قد سألها قوم من قبلكم ثم أصبحوا بها كافرين
هذا قصص للعبرة ساقه لأولئك الذين كانوا يتعرفون أحكام الأشياء قبل ميقاتها ويتلهفون على معرفة حكم الله في أمور كانوا يريدون بيان الحكم فيها، وكان موجب ذلك السؤال والتلهف على معرفة الحكم أن يستجيبوا لداعي الله تعالى بالأمر والنهي، ولكنهم بعد أن [ ص: 2374 ] جاء الحكم المقرر الثابت تركوه هاجرين له، بل منكرين وجاحدين، فليست العبرة بتعجل المعرفة إنما الاعتبار للإيمان به، وأخذ الأنفس بتنفيذه، والمبادرة بالاستجابة.
والضمير في قوله تعالى: سألها يعود إلى الأشياء على تقدير السؤال عن حكمها، وسأل تتعدى بنفسها، كما تتعدى بـ: "عن"، وقد كان سؤالهم قبل الميقات الذي عينه الله تعالى، ثم لما حان الميعاد جاء التحريم، مع أنهم كانوا يسألون قبل الميقات جحدوه وكفروا به، وفي الكلام مقدر محذوف دل عليه السياق، وهو أنهم سألوا في غير الموعد، ثم نزل الحكم في الموعد، فأصبحوا كافرين، وفي الكلام بعض إشارات بيانية، يتقاضانا البحث ذكرها.
الأولى: حذف إنزال التحريم، وحذفه لأنه ليس العبرة فيه، إنما العبرة في أنهم سألوا ولجوا في السؤال ثم لما جاء التحريم كفروا.
الثانية: التعبير بـ: "ثم" الدالة على التراخي; لأنه يدل على التباعد المعنوي بين اللجاجة في السؤال ثم الجحود والكفر بعد ذلك كأنهم كانوا يريدون حكما على هواهم، فلما جاء بما لا يهوون كفروا.
الثالثة: التعبير بقوله تعالى: ثم أصبحوا بها كافرين فكلمة (أصبحوا) تدل على أنهم كانوا مؤمنين، والتحريم حولهم من الإيمان إلى أشد الجحود؛ إذ صاروا كافرين، أي: أن الكفر صار وصفا لهم، ولم يكن حالا عارضة لهم والله الهادي إلى سواء السبيل.