[ ص: 1836 ] ولا تهنوا في ابتغاء القوم إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون وترجون من الله ما لا يرجون وكان الله عليما حكيما إنا أنـزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيما واستغفر الله إن الله كان غفورا رحيما
* * *
في الآيات السابقة كان بيان ما يتبعه المؤمنون من الصلاة عند الخوف، ولقاء العدو، ومن قبل ذلك ذكر الله سبحانه وتعالى ما ينبغي أن يتبعه المؤمنون المغلوبون على أمرهم في دولة غير إسلامية من الهجرة. فالآيات كلها في وما حول الجهاد، وذلك أكد سبحانه طلبه بقوله تعالى: وجوب الجهاد،
ولا تهنوا في ابتغاء القوم قال بعض العلماء: إن ذلك الأمر المرشد بعد غزوة أحد، ورويت في ذلك روايات إن صحت لم تعين أن يكون هذا النص في موضعها، ولكن الذي يتفق مع السياق، أن هذا النص بعد صلاة الخوف يدل على وجوب الاستمرار في القتال من غير وهن ولا ضعف، فالسياق على هذا يكون: إنكم إذا أديتم الصلاة، فاتجهوا من بعدها، وقد تسلحتم بذكر الله، إلى القتال. وجوب الاستمرار في طلب مواطن الضعف في الأعداء، ليكون الغلب لكلمة الحق وكلمة الله سبحانه وتعالى،
ومعنى النص الكريم: لا يصيبكم وهن، أي ضعف في همتكم وعزيمتكم، في ابتغاء العدو وطلبه، وتحري موضع ضعفه والنيل منه، ولا تقعد بكم آلام الحرب عن متابعته، واللحاق به، فإن تكونوا قد أصابتكم جراح فقد أصابته، ولذا قال سبحانه: [ ص: 1837 ] إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون وترجون من الله ما لا يرجون وكان الله عليما حكيما مرمى النص الكريم أنه لا يصح أن تكون الجراح، وويلات الحرب وآلامها مثبطة لكم عن الاستمرار في طلب المعتدين وملاقاتهم; لأنه إن أصابكم من الجراح والآلام ما أصابهم، فهم يجرحون ويألمون من غير رجاء في الآخرة، ولم يوعدوا بالنصر المؤزر الباقي في الدنيا، ولا بالنعيم في الآخرة، فهم يألمون في غير أمل مرجو، وأنتم إن ألمتم، فلرجاء النصر ولرجاء النعيم، فأنتم أحق بالصبر، وأولى بأن تطلبوهم، ولا تهنوا وتضعفوا في طلبهم.
ويسوق النص الكريم مساقا فيه شبه لوم للمؤمنين، فيقول في تفسير قوله تعالى: الزمخشري إن تكونوا تألمون "أي ليس ما تكابدون من الألم بالجرح والقتل مختصا بكم، إنما هو أمر مشترك بينكم وبينهم، يصيبهم كما يصيبكم، ثم إنهم يصبرون عليه، ويتشجعون، فما لكم لا تصبرون مثل صبرهم; لأنكم ترجون من الله ما لا يرجون من إظهار دينكم على سائر الأديان، ومن الثواب العظيم في الآخرة".
ونحن نرى أن النص فيه تحريض على الصبر، ولا لوم فيه ولا شبه لوم، فما كان عند المشركين صبر كصبر المؤمنين، حتى يوازنوا بهم ويحرصوا على مثل ما هم عليه.
وفي جعل رجاء المؤمنين من الله، في قوله تعالى: وترجون من الله إشعار للمؤمنين بأنهم في جانب الله تعالى، وأن رجاءهم عنده، وهو يجيب رجاء المؤمن ودعاءه، ويؤيده بنصره: وما النصر إلا من عند الله العزيز الحكيم [آل عمران ]، وليس للمشركين من يرجون إلا أن يكون أصناما لا تضر ولا تنفع!.
وإذا كان الرجاء من الله، فهو رجاء من العليم بكل شيء، الحكيم الذي يضع الأمور في مواضعها، وينصر من ينصره بحكمته، ولذا قال سبحانه: وكان الله عليما حكيما أي ثبت وتقرر أن [ ص: 1838 ] جلت قدرته، وإذا كان الله سبحانه وتعالى عليما حكيما، فإنه يعلم جهاد المؤمنين للحق، واعتداد المشركين بالباطل، وبمقتضى حكمته لا يستوي الصالح والمفسد، والمحق والمبطل، ولا يستوي عنده الذين يعلمون والذين لا يعلمون، فالمؤمنون إذ يرجون ما عنده، ويطلبون رضاه، يجدون العليم الحكيم: العلم والحكمة من أسماء الله تعالى الحسنى، والله يؤيد بنصره من يشاء [آل عمران ]، كتب الله لأغلبن أنا ورسلي [المجادلة].
وإن العليم الحكيم هو الذي أنزل القرآن مشتملا على شريعته، ليكون القسطاس المستقيم، والحكم العدل، ولذا قال سبحانه:
* * *