبْحَانَهُ :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=44أَفَلا تَعْقِلُونَ وَالِاسْتِفْهَامُ هُنَا لِلتَّنْبِيهِ إِلَى مُنَاقَضَةِ حَالِهِمْ لِلْعَقْلِ الْمُدْرِكِ .
وَالْعَقْلُ مَصْدَرُ عَقَلَ بِمَعْنَى مَنَعَ ، ثُمَّ أُطْلِقَ عَلَى مَا يَكُونُ بِهِ الْإِدْرَاكُ السَّلِيمُ لِأَنَّهُ يَمْنَعُهُ مِنَ الْقَبِيحِ ، وَيَعْقِلُهُ وَيَقْصُرُهُ عَلَى الْجَمِيلِ ، وَمَعْنَى الِاسْتِفْهَامِ ، أَنَّ حَالَهُمْ هِيَ حَالُ مَنْ لَا عَقْلَ لَهُ وَلَا إِدْرَاكَ ، وَ (أَفَلَا ) هُنَا - كَمَا ذَكَرْنَا - لِلِاسْتِفْهَامِ وَالتَّنْبِيهِ إِلَى نَفْيِ مَا وَرَاءَهُ ، وَالْفَاءُ فَاءُ السَّبَبِيَّةِ أَيْ بِسَبَبِ هَذِهِ الْحَالِ يُحْكَمُ عَلَيْهِمْ بِأَنَّهُمْ لَا يَعْقِلُونَ ، وَأُخِّرَتِ الْفَاءُ عَنِ الْهَمْزَةِ لِأَنَّ الِاسْتِفْهَامَ لَهُ الصَّدَارَةُ ، فَهِيَ مُؤَخَّرَةٌ عَنْ تَقْدِيمٍ .
[ ص: 218 ] وَقَدْ أَشَرْنَا إِلَى أَنَّ الْمُسْتَنْكَرَ هُوَ الْحَالُ الْمُجْتَمِعَةُ مِنْ دَعْوَةٍ إِلَى الْخَيْرِ وَعَدَمِ الْعَمَلِ مَعَ التَّذْكِيرِ الدَّائِمِ ، أَمَّا الْأَمْرُ نَفْسُهُ فَلَا إِنْكَارَ فِيهِ ، وَقَدْ تَكَلَّمَ النَّاسُ فِي أَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=20198مَنْ وَقَعَ فِي الْمَعَاصِي أَيَجُوزُ لَهُ أَنْ يَنْهَى عَنْهَا وَيَأْمُرَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ ، أَمْ يُطَهِّرُ نَفْسَهُ مِنَ الْمَعَاصِي ، ثُمَّ يَتَوَلَّى الْإِرْشَادَ ؟
إِنَّ الْحَقَّ أَنَّ الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاجِبٌ بِنَفْسِهِ ، تَرْكُهُ مَعْصِيَةٌ كَغَيْرِهِ ، وَوُقُوعُهُ فِي مَعَاصٍ غَيْرُهُ لَا يُسَوِّغُ لَهُ أَنْ يَتْرُكَهُ ، فَيَقَعَ فِي مَعْصِيَةِ التَّرْكِ ، نَعَمْ إِنَّ الْمَوْعِظَةَ نِصَابُهَا الْأَلْفَاظُ ، كَمَا قَالَ
nindex.php?page=showalam&ids=14847الْغَزَالِيُّ فِي إِحْدَى رَسَائِلِهِ ، وَلَكِنَّ الْمَوْعِظَةَ فِي ذَاتِهَا لَا تَحْتَاجُ إِلَى نِصَابٍ ، وَقَدْ قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ التَّابِعِيُّ ، الشَّهِيدُ فِي الْحَقِّ الْآمِرُ بِالْمَعْرُوفِ : إِذَا كَانَ الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ لَا يَكُونُ مِمَّنْ يَقَعُ فِي مَعْصِيَةٍ ، فَلَنْ يَكُونَ هُنَاكَ دَاعٍ إِلَى الْخَيْرِ . وَلَكِنْ مَعَ ذَلِكَ يَجِبُ أَنْ يُرَوِّضَ الْمُؤْمِنُ نَفْسَهُ دَائِمًا عَلَى أَلَّا يَنْهَى عَنْ أَمْرٍ يَقَعُ هُوَ فِيهِ ، فَيَمْتَنِعُ عَنِ النَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ ، وَلَكِنْ يَمْتَنِعُ عَنْ أَنْ يَقَعَ فِيمَا نَهَى عَنْهُ ، كَمَا حَكَى اللَّهُ عَنْ نَبِيِّهِ
شُعَيْبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ :
nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=88وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلا الإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ .
وَإِنَّ الْوَاعِظَ الَّذِي لَمْ يَكُنْ يَتَّعِظُ بِوَعْظِهِ يُحَاسَبُ عَلَى إِهْمَالِهِ بِأَكْثَرَ مِمَّا يُحَاسَبُ عَلَيْهِ غَيْرُهُ ، وَيُحَاسَبُ أَشَدَّ مَنْ كَانَ يَعْلَمُ الْحَقَّ وَلَا يَنْطِقُ بِهِ ، فَيُحْرَمُ الْمَوْعِظَةَ وَالِاتِّعَاظَ وَيُحَاسَبُ مِنْ بَعْدُ حِسَابًا عَسِيرًا ، وَلَقَدْ رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : "
إِنَّ اللَّهَ يُعَافِي الْأُمِّيِّينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا لَا يُعَافِي الْعُلَمَاءَ " وَرُوِيَ : أَنَّهُ "
يُغْفَرُ لِلْجَاهِلِ سَبْعِينَ حِينَ يُغْفَرُ لِلْعَالِمِ مَرَّةً وَاحِدَةً ، لَيْسَ مَنْ يَعْلَمُ كَمَنْ لَا يَعْلَمُ " .
[ ص: 219 ] هَذِهِ عُيُوبُ مَنْ يَأْمُرُونَ بِالْخَيْرِ ، وَلَا يَأْتَمِرُونَ بِهِ وَمَنْ يَنْهَوْنَ عَنِ الشَّرِّ ، وَلَا يَنْتَهُونَ عَنْهُ ، وَلَكِنْ كَيْفَ تُرَبَّى النَّفْسُ عَلَى أَنْ تَكُونَ مُتَّعِظَةً قَبْلَ أَنْ تَعِظَ ؟ ذَكَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الدَّوَاءَ ; وَهُوَ الصَّبْرُ ، وَالصَّلَاةُ ، فَقَالَ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=45وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ الِاسْتِعَانَةُ طَلَبُ الْعَوْنِ ، وَالْمُسَاعَدَةِ ، وَفِي اسْتِعْمَالِ الْقُرْآنِ أَنَّهَا إِذَا كَانَتْ لِلْمُعِينِ تَعَدَّتْ بِغَيْرِ بَاءٍ ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=1&ayano=5وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ، وَفِي الدُّعَاءِ "
اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْتَعِينُكَ وَنَسْتَهْدِيكَ وَنَسْتَغْفِرُكَ وَنَتُوبُ إِلَيْكَ " ، وَإِذَا كَانَتِ الِاسْتِعَانَةُ بِمَا تَكُونُ بِهِ الْإِعَانَةُ كَانَتْ بِالْبَاءِ ، فَيُقَالُ نَسْتَعِينُ بِكَذَا لِفِعْلِ كَذَا ، وَهَكَذَا نَجِدُ بِالِاسْتِقْرَاءِ اسْتِعْمَالَ الْقُرْآنِ .
وَهُنَا الِاسْتِعَانَةُ بِشَيْءٍ وَلِذَا تَعَدَّتْ بِالْبَاءِ فَقَالَ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=45وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ أَيِ اسْتَعِينُوا عَلَى تَرْبِيَةِ نُفُوسِكُمْ لِتَكُونَ مُتَّعِظَةً فَاعِلَةً الْخَيْرَ ، آمِرَةً بِهِ وَلَا يَتَجَافَى فِعْلُهَا عَنْ قَوْلِهَا .
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=45بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَالصَّبْرُ ضَبْطُ النَّفْسِ وَسَيْطَرَةُ الْإِرَادَةِ ، عَلَى الْهَوَى ، وَسَيْطَرَةُ الْعَقْلِ عَلَى الشَّهْوَةِ ، فَإِنَّهُ إِذَا سَيْطَرَتِ الْإِرَادَةُ وَالْعَقْلُ وَالْفِكْرُ الْمُسْتَقِيمُ انْقَمَعَتِ الشَّهَوَاتُ ، وَإِذَا انْقَمَعَتِ اسْتَقَامَتِ النَّفْسُ ، وَكَانَ التَّنْسِيقُ بَيْنَ الْقَوْلِ وَالْعَمَلِ ، وَقَذَفَ اللَّهُ فِي الْقَلْبِ بِنُورِ الْحِكْمَةِ ، وَالْقَوْلِ الطَّيِّبِ ، وَالْعَمَلِ ، وَكُلُّ مَا فِي الْحَيَاةِ يَحْتَاجُ إِلَى الصَّبْرِ ، فَالْجِهَادُ قُوَّتُهُ فِي الصَّبْرِ ، وَكَمَا قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=651203إِنَّمَا الصَّبْرُ عِنْدَ الصَّدْمَةِ الْأُولَى " ، وَنَقْصُ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ إِنَّمَا يَكُونُ بِالصَّبْرِ . كَمَا قَالَ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=155وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الأَمْوَالِ وَالأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=156الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ .
وَيَقُولُ الْفَارُوقُ الْإِمَامُ
nindex.php?page=showalam&ids=2عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : الصَّبْرُ صَبْرَانِ صَبْرٌ عَلَى الْمُصِيبَةِ ، وَهُوَ حَسَنٌ ، وَصَبْرٌ عَنِ الْمَعَاصِي وَهُوَ أَحْسَنُ . فَالصَّبْرُ عَلَى الْمَعَاصِي ، هُوَ السَّيْطَرَةُ عَلَى الْأَهْوَاءِ وَالشَّهَوَاتِ ، وَهُوَ تَهْذِيبُ النَّفْسِ وَتَقْوِيمُهَا .
[ ص: 220 ] هَذِهِ كَلِمَاتٌ مُوجَزَاتٌ فِي الصَّبْرِ ، وَهُوَ طَرِيقُ السَّيْطَرَةِ عَلَى النَّفْسِ ; وَلِذَا أَمَرَنَا اللَّهُ تَعَالَى بِالِاسْتِعَانَةِ بِهِ .
أَمَّا الصَّلَاةُ فَإِنَّهَا بِمَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ مِنْ رُكُوعٍ وَسُجُودٍ وَقِرَاءَةٍ ، وَخُشُوعٍ ، وَاسْتِحْضَارٍ لِعَظَمَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَإِحْسَاسٍ بِأَنَّهُ فِي حَضْرَتِهِ وَوَاقِفٌ بَيْنَ يَدَيْهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى تَنْفَعِلُ نَفْسُهُ فِي وُجُودِهَا بِحَضْرَتِهِ ، بِأَوَامِرِهِ ، وَنَوَاهِيهِ ، وَطَلَبِ مَرْضَاتِهِ . وَلَقَدْ قَالَ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=29&ayano=45اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَلَقَدْ
nindex.php?page=hadith&LINKID=673047كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " إِذَا حَزَبَهُ أَمْرٌ صَلَّى " nindex.php?page=hadith&LINKID=679962وَكَانَ يَأْمُرُ بِالصَّلَاةِ ، مَنْ كَانَ بِهِ وَجَعٌ لِيَصْبِرَ وَيَنْسَى أَلَمَهُ ، فَيَقُولُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : " قُمْ فَصَلِّ فَإِنَّ الصَّلَاةَ شِفَاءٌ " لِأَنَّهُ يَكُونُ فِي مُنَاجَاةٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَبِّهِ ، فَيَنْسَى الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا يَنْسَى أَلَمَهُ وَوَجَعَهُ ، وَهُمُومَهُ .
وَإِنَّ الصَّبْرَ وَالصَّلَاةَ تَجْعَلَانِ النَّفْسَ تَتَغَلَّبُ عَلَى الْمِحَنِ ، كَمَا تَتَغَلَّبُ عَلَى الْإِحَنِ ، فَيَلْقَى اللَّهَ تَعَالَى بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ، قَالَ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=41&ayano=34وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ nindex.php?page=tafseer&surano=41&ayano=35وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ .
وَإِنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=24589_28680_19572الِاسْتِعَانَةَ بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ لَيْسَتْ أَمْرًا هَيِّنًا لَيِّنًا ، وَلَكِنَّهَا أَمْرٌ عَظِيمٌ خَطِيرٌ ، لَا يَتَلَقَّاهَا إِلَّا النُّفُوسُ الْقَوِيَّةُ ذَاتُ الْعَزِيمَةِ الْحَازِمَةِ ; وَلِذَا قَالَ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=45وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلا عَلَى الْخَاشِعِينَ .
الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=45وَإِنَّهَا قِيلَ إِنَّهُ يَعُودُ إِلَى الضَّمِيرِ الْمُنْسَبِكِ مِنْ (اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ ) ، لِأَنَّ الصَّبْرَ وَالصَّلَاةَ الْحَقِيقِيَّةَ أَمْرَانِ كَبِيرَانِ خَطِيرَانِ
[ ص: 221 ] عَظِيمَانِ يَسِيرَانِ بِالنَّفْسِ فِي مَدَارِجِ الْكَمَالِ النَّفْسِيِّ وَالرُّوحَانِيِّ ، فَيَكُونُ الِانْسِجَامُ بَيْنَ الْقَوْلِ وَالْعَمَلِ ، وَلَكِنْ قَدْ يُقَالُ إِنَّ الْمَصْدَرَ غَيْرُ مَوْجُودٍ ، وَالضَّمِيرَ يَعُودُ إِلَى أَقْرَبِ مَذْكُورٍ ، فَعَوْدُهُ إِلَى الصَّلَاةِ أَقْرَبُ وَأَظْهَرُ ، وَلِذَلِكَ قَالَ الْأَكْثَرُونَ إِنَّهُ يَعُودُ إِلَى الصَّلَاةِ .
وَلَا شَكَّ أَنَّ الصَّلَاةَ إِذَا أُدِّيَتْ عَلَى وَجْهِهَا بِاسْتِحْضَارِ عَظَمَةِ اللَّهِ وَالشُّعُورِ بِأَنَّهُ فِي حَضْرَتِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ، حَتَّى كَأَنَّهُ يَرَاهُ وَيُخَاطِبُهُ بِقُرْآنِهِ عِنْدَمَا يَتْلُو آيَاتِهِ ، وَأَنَّهُ عِنْدَمَا يَقُولُ : إِيَّاكَ نَعْبُدُ ، وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ يُحِسُّ بِأَنَّهُ فِي حَضْرَتِهِ ، وَأَنَّهُ يُخَاطِبُهُ ، وَأَنَّهُ يُنَاجِيهِ ، فَمَقَامُ
nindex.php?page=tafseer&surano=1&ayano=5إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ، مَقَامٌ لَا يَنْدَرِجُ فِيهِ إِلَّا الْخَاشِعُونَ .
وَالْخَاشِعُ هُوَ الْخَاضِعُ الْمُتَطَامِنُ السَّاكِنُ الَّذِي لَا يَتَحَرَّكُ لِشَهْوَةٍ ، وَالْخُشُوعُ مَظْهَرُ الْخُضُوعِ الَّذِي يَظْهَرُ فِي الْأَعْضَاءِ وَالْجَوَارِحِ ، وَلِذَلِكَ يُسْنَدُ إِلَيْهَا فَيَقُولُ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=20&ayano=108وَخَشَعَتِ الأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلا تَسْمَعُ إِلا هَمْسًا ، فَالْخُشُوعُ خُضُوعٌ كَامِلٌ فِي النَّفْسِ وَالْجِسْمِ ، وَأَصْلُهُ فِي الْقَلْبِ ; قَالَ
nindex.php?page=showalam&ids=2عُمَرُ لِشَابٍّ قَدْ نَكَّسَ رَأْسَهُ فَقَالَ لَهُ : " يَا هَذَا ارْفَعْ رَأْسَكَ فَإِنَّ الْخُشُوعَ مَا فِي الْقَلْبِ " . وَقَالَ
nindex.php?page=showalam&ids=8عَلِيٌّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ : الْخُشُوعُ فِي الْقَلْبِ ، وَأَنْ تُلِينَ نَفْسَكَ لِلْمَرْءِ الْمُسْلِمِ ، وَأَلَّا تَلْتَفِتَ فِي صَلَاتِكَ .
وَقَدْ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ أَثَرَ الْخُشُوعِ فِي الْقَلْبِ وَالْعَقْلِ وَالنَّفْسِ ، فَقَالَ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=46الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ .
عَرَّفَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الْخَاشِعِينَ بِأَخَصِّ صِفَاتِ الْمُؤْمِنِ ، وَهُوَ الْإِيمَانُ بِالْغَيْبِ ، لِأَنَّهُ فَرْقٌ بَيْنَ الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ وَالزَّنْدَقَةِ ، وَإِنَّ أَبْلَغَ الْإِيمَانِ بِالْغَيْبِ تَأْثِيرًا فِي النَّفْسِ الْخَاشِعَةِ الْإِيمَانُ بِلِقَاءِ اللَّهِ تَعَالَى الَّذِي يُجَازِي الْمُحْسِنَ بِإِحْسَانِهِ ، وَالْمُسِيءَ بِجَزَاءِ مَا يَعْمَلُ ، وَلِذَلِكَ ذَكَرَ إِيمَانَ الْخَاشِعِينَ بِلِقَاءِ اللَّهِ تَعَالَى فَقَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=46الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو رَبِّهِمْ الظَّنُّ يُطْلَقُ بِمَعْنَى الْعِلْمِ الرَّاجِحِ ، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=45&ayano=32إِنْ نَظُنُّ إِلا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ ، وَيُسْتَعْمَلُ الظَّنُّ بِمَعْنَى الْيَقِينِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=18&ayano=53وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=69&ayano=20إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ .
وَالظَّنُّ بِمَعْنَى الْعِلْمِ الْيَقِينِيِّ ، وَلَكِنَّ التَّعْبِيرَ عَنِ الْعِلْمِ بِالظَّنِّ يُفِيدُ مَعَ الْيَقِينِ تَوَقُّعَ الْأَمْرِ الْمَعْلُومِ ، فَمَعْنَى
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=46الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو رَبِّهِمْ ، أَنَّهُمْ يَتَوَقَّعُونَ هَذَا اللِّقَاءَ وَقْتًا بَعْدَ آخَرَ ، فَهُمْ يُؤْمِنُونَ إِيمَانًا صَادِقًا بِلِقَاءِ اللَّهِ ، وَيَتَرَقَّبُونَ ذَلِكَ اللِّقَاءَ ، وَيَنْتَظِرُونَهُ مُتَوَقِّعِينَ لَهُ ، فَيَقِينُهُمْ يَقِينُ الْمُتَوَقِّعِ الْمُتَرَقِّبِ ، فَيَكُونُ فِي قُلُوبِهِمْ دَائِمًا وَيَسْتَعِدُّونَ لَهُ بِعَمَلِ صَالِحٍ يُقَدِّمُونَهُ رَجَاءَ أَنْ يَغْفِرَ لَهُمْ وَأَنْ يَتَغَمَّدَهُمْ بِرَحْمَتِهِ ، وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ .
وَالتَّعْبِيرُ بِـ (رَبِّهِمْ ) فِيهِ شُعُورٌ بِنِعَمِهِ تَعَالَى عَلَيْهِمْ ، لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي رَبَّاهُمْ وَأَنْشَأَهُمْ وَتَعَهَّدَهُمْ فِي الْوُجُودِ ، كَمَا يَتَعَهَّدُ الْمَزَارِعُ زَرْعَهُ بِالسَّقْيِ وَالْإِصْلَاحِ .
وَيُؤْمِنُونَ مُسْتَيْقِنِينَ مُتَوَقِّعِينَ أَنَّهُمْ إِلَيْهِ وَحْدَهُ رَاجِعُونَ ، وَتَقْدِيمُ (إِلَيْهِ ) لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّهُ وَحْدَهُ الَّذِي يَرْجِعُونَ إِلَيْهِ وَيَجْزِيهِمْ بِالْإِحْسَانِ إِحْسَانًا وَأَنَّهُ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ .
هَذَا الَّذِي مَضَى مِنَ الْقَوْلِ الْكَرِيمِ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=44أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ خِطَابٌ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْحَاضِرِينَ مِنْهُمْ وَالْمَاضِينَ بِاعْتِبَارِهِ وَاقِعًا مِنْهُمْ فِي حَاضِرِهِمْ وَمَاضِيهِمْ ، وَهُوَ يَصْلُحُ خِطَابًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ وَغَيْرِهِمْ لِمَا فِيهِ مِنْ تَوْجِيهٍ وَتَهْذِيبٍ وَإِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ ، وَبِهِ تَسْتَقِيمُ أُمُورُهُمْ فِي مَعَاشِهِمْ وَمَعَادِهِمْ .
ذَكَّرَ اللَّهُ تَعَالَى بَعْدَ ذَلِكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ بِنِعَمِهِ عَلَيْهِمْ ، فَقَالَ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=47يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ .
[ ص: 222 ] تَكَلَّمْنَا فِي مَاضِي قَوْلِنَا فِي مَعْنَى النِّدَاءِ بِيَا بَنِي إِسْرَائِيلَ ، وَأَشَرْنَا إِلَى النِّعَمِ الَّتِي أَنْعَمَ اللَّهُ بِهَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ ، وَقَدْ ذَكَرَ نِعْمَةً لَمْ يَذْكُرْهَا سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِيمَا مَضَى مِنْ قَوْلِهِ الْحَكِيمِ ، وَهُوَ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فَضَّلَهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ ، وَالْعَالَمُونَ جَمْعُ عَالَمٍ كَمَا ذُكِرَ مِنْ قَبْلُ ، وَيُرَادُ أَهْلُ الْعَقْلِ وَالتَّفْكِيرِ فِي هَذِهِ الْأَرْضِ .
وَالتَّفْضِيلُ لَيْسَ تَفْضِيلَ ذَوَاتِهِمْ عَلَى غَيْرِهِمْ كَمَا تَوَهَّمُوا هُمْ ، وَدَلَّاهُمْ غُرُورُهُمْ ، فَزَعَمُوا أَنَّهُمْ صِنْفُ اللَّهِ الْمُخْتَارُ ، وَدَلُّوا عَلَى النَّاسِ بِذَلِكَ بَلْ دَلُّوا عَلَى اللَّهِ تَعَالَى وَقَالُوا نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ ، وَأَكَلُوا الْحُقُوقَ ، وَعَامَلُوا غَيْرَهُمْ بِكُلِّ أَمْرٍ لَيْسَ فِيهِ خُلُقٌ وَلَا دِينٌ ، وَقَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ .
لَيْسَ التَّفْضِيلُ لِذَوَاتِهِمْ إِنَّمَا الْفَضْلُ الَّذِي اخْتَصَّهُمُ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ فِي جِيلِهِمْ أَنَّهُ جِيلٌ فِيهِمْ أَنْبِيَاءُ ، وَدَعَاهُمْ أُولَئِكَ الْأَنْبِيَاءُ إِلَى التَّوْحِيدِ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ، فَقَدْ كَانُوا مُوَحِّدِينَ كَمَا دَعَاهُمْ
مُوسَى وَمَنْ جَاءَ بَعْدَهُ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ فِي وَسَطِ وَثَنِيِّينَ ، فَكَانَ كُلُّ مَنْ حَوْلَهُمْ وَثَنِيِّينَ ; فَالْمِصْرِيُّونَ وَثَنِيُّونَ يَعْبُدُونَ الشَّمْسَ وَمَنْ دُونَهَا ،
وَالْفُرْسُ يَعْبُدُونَ النَّيِّرَانِ ،
وَالرُّومُ يَعْبُدُونَ الْأَوْثَانَ ، وَالْيُونَانُ مِنْ قَبْلِهِمْ عَلَى شَاكِلَتِهِمْ ، وَالْبَابِلِيُّونَ يَعْبُدُونَ الْكَوَاكِبَ ، وَهَكَذَا كَانَ جِيلُهُمُ الْأَوَّلُ جِيلُ مُوسَى ، وَحِينَ نُزُولِ التَّوْرَاةِ عَلَى
مُوسَى .
اخْتَارَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى أَنْ يَكُونُوا قَوْمَ
مُوسَى ، وَأَنْ يَكُونَ التَّوْحِيدُ فِيهِمْ ، وَكَانَ مَقَامُهُمْ يُمَكِّنُهُمْ مِنْ أَنْ يَدْعُوا إِلَى التَّوْحِيدِ ; لِأَنَّهُمْ كَانَ مَقَامُهُمْ فِي وَسَطِ تِلْكَ الْأَرَاضِي الَّتِي كَانَ يَسْكُنُهَا الْوَثَنِيُّونَ .
وَإِنَّ ذَلِكَ التَّفْضِيلَ نِعْمَةٌ أَنْعَمَ اللَّهُ تَعَالَى بِهَا عَلَيْهِمْ ، وَأَنَّهَا تُوجِبُ شُكْرًا ، وَتُحَمِّلُهُمْ تَكْلِيفًا ، أَمَّا الشُّكْرُ فَلِأَنَّ شُكْرَ النِّعَمِ وَاجِبٌ بِحُكْمِ الْعَقْلِ ، وَبِحُكْمِ التَّكْلِيفِ الْإِلَهِيِّ وَقَدْ كَفَرُوا بِأَنْعُمِ اللَّهِ تَعَالَى ، وَأَمَّا التَّكْلِيفُ الَّذِي حَمَلُوهُ فَهُوَ الدَّعْوَةُ إِلَى الْوَحْدَانِيَّةِ وَلَمْ يَقُومُوا بِحَقِّهَا ، بَلْ إِنَّهُمُ اعْتَبَرُوا الْيَهُودِيَّةَ جِنْسًا ، وَمَنْ دَخَلَ مَعَهُمْ فِي
[ ص: 223 ] دِيَانَةِ
مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ غَيْرِهِمْ كَالسَّامِرَةِ لَمْ يَعْتَرِفُوا بِهِ ، وَبِذَلِكَ ضَلُّوا ضَلَالًا وَلَقَدْ أَخَذَ بَعْدَ ذَلِكَ سُبْحَانَهُ يَذْكُرُ مُوجِبَاتِ التَّفْضِيلِ وَغَايَتَهُ فَقَالَ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=48وَاتَّقُوا يَوْمًا لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ .
(وَاتَّقُوا ) أَيِ اجْعَلُوا لَكُمْ وِقَايَةً تَقِيكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ شَدِيدِ الْهَوْلِ ، فِيهِ الْعَذَابُ الشَّدِيدُ ، وَلَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا إِنْ لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ ، وَهُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ ، وَقَالَ سُبْحَانَهُ : (يَوْمًا ) بِالتَّنْكِيرِ لِتَذْهَبَ النَّفْسُ مَذَاهِبَ شَتَّى فِي تَصْوِيرِ هَوْلِهِ ، وَالْإِبْهَامُ وَحْدَهُ يُوجِدُ رَهْبَةً ، وَيُشْعِرُ بِالتَّهْوِيلِ ، وَبِأَنَّهُ لَا يَحُدُّ عَذَابَهُ وَصْفٌ ، وَلَا هَوْلَهُ ذِكْرٌ ، وَإِنَّ ذَلِكَ الْيَوْمَ الَّذِي اتِّقَاؤُهُ بِالْعَمَلِ الصَّالِحِ وَالْقِيَامِ بِالْحُقُوقِ الَّتِي لِلْغَيْرِ ، وَأَدَاءِ الْوَاجِبَاتِ الَّتِي عَلَيْهِ ، يَتَقَدَّمُ فِيهِ الْإِنْسَانُ مُنْفَرِدًا إِلَّا مِنْ عَمَلِهِ ، لَا يَجْزِيهِ إِلَّا عَمَلُهُ إِنْ خَيْرًا فَخَيْرٌ ، وَلَا تُجْزَى فِيهِ نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا ، أَيْ لَا يَجْزِي عَمَلُ نَفْسٍ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا مِنَ الْجَزَاءِ ، فَيُقَدَّرُ فِي قَوْلِهِ لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ أَيْ عَمَلُ نَفْسٍ عَنْ نَفْسٍ أُخْرَى ، أَوْ نَقُولُ تَجْزِي بِمَعْنَى تَقْضِي ، أَيْ لَا تَقْضِي نَفْسٌ عَنْ أُخْرَى أَيَّ شَيْءٍ قَلَّ أَوْ جَلَّ ، وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى ، وَكُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ .
وَعَقَّبَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِمَا يُؤَكِّدُ أَنَّ النَّفْسَ لَا يَجْزِي عَنْهَا غَيْرُهَا ، وَأَنَّهُ لَا مَنْفَعَةَ إِلَّا مِنْ عَمَلِهَا ، فَقَالَ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=48وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَالشَّفَاعَةُ مِنَ الشَّفْعِ ، وَالشَّافِعُ يَضُمُّ قُوَّتَهُ إِلَى مَنْ يَشْفَعُ فِيهِ ، فَلَا يَقْبَلُ اللَّهُ تَعَالَى شَفَاعَةً مِنْ أَحَدٍ لِأَحَدٍ ، إِنَّمَا الْعَمَلُ وَحْدَهُ هُوَ الَّذِي يَنْفَعُ كَمَا قَالَ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=74&ayano=48فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ ، وَإِذَا كَانَ لِلْأَنْبِيَاءِ شَفَاعَةٌ فَبِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَحْدَهُ
nindex.php?page=tafseer&surano=21&ayano=28وَلا يَشْفَعُونَ إِلا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ ،
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=48وَلا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ أَيْ لَا يُؤْخَذُ مِنْهَا بَدَلٌ ، فَالْعَدْلُ الْبَدَلُ ، فَلَا يُنْجِيهِمْ مِنْ عَذَابٍ شَفَاعَةٌ وَلَا فِدْيَةٌ مِنَ الْعَذَابِ بِبَدَلٍ يُدْفَعُ ،
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=48وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ لِأَنَّهُ لَا نَاصِرَ إِلَّا اللَّهُ ، لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ; لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ .
[ ص: 224 ] أَخَذَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالِي يَذْكُرُ النِّعَمَ الَّتِي أَنْعَمَهَا عَلَيْهِمْ ، وَابْتَدَأَ بِنِعْمَةِ الْإِنْقَاذِ ، فَقَالَ تَعَالَى : * * *