[ ص: 2277 ] بين الله سبحانه وتعالى أحوال اليهود ومعاملتهم للمؤمنين، وهي تدل على مقدار حقدهم على أهل الإيمان وتعصبهم ضدهم، ونفاقهم في ذات أنفسهم ومعاملتهم للمؤمنين بالخداع، واستهزائهم بالحقائق الإسلامية، واتخاذهم الدين هزوا ولعبا.
وفي هذه الآية يبين سبحانه وأنهم إن أعطوا أشروا وبطروا النعمة، وإن منعوا كفروا، وقالوا قالة لا تليق بذات الله تعالى، وإن هذا ليس هو الطريق الأمثل لمن أوتوا الكتاب وبلغوا رسالات النبيين، ولذا قال سبحانه: حالهم في جنب الله تعالى، وقالت اليهود يد الله مغلولة أصل الغل: توسط الشيء وتدرعه، والغل ما يقيد به الشخص ويجعل الأطراف وسطه، وقيل للبخيل: هو مغلول اليدين، ومن ذلك ما حكاه الله سبحانه وتعالى عن اليهود أنهم قالوا: يد الله مغلولة، وهي تحتمل عدة معان متلاقية في مؤداها، وإن اختلفت فيما يقرر سبب قولهم لعنهم الله، فقد قيل: إنهم لما علموا أن كل شيء مقدر بقدر، وأنه سبحانه وتعالى قضى كل شيء فقدره تقديرا تهجموا بهذا القول غير الكريم، فقالوا: إن يد الله مغلولة، أي: في حكم المقيدة، وقيل: إنهم كانوا يرون المؤمنين الصادق إيمانهم في غير ثروة، وهم يعتمدون على الله، فقالوا مقالتهم، وقيل: إنهم بسبب كفرهم وإيذائهم للمؤمنين وتغير الأحوال قتر عليهم في الرزق، فلم ينسبوا ذلك إلى أسباب واقعة، بل قالوا مقالتهم في شأن ربهم.
والذي نراه أن اليهود في هلع دائم وطمع، وحسبوا أن الفقر لا ينالهم أبدا، فإن أعطوا خيرا نسبوه لأنفسهم وحيلتهم وعلمهم، وإن لم يعطوا اتهموا ربهم، وذلك غير شأن المذعنين لله المؤمنين به الذين يعلمون أنه يعطي ويمنع، ويعز ويذل بحكمة وتقدير.
ولفظ: يد الله مغلولة مجاز عن البخل، وهو من قبيل الاستعارة التمثيلية؛ إذ شبهت حال من قبضت يده عن العطاء، فلا يعطي بحال من غلت يده، [ ص: 2278 ] وربطت على وسطه، فلا يستطيع تحريكها، وعبر باليد; لأنها هي التي يكون بها العطاء، ولقد قال تعالى: ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوما محسورا
وليس المراد باليد الجارحة، بل الكناية عن المنع والإعطاء، وقد قال في ذلك (غل اليد وبسطها مجاز عن البخل والجود) ومنه قوله تعالى: الزمخشري: ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط ولا يقصد من يتكلم به إثبات يد ولا غل ولا بسط حتى يستعمله في قليل لا يعطي بيده عطاء قط، ولا يمنعه إلا بإشارته من غير استعمال يده وبسطها وقبضها، ولو أعطى الأقطع إلى المنكب عطاء جزيلا لقالوا: ما أبسط يده بالنوال; لأن بسط اليد وقبضها عبارتان وقعتا متعاقبتين، وقد استعملوه حيث لا تصح اليد كقوله:
جاد الحمى بسط اليدين بوابل شكرت نداه تلاعه ووهاده
وقد فسرت اليد المنسوبة لله تعالى بالمعنى المجازي المناسب في كل آية في القرآن الكريم على ما اختاره وغيره، حتى أنه قال في قوله تعالى: الغزالي يد الله فوق أيديهم بالسلطان والقوة، كما يقال: وضع الأمير يده على المدينة، ولو كان مقطوع اليدين، والكلام في هذه المسألة مشهور في كتب علم الكلام.غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا هذه الجملة معناها الدعاء عليهم، وهذا تعليم من الله لنا بأن ندعو على من فسدت قلوبهم، وذهب بهم الطمع والجشع إلى نسيان ما يجب لذات الله العلية، وما ينبغي، فقالوا كلمتهم التي قالوها، وهي تدل على استهانة بالحقائق وذات الله سبحانه، تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا، فعلمنا الله أن ندعو عليهم بغل اليد، وبالطرد وهو دعاء مستجاب ما داموا على هذا الحال من الأثرة المردية التي تنسيهم حقائق التدين والإيمان.
والدعاء عليهم بغل الأيدي معناه الدعاء عليهم بالشح المرير الذي يجعلهم مبغضين للناس، منحرفين عن طريقهم مطرودين من المجتمع، ويصح أن يفسر [ ص: 2279 ] قوله تعالى: غلت أيديهم بالدعاء عليهم بالغل الفعلي بأيديهم بأن يمنعوا عن العمل الحر، ويعيشوا أسارى أو كالأسارى في ذل، ويكون التعبير من قبيل الجناس بالمشاكلة اللفظية، وإنا نميل إلى هذا، ويرشح له التعبير بأيديهم; لأن العرف اللغوي جرى على أن التعبير بالأيدي يفيد البطش، والتعبير بالأيادي يفيد النعمة، فيقال: لفلان الأيادي على فلان، ولا يقال له الأيدي عليه، والمعنى على هذا الدعاء عليهم أن تغل أيديهم الباطشة فلا يقووا على غيرهم بل يكونون أسارى أو كالأسارى، وما ينالون من قوة ظاهرة أحيانا، فليست منهم، وهي إلى حين، وما كان ذلك إلا من فساد غيرهم.
بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء هذا رد عليهم، وبسط اليد هنا مجاز عن الجود والفيض والإنعام من الله تعالى على خلقه، وعبر هنا بالمثنى، فقال سبحانه: يداه للإشارة إلى كثرة الفيض والإنعام، والعطاء العميم كأنه يعطي بيدين لا بيد واحدة، ولكن إذا كانوا لم يدركوا فيض نعمته، فإنهم لم يدركوا معنى حكمته؛ فإن الله تعالى يبسط يديه بالعطاء على الطريقة التي يراها، وبالحكمة التي يريدها، ولذا قال تعالى: ينفق كيف يشاء
وهذه الجملة السامية تدل على أمرين: أحدهما: عموم عطائه. وثانيهما: أن شكل العطاء يختلف، فأحيانا يكون لبعض الناس عميما ليختبرهم بكثرة العطاء، وليحاسبوا عليه وتكون النعمة الكثيرة ابتلاء، وأحيانا يعطي حينا ويمنع حينا ليذوقوا النعمة بعد فقدها، ويختبر صبرهم بإيمانهم، كما قال تعالى: ونبلوكم بالشر والخير فتنة
والمؤمن الصادق الإيمان يصبر في الإعطاء والحرمان، والكافر يطغى بالعطاء ويكفر في الحرمان، ولقد قال تعالى في وصف النفس البشرية: ولئن أذقنا الإنسان منا رحمة ثم نـزعناها منه إنه ليئوس كفور ولئن أذقناه نعماء بعد ضراء مسته ليقولن ذهب السيئات عني إنه لفرح فخور إلا الذين صبروا وعملوا الصالحات أولئك لهم مغفرة وأجر كبير [ ص: 2280 ] ولقد بين سبحانه وتعالى بعد أخلاق اليهود، ومن يشاكلهم من أهل الكتاب، فقال:
وليزيدن كثيرا منهم ما أنـزل إليك من ربك طغيانا وكفرا في هذا النص الكريم يبين سبحانه وتعالى ذلك أن اليهود ليسوا طلاب حق، فيهتدوا إن بدت معالمه، وظهر نوره، بل هم قوم أكل الحقد قلوبهم، واستولى الحسد على نفوسهم، فهم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله، فإذا جاءهم النور ممن يحسدونهم لا يزيدهم ذلك إلا بغيا وظلما وكفرا. عدم رجاء الإيمان من أكثر اليهود؛
وقد أكد سبحانه وتعالى فساد قلوبهم بالقسم المطوي باللام الموطئة له، وبنون التوكيد الثقيلة لكي ينتفي الرجاء في إيمانهم، وليعاملهم النبي -صلى الله عليه وسلم- ومن بعده من المؤمنين على أساس مكنون نفوسهم، وخبايا أحاسيسهم، والطغيان: الظلم الذي يتجاوز كل حد معقول، والذي يبعث عليه الشره وفساد النفس، وزيادة الطغيان، وسببه أن ما أنزل إلى النبي جاء على غير ما يريدون، وأنهم حاسدون، وزيادة بالكفر بالإصرار عليه، وبزيادة مقدار ما يكفرون به من آيات، وبالعناد واللجاجة التي استولت عليهم.
وألقينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة " بينهم " يعني في جمعهم; لأن البين هو الفاصل الذي يكون بين شيئين، ويطلق البين ويراد به ما يلقى أمام الشخص، ومن ذلك قوله تعالى: " من بين أيديهم ومن خلفهم " . وقوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله وقوله تعالى فقدموا بين يدي نجواكم صدقة
والعداوة هي البغضاء المعلنة التي يناوئ فيها المبغض من يبغضه جهارا، والبغضاء هي الكراهية المستكنة والمعلنة، وعندي أنهما معنيان مختلفان، فالعداوة المناوأة الظاهرة، والمقاومة المعلنة، والبغضاء هي الكراهية التي تكون في القلب، [ ص: 2281 ] فهما معنيان متغايران، وإن كانا متلازمين أحيانا، فلا عداوة من غير بغضاء، ولكن قد يفترقان فتوجد البغضاء من غير إعلانها، أي: من المناوأة والمقاومة.
والضمير في قوله تعالى: بينهم يعود على اليهود؛ لأن الحديث عنهم، ولا يدخل فيه النصارى، وقد فهم بعض المفسرين أنه يعود على اليهود والنصارى، والعداوة بين الفريقين مستحكمة إلا عند الذين تحللوا من نصرانيتهم وكادوا يكونون يهودا في أعمالهم.
والواضح أن الضمير يعود على اليهود وحدهم، وقد ألقى الله تعالى بينهم العداوة والبغضاء فقد افترقوا على أكثر من سبعين فرقة، كما ورد بذلك الحديث الصحيح، فمنهم الجبرية والقدرية، والشبهة ومنهم من ينكر البعث، ومنهم الربانيون والقراءون، وبينهم العداوة مستحكمة، وهم ينكرون أن يكون اليهود من غير بني إسرائيل، حتى إنهم لا يعترفون بيهودية من يدخل في دين موسى من غيرهم، فيعادون السامرة الذين لم يكونوا من أصل إسرائيلي.
ويصح أن نفسر قوله تعالى: وألقينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة بأن تستقبلهم بين أيديهم العداوة والبغضاء كالبين في قوله: " من بين أيديهم " . وفي قوله تعالى: لا تقدموا بين يدي الله ورسوله
والمعنى على هذا: ألقينا بين أيديهم عداوة وبغضاء تكون منهم للناس، ومن الناس لهم ذلك بأن ما في نفوسهم من حسد لجوج، ومادية شرسة، وأثرة حاقدة جعلتهم في عداوة مستمرة مع الناس، وجعلتهم مبغضين إليهم دائما، فهم مكروهون من الناس كارهون لهم يعادونهم ويبغضونهم ولا تجد في قلب أحد محبة لهم، ولو كانوا يناصرونهم أحيانا؛ لأن نصرنتهم لأنفسهم ليكونوا آلة ينفذون بها مآربهم، والله سبحانه وتعالى من ورائهم محيط.
كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله إن هؤلاء اليهود لحسدهم المستمر للناس، ولكراهيتهم لهم يثيرون الحروب بين الناس، فهم يثيرونها على غيرهم إذا [ ص: 2282 ] كانت فيهم قوة، أو أحسوا أن فيهم قوة، أو اتخذوا ذريعة للإيذاء، وإذا لم يكن فيهم قوة ولم يحسوها، كان عملهم إيقاظ الأحقاد بين الشعوب، وإثارة العداوات التي تعقبها الحروب، هذا شأنهم الدائم المستمر يدفعهم إلى إثارة أسباب الحروب.
والتعبير بقوله تعالى: كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله
يجري على ما كان عليه العرب من أنهم كانوا إذا أرادوا حربا بالإغارة على غيرهم إما انتقاما أو اعتداء أوقدوا نارا يسمونها نار الحرب، ومهما يكن ما عند العرب من عبارات في هذا، فإن التعبير مجاز؛ إذ عبر عن إثارة الحروب لإيقاد نارها، باعتبار أن الحروب في ذاتها وبما تشتمل عليه من مذابح بشرية تشبه النار المستعرة. وإن اليهود يوقظون الأحقاد ويثيرون الفتن، ويوقدون نيران الحروب، والله من ورائهم محيط وإنما يطفئ ما يوقدون ويحبط ما يدبرون.
ويسعون في الأرض فسادا والله لا يحب المفسدين وإنهم إذ يثيرون الفتن، ويشعلون الحروب، لا يقصدون إلا السعي في الأرض فسادا فكلما مكن لهم في الأرض أفسدوا ولم يصلحوا، وإذا علوا أفسدوا ولم يصلحوا، حتى إذا طغوا وبغوا أرسل الله عليهم شدائد جزاء لفسادهم، ولقد قال تعالى في بيان ما قرره كتابهم وهو التوراة والقرآن بشأنهم: وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب لتفسدن في الأرض مرتين ولتعلن علوا كبيرا فإذا جاء وعد أولاهما بعثنا عليكم عبادا لنا أولي بأس شديد فجاسوا خلال الديار وكان وعدا مفعولا ثم رددنا لكم الكرة عليهم وأمددناكم بأموال وبنين وجعلناكم أكثر نفيرا إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها فإذا جاء وعد الآخرة ليسوءوا وجوهكم وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة وليتبروا ما علوا تتبيرا عسى ربكم أن يرحمكم وإن عدتم عدنا وجعلنا جهنم للكافرين حصيرا
وهذا النص الكريم يفيد أولا: أنهم دأبوا على الفساد من بعد موسى ومن جاء من النبيين كداود وسليمان، وأن نتيجة هذا الفساد كانت وبالا عليهم، فجاء [ ص: 2283 ] بختنصر، وأزال سلطانهم ثم جاء من بعده الرومان فأزالوا سلطانهم، وجعلوهم أذلاء في الأرض.
وتدل ثانيا: على أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- اجتثهم من بلاد العرب، وتدل ثالثا: على أنهم سيدخلون المسجد الحرام كما دخلوه أول مرة، وتدل رابعا: على أنهم سيفسدون فيه كشأنهم؛ إذ يتبرون ما علوا تتبيرا، وتدل خامسا: على رجاء رحمة الله تعالى بعباده المسلمين إذا عادوا إلى التقوى فيعود سبحانه وتعالى عليهم بالنصر؛ لأن اليهود دائما مفسدون. وقد ختم الله سبحانه وتعالى النص الكريم بقوله تعالت كلماته: والله لا يحب المفسدين
فالله تعالى لا يحبهم كما يزعمون ويتوهمون؛ إذ يقولون: نحن أبناء الله وأحباؤه; لأنه سبحانه وتعالى يحب من يعمر الأرض، ولا يفسدها، وأولئك تجار الحروب يفسدون ولا يصلحون، ألم تر أنهم يمنعون كل صلح بين الناس ليتمكنوا من الكسب في صناعة أدوات الحرب، وليستعيدوا مهمتهم في إفساد ما بين الناس.