يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية اثنان ذوا عدل منكم أو آخران من غيركم إن أنتم ضربتم في الأرض فأصابتكم مصيبة الموت تحبسونهما من بعد الصلاة فيقسمان بالله إن ارتبتم لا نشتري به ثمنا ولو كان ذا قربى ولا نكتم شهادة الله إنا إذا لمن الآثمين فإن عثر على أنهما استحقا إثما فآخران يقومان مقامهما من الذين استحق عليهم الأوليان فيقسمان بالله لشهادتنا أحق من شهادتهما وما اعتدينا إنا إذا لمن الظالمين ذلك أدنى أن يأتوا بالشهادة على وجهها أو يخافوا أن ترد أيمان بعد أيمانهم واتقوا الله واسمعوا والله لا يهدي القوم الفاسقين
[ ص: 2381 ] في الآيات السابقة ذكر سبحانه وتعالى أحكام الطيبات وأنه لا يجوز تحريمها، وأن المشركين يحرمون على أنفسهم ما أحل الله تعالى، ويدعون أن تحريم ذلك دين متبع، وقد بين سبحانه وتعالى بطلان ذلك، وبين سبحانه وتعالى أن على المؤمنين أن يحفظوا أنفسهم، ويلتزموا الهدى، وألا ينحرفوا عن الحق، وفي هذه الآيات المقبلة بيان طريق من طرق الإثبات؛ وهو الإثبات بالشهادة، والجملة السابقة كانت لبيان الحق في عامة صوره وأحواله، وهذه الآيات في صورة منه وهي أدق الصور، وهي التي تكون بعد الوفاة، لقد قال تعالى: يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية اثنان ذوا عدل منكم قال فخر الدين الرازي في الربط بين هذه الآية وما قبلها: "اعلم أنه تعالى لما أمر بحفظ النفس في قوله تعالى: عليكم أنفسكم أمر في قوله تعالى: بحفظ المال يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم وموضوع هذه الآية أدق الموضوعات في باب الإثبات، وقد قرر علماء القانون الوضعي دقة الإثبات في موضوعها، وهو الوصية التي تكون في سفر، ويموت صاحبها في هذا السفر، وإنهم قد تساهلوا في طرق الإثبات فيها تحققا من صحة الوصية والأموال ومآلها، حتى لقد قال بعض القانونيين: إنه تثبت الوصية بالكتابة على الرمل لمن حضرته الوفاة وهو نائم على ذلك الرمل; وذلك لأن الإثبات في هذه الحال التي مات فيها صاحب الوصية من غير أن يتمكن من أن يكتب وصيته صعب.
[ ص: 2382 ] ولهذا شدد الإسلام في ضرورة والشخص قوي معافى، حتى لا يدركه الموت قبل أن يتمكن، حتى أن كتابة الوصية ليقول: (لا يحل لمؤمن إلا أن يبيت ووصيته مكتوبة قد وضعها تحت وسادته). عبد الله بن عمر
الخطاب في قوله تعالى للمؤمنين بقوله تعالت كلماته: يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم للإشارة إلى أنه من مقتضيات الإيمان العناية بالوصية، ونقلها وتنفيذها بالعدل، كما قال تعالى: فمن خاف من موص جنفا أو إثما فأصلح بينهم فلا إثم عليه
نصابها اثنان ذوا عدل منكم والعدالة هي الصدق في القول، والأمانة على المال، والقيام بأوامر الدين، والانتهاء عن منهياته، بحيث لا يجاهر بمعصية، ولا يرتكب منكرا إلا اللمم كما قال تعالى: والشهادة على الوصية الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم والقيام على الوصية يكون بتنفيذها كاملة موفورة، والمحافظة على الأموال، ونقل إرادة صاحب تلك الأموال.
وإنه لا يتوافر العدل في كل الأحوال في الوصية؛ فإنه قد يكون الموت في سفر، ولا يتوافر العدل من المؤمنين، فقد يكون المصاحب للمتوفى من غير المؤمنين، أو من غير العدول، ففي هذه الحال يتساهل وتقبل شهادة غير المسلمين؛ ولذا قال سبحانه:
أو آخران من غيركم إن أنتم ضربتم في الأرض فأصابتكم مصيبة الموت
قوله تعالى: أو آخران من غيركم ما المراد بهذا المغاير; وذلك يستدعي بلا ريب تفسير (منكم) فقد قال بعض العلماء: إن منكم معناها: من قبيلتكم، أو من أقاربكم، ويكون من غيركم معناه: من غير قبيلكم أو من غير ذوي قرابتكم، والجميع في دائرة أهل الإيمان، ويتمسك هذا الفريق بأنه لا تقبل شهادة غير المؤمن، فلا يمكن أن يكون المراد من غيركم الكافرين; لأن الكافر لا تقبل شهادته على المؤمن عندهم.
[ ص: 2383 ] وقد قال آخرون: إن المراد بقوله تعالى: " منكم " هو أن يكون الخطاب للمؤمنين; لأن النداء في الذين آمنوا لا في قبيل منهم؛ إذ النداء لهم قاطبة لا لفريق منهم، ولذلك يكون الاثنان اللذان من غيرهم من غير المؤمنين، ومقتضى هذا التخريج أن تقبل شهادة غير المسلمين في هذه الحال، وقد أجازها جمع من التابعين منهم سعيد بن المسيب وابن سيرين، ويحيى بن يعمر، وعكرمة، ومجاهد، وسعيد بن جبير، والشعبي، وإبراهيم النخعي، وقتادة، وهذا رواية عن وشريح القاضي، وقد قرروا أن أحمد بن حنبل، تقبل في حال السفر، وعلى أن تكون الشهادة في وصية كما نص القرآن الكريم، وذلك لمقام الضرورة، ولمنع ضياع الحقوق ما أمكن؛ ولأن ذلك يشبه التحري، ويكون المراد من العدالة الاشتهار بالصدق والأمانة، ومنهم من يكون كذلك، وإن أصاب الضلال اعتقاده، وثانيا: لأن قبول شهادتهم استثناء فيقتصر على موضع الوصية، فيقتصر على مورد النص، وهي تقييد الحال بحال السفر، وتقييد الموضوع بأن يكون في الوصية. شهادة غير المسلم على المسلم
وهنا إشارات غير لفظية:
الأولى: قوله تعالى: إن أنتم ضربتم في الأرض المراد به إذا سافرتم; لأن المسافر يضرب في الأرض، وقد أشرنا إلى ذلك من قبل.
الثانية: قوله تعالى: فأصابتكم مصيبة الموت أي: نزل بكم، وسماه سبحانه وتعالى مصيبة; لأنه بطبيعته يؤلم أو يصحبه أو يقارنه أو يسبقه آلام نفسية، ولأنه حق ليس بمحبوب وخصوصا لمن يموتون حتف أنفسهم، ولا يموتون استشهادا في سبيل الله تعالى، ورجاء لقائه، ولأنهم يفدون بموتهم جماعة المؤمنين; فالثمن الذي أخذوه أغلى من الموت الذي قدموه.
الثالثة: أنه عندما ذكر سبحانه الاثنين من غير المؤمنين لم يذكر العدالة ولكن المفروض أن يكونا صادقين اشتهرا بالأمانة، ولكن لم تذكر العدالة; لأنه لا يمكن أن يكون غير المؤمن عدلا عدالة مطلقة، بل تكون مقيدة.
[ ص: 2384 ] هذا، ويلاحظ أن الأئمة الثلاثة مالكا والشافعي وأصحابه لا يقبلون شهادة غير المسلم على المسلم مطلقا في سفر أو حضر، في وصية أو غير وصية، ويظهر أنهم يسيرون على التخريج الأول. وأبا حنيفة
وقد بين سبحانه طريق أداء الشهادة، فقال: تحبسونهما من بعد الصلاة فيقسمان بالله إن ارتبتم الضمير في قوله تعالى: تحبسونهما من بعد الصلاة يعود على الشاهدين ذوي العدل من المسلمين أو من غيرهما، والحبس الإمساك لأداء الشهادة اللازمة حتى تؤدى، والصلاة كما يفسر التابعون الذين تلقوا تفسير أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يراد بها صلاة العصر; إذ يكون وقت استجمام النفس، واستحضار عظمة الله تعالى، وطيب الجو، والفقهاء يعتبرون من السنة سماع الشهادة بعد صلاة العصر، حيث تكون النفوس قارة مطمئنة، وإذا كانا غير مسلمين، فإنهما يسمعان بعد صلاتهم.
وهذا حكم عام، ويلاحظ أن شهود الوصية لهم صفتان: إحداهما: صفة الشاهد العدل المخبر عن الواقع الناطق بالصدق فيه الذي يشهد على مثل الشمس عيانا.
الصفة الثانية: أنهما وصيان للميت أمينان على ماله، يحافظان عليه، حتى يصل إلى أهله، ويسلم إليهم موفورا غير منقوص، ولذلك كان حقا عليهما أمانة الله تعالى، ولذلك كان أي ريب فيهما يؤدي إلى ضياع المال وحق المتوفى، وحق ذويه، ولذلك شرع القسم إن كانت ريبة؛ أي ريبة كانت، ولو كانت نفسية ليس لها مظاهر مادية؛ ولذا قال: فيقسمان بالله إن ارتبتم وهذا النص الكريم يفيد أن الحبس بعد الصلاة والقسم على صدق القول لا يكون إلا حال الارتياب، وبهذا يرد قول الذين يقولون: إن الشهود لا يستقسمون، أولا: لأن هؤلاء ليسوا شهودا من كل الوجوه؛ لأن لهم صفة أنهم أوصياء، والأوصياء يحلفون إن كان ثمة ريبة في تصرفهم.
وثانيا: لأن الحال حال استثنائية فيجب ما أمكن الاحتياط، والحلف عند الارتياب، فلا بد من توثيق القول بالوثائق، لكي يكون الاطمئنان بدل الشك والارتياب، وبين سبحانه تتميما للاستيثاق صيغة اليمين، فقال: [ ص: 2385 ] لا نشتري به ثمنا ولو كان ذا قربى ولا نكتم شهادة الله إنا إذا لمن الآثمين الشراء يطلق بمعنى البيع، والمعنى لا نبيع يمين الله تعالى الذي أقسمنا به، ولا عهدنا الذي عاهدناه بهذه اليمين بأي ثمن كائنا ما كان، وبأي قدر كان، فالضمير يعود على القسم بالله المفهوم من قوله تعالى: فيقسمان بالله إن ارتبتم وقال تعالى: ولو كان ذا قربى أي: ولو كان الذي يستفيد من شهادتنا ذا قرابة قريبة، فكلمة قربى لا تطلق إلا على القرابة القريبة التي تحمل غير الأتقياء على ومن موضوع القسم، والتغليظ فيه عدم كتمان الشهادة، وكتمانها هنا يشمل ثلاث صور من الكتمان: الكذب في الشهادة،
أولاها: أن يخفي بعض الحق.
وثانيها: أن يخفي بعض الموصى به فلا يذكره كله.
والصورة الثالثة: لمن لا ينقل كلاما للموصي يحرر إرادته، ومن مؤكدات القسم أن يقولوا مع قولهم في القسم: "لا نكتم": إنا إذا لمن الآثمين
وذلك بأن يقروا على أنفسهم بالإثم إن حادوا أو كذبوا في يمين الله، أو قالوا غير الحق الذي كانوا أوصياء عليه، وقد أكدوا الإثم على أنفسهم في إيمانهم بمؤكدات أربعة: أولها: التعبير بالجملة الاسمية، ثانيها: التوكيد بـ: "إنا".
ثالثها: اعتبار الحكم على أنفسهم بالإثم نتيجة منطقية لأعمالهم، ولإخفائهم الحق.
ورابعها: أن يخرجوا من زمرة الأبرار الأطهار ويدخلوا في زمرة الآثمين الأشرار، والأمر بالنسبة للذي غيب في التراب، وهو لا ينطق بما يريد، ويبين ما عليه حاله وماله يوجب الاحتياط فيهما قبل الشهادة، والتحري على أمره بعد وفاته، فعسى أن يكون حق قد ضاع شيء، وقد تبين سبحانه حال العثور عليه، فقال: