إذ قال الله يا عيسى ابن مريم اذكر نعمتي عليك وعلى والدتك إذ أيدتك بروح القدس تكلم الناس في المهد وكهلا
"إذ" هنا بدل من: يوم يجمع الله الرسل أي اتقوا الله واسمعوا يوم الجمع، ووقت أن يخاطب عيسى -عليه السلام- بهذا الخطاب، وعيسى -عليه السلام- بعث في قوم لا يؤمنون إلا بالمادة، وبالأسباب الظاهرة، ويسندون كل أمر في هذا الوجود إلى سبب يعلمونه، لا يؤمنون بالروحانيات، ويكفرون بما لا يعلمون بالأسباب، فجاء عيسى -عليه السلام- روحانيا ظاهر الروحانية، وجاء من غير أب ليكون شخصه خرقا للأسباب، ولتكون مظاهر حياته دافعة للمادة، يخاطب الله عيسى -عليه السلام- بقوله تعالى: يا عيسى ابن مريم وفي هذا النداء إشارة إلى أنه ابن مريم لا ابن أحد سواها؛ فقد ولد من غير أب، والإله أو ابن الإله لا يمكن أن يكون متولدا، ولا يمكن أن يكون محدثا ومخلوقا، فهذا النداء في ذاته مع بيان حقيقة سيدنا المسيح عليه السلام رد عليهم وعلى افترائهم في وقت لا يستطيعون فيه تمويه الباطل وتزيينه بقول الزور والبهتان الآثم.
[ ص: 2394 ] وقد ذكر سبحانه وتعالى عيسى -عليه السلام- في ذلك اليوم المحشود، وما كان التذكير إلا للمبطلين الذين افتروا عليه، وهو سرد لنعم الله تعالى على عيسى وأمه، وأنه مخلوق من فضل الله، وما أعطي من خواص فبفضل من الله تعالى، وهو مانحها ومعطيها، وما دام هو المانح، وهو المعطي، فلا فضل لعيسى على أحد إلا بفضل من أعطى، ولا يمكن أن يكون له ولدا أو قرينا.
وابتدأ سبحانه بتذكير نعمته عليه وعلى أمه، ونعمته على والدته مشهورة في القرآن قد ذكرها سبحانه وتعالى في سورة آل عمران فقال: إن الله اصطفى آدم ونوحا وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين ذرية بعضها من بعض والله سميع عليم إذ قالت امرأت عمران رب إني نذرت لك ما في بطني محررا فتقبل مني إنك أنت السميع العليم فلما وضعتها قالت رب إني وضعتها أنثى والله أعلم بما وضعت وليس الذكر كالأنثى وإني سميتها مريم وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم فتقبلها ربها بقبول حسن وأنبتها نباتا حسنا وكفلها زكريا كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقا قال يا مريم أنى لك هذا قالت هو من عند الله إن الله يرزق من يشاء بغير حساب
إلى أن قال سبحانه: وإذ قالت الملائكة يا مريم إن الله اصطفاك وطهرك واصطفاك على نساء العالمين يا مريم اقنتي لربك واسجدي واركعي مع الراكعين
كانت السيدة مريم -على هذا النسق المتلو- مصطفاة من قوم مصطفين أخيار أطهار وكفلها نبي، وخاطبتها الملائكة حتى قال الأكثرون: إن فيها نبوة ولا يعلم أن أنثى كانت من الأنبياء غيرها.
ونعمة الله تعالى على سيدنا عيسى ذكرها الله تعالى بقوله تعالى:
إذ أيدتك بروح القدس تكلم الناس في المهد وكهلا نعمتان ذاتيتان كانتا مع شخص المسيح -عليه السلام- وليس فيهما أمر كسبي، بل فيهما خلق روحاني، أما الأولى، وهي التأييد بروح القدس فلها تخريجان أو هما معا، أولهما: أن الله تعالى أيده بطبيعة روحانية مطهرة في وقت سادت فيه المادية [ ص: 2395 ] وسيطرت، فخلق الله تعالى فيه تلك الطبيعة الروحانية، فمعنى قوله: روح القدس روح الطهارة والنزاهة والكمال الذي اتسم به، وأي نعمة أجل من هذه النعمة، والتخريج الثاني أن معنى أيدناه بروح القدس أيدناه بجبريل عليه السلام، فقد عبر في القرآن بروح القدس وأريد به جبريل، كما قال تعالى: قل نـزله روح القدس
وعندي أن الأمرين يجوز جمعهما، وكلاهما صادق؛ فعيسى عليه السلام كان روحانيا مطهرا، وكان مملوءا بالروح المطهرة، وأيده جبريل هو وأمه، كما قال تعالى، في تبشيرها بالمسيح عليه السلام وولادته: واذكر في الكتاب مريم إذ انتبذت من أهلها مكانا شرقيا فاتخذت من دونهم حجابا فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشرا سويا قالت إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا قال إنما أنا رسول ربك لأهب لك غلاما زكيا قالت أنى يكون لي غلام ولم يمسسني بشر ولم أك بغيا قال كذلك قال ربك هو علي هين ولنجعله آية للناس ورحمة منا وكان أمرا مقضيا فحملته فانتبذت به مكانا قصيا فأجاءها المخاض إلى جذع النخلة قالت يا ليتني مت قبل هذا وكنت نسيا منسيا فناداها من تحتها ألا تحزني قد جعل ربك تحتك سريا وهزي إليك بجذع النخلة تساقط عليك رطبا جنيا فكلي واشربي وقري عينا فإما ترين من البشر أحدا فقولي إني نذرت للرحمن صوما فلن أكلم اليوم إنسيا فأتت به قومها تحمله قالوا يا مريم لقد جئت شيئا فريا يا أخت هارون ما كان أبوك امرأ سوء وما كانت أمك بغيا فأشارت إليه قالوا كيف نكلم من كان في المهد صبيا قال إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبيا وجعلني مباركا أين ما كنت وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيا وبرا بوالدتي ولم يجعلني جبارا شقيا والسلام علي يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حيا
هذه نعمة التأييد، وهناك نعمة أخرى هي في ذاتها نعمة، ولذا ذكرت منفصلة مقرونة بكلمة "إذ" أي اذكر- وهي أنه تكلم في المهد، أي: تكلم وهو مولود، فالمهد مكان تربية الطفل عقب ولادته، وذلك تأييد لبراءة مريم البتول [ ص: 2396 ] وذكر كلامه وهو كهل، عندما استوى رجلا مكتملا، للإشارة إلى أن كلامه وهو في المهد يشبه كلامه وهو رجل مكتمل، وتلك حكمة الله تعالى، وبيان أن الأسباب لا تتقيد بها إرادة الله تعالى.
وإذ علمتك الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل كان ما سبق هداية ربانية صرفة، وتأييدا لصدق أمه وبراءتها، وإرهاصا بنبوته، وهو منحة ليس لكسب العبد فيه إرادة، وهذه النعمة الأخيرة التي جاء بها ذلك النص الحراءتها، وإركيم هي نعمة للعبد فيها كسب، وللإرادة البشرية فيها مكان فوق أنها جميعا لله تعالى، ولذلك أضاف سبحانه التعليم إليه، فالتعليم منه سبحانه، والتعلم من عيسى عليه السلام، والكتاب، يفسره بعض العلماء بالكتابة، فلم يكن عيسى عليه السلام أميا، بل كان قارئا؛ لأن معجزاته الكبرى لم يكن كتابا منزلا من عند الله يتحدى به البشر أن يأتوا بمثله، ولأنه لم يكن في قوم أميين، بل كان في قوم فيهم علم الكتابة وفيهم الدراسة والبحث ولهم فلسفة.
وفسر الكتاب بعض العلماء بما سبقه من كتب النبيين كزبور داود وما جاء عن أخبار سليمان وإبراهيم عليه السلام وإسحاق ويعقوب والأسباط.
ويصح أن يراد الأمران؛ وهو ما نختاره، فالله سبحانه وتعالى قد ألهمه تعلم الكتابة وقرأ بها كتب النبيين وأخبار من سبقوه.
والحكمة هي في العرف الأدبي العام العلوم النافعة، والكلام المحكم الدقيق العميق الذي يكشف للناس عن أسرار هذا الوجود، ونفوس الناس، ويوجهها إلى الخير، ويدخل في الحكمة على هذا كل التعليمات المرشدة الهادية إلى مكارم الأخلاق، وقد كان سيدنا عيسى -عليه السلام- نبيا حكيما مرشدا أمينا.
وعلم الله تعالى رسوله الأمين التوراة التي نزلت على موسى والإنجيل الذي نزل عليه صلوات الله تعالى وسلامه عليه، ولماذا ذكر سبحانه وتعالى التوراة مع أنها قد تكون داخلة في ضمن الكتاب الذي علمه أولا؟ ونقول في الجواب عن ذلك: بأن التوراة تحتمل الدخول في الكتب المذكورة أولا، وتحتمل أن يقصد [ ص: 2397 ] بالكتاب الثقافة العامة الدينية وما كان شائعا من أفكار مدونة في عصره، وبذلك لا تشتمل التوراة، وتحتمل اشتمال كلمة الكتاب الذي يراد به الجنس على التوراة، ويكون تخصيصها بالذكر مقترنة بالإنجيل، للإشارة إلى أنهما متلازمان وأن الإنجيل الذي جاء به عيسى -عليه السلام- متمم للتوراة التي جاء بها موسى عليه السلام، وأنه منفذ لأحكامها إلا ما جاء به الإنجيل ناسخا لها.
بعد هذا التعليم الذي علمه لعيسى -عليه السلام- أخذ سبحانه وتعالى يذكر بعض وهي كبراها، فقال: معجزاته،
وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير بإذني فتنفخ فيها فتكون طيرا بإذني كل معجزاته -عليه السلام- كانت من جنس طبيعته التي فطره الله تعالى عليها، لقد كانت ولادته خارقة للعادة; إذ خلقه الله سبحانه وتعالى من غير أب يلقي النطفة في رحم، بل ولد من أم من غير أب، لبيان أن الله تعالى لا تحكمه الأسباب التي تجري في مجرى العادات، إنما هو سبحانه خالق الأسباب والمسببات فعال لما يريد، لا تخضع إرادته لسلطان سبحانه وتعالى، فمعجزات عيسى كلها بيان لأن الله تعالى فوق قاعدة السببية التي كانت مسيطرة في ذلك العصر المادي الذي كان لا يذعن إلا للأسباب والمسببات المادية.
وهذه المعجزة باهرة قاطعة في أن الخالق لهذا الكون لا تحكمه الأسباب؛ إذ إن الناس يجدون أسباب الخلق هو التوالد بأن تحمل الأنثى من ذكر، وتلد، ثم يكون الحي من بعد ذلك، فيكون من خرق الأسباب أن يكون الحي بإجراء الحياة على يد مخلوق لله تعالى، فقد أذن لعيسى -عليه السلام- أن يصور من الطين كهيئة الطير، فمعنى "خلق" هنا هو تصويره جسدا من الطين، وجعله على شكل طائر، ثم نفخ فيه بإذنه سبحانه، فيكون طيرا بإذن الله تعالى.
وذكرت كلمة (بإذني) عند تصوير شكل الطير، وعندما صار طيرا; للإشارة إلى أن كل ذلك من عند الله، وأنه الخالق وليس عيسى هو الخالق، ولكنه سبحانه وتعالى أجرى الخلق على يديه.
[ ص: 2398 ] وتبرئ الأكمه والأبرص بإذني وإذ تخرج الموتى بإذني الأكمه هو المولود أعمى، ويقال لمن طمست عينه بفقء أو نحوه: كمهت عيناه، والبرص داء إلى الآن لم يوجد له دواء يشفيه وقد يوجد دواء يجعله أسهل احتمالا مع بقائه.
وقد كان سيدنا عيسى يبري الأكمه بإذن الله تعالى فيجعله مبصرا، وذلك يشبه إيجاد الحياة في غير الحي; لأن إيجاد البصر في غير المبصر، والمولود غير مبصر، وغير قابل للإبصار بحكم الأسباب الطبيعية يعد إنشاء وإيجادا، ويقاربه علاج البرص؛ لأنه بدوامه يشبه الذي يكون جبلة، وإذا كانوا لا يعرفون سببا للشفاء فالله تعالى خالق الأسباب أجرى الشفاء على يدي عيسى عليه السلام؛ لأنه سبحانه فعال لما يريد، وكان معجزة لعيسى عليه السلام.
وهناك معجزة رابعة، وهي إحياء الموتى، وقد ذكرت هذه المعجزة في سورة آل عمران على لسان عيسى -عليه السلام- بما حكاه الله تعالى عنه بقوله: وأحيي الموتى بإذن الله والمذكور هنا هو قوله تعالى:
وإذ تخرج الموتى بإذني والنصان يتلاقيان في المؤدى، وإن اختلفا في اللفظ، فالأول يفيد أن سيدنا عيسى عليه السلام قد أجرى الله تعالى على يديه إحياء الموتى إذا لم يكن قد دفن، وذلك ما يدل عليه النص الأول، والثاني يدل على أنه قد أجرى الله تعالى على يديه إحياء الموتى بعد دفنها ووضعها في قبورها، فقد كان عليه السلام يجري الله تعالى على يديه إخراجها من القبور أي: أنها تحيا في قبرها، وتخرج إلى الوجود في حياة.
وإحياء الموتى بعد الدفن أو قبل الدفن غير تصوير الطين طيرا ثم النفخ; لأن هذا إيجاد للحياة في جماد، والثاني إعادة للحياة وقد ذكرت كلمة (بإذني) في كل هذا، لبيان أن العمل ليس لعيسى، وإن جرى على يديه، إنما هو لله سبحانه وتعالى خالق كل شيء.
وقد كان موجب هذه البينات الباهرة القاهرة أن يؤمنوا، ولكن بني إسرائيل فيهم عناد وطغيان فكفر كثيرون، وهموا بأذى عيسى -عليه السلام- فكانت نعمة [ ص: 2399 ] الله تعالى عليه أن يكفهم عنه، فقال تعالى: وإذ كففت بني إسرائيل عنك إذ جئتهم بالبينات فقال الذين كفروا منهم إن هذا إلا سحر مبين لا تزيد الحجة المتعنت إلا طغيانا وكفرا، وكلما قويت الحجة تحركت في نفسه عوامل الحسد والحقد، فأوجدت ضغنا فيطمس الله تعالى على بصيرته، فلا يدرك.
جاءهم عيسى -عليه السلام- بالبينات أي: الحجج المبينة لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، فناوءوه العداوة؛ لأنه كانت لهم الرياسة الدينية، وهذه الحجج إن اتبعوا ما توجبه حسبوا أن الرياسة تذهب منهم، فقاوموها، ولا يمكن أن يقاوم صاحب الحق إلا بالباطل، ولا يمكن أن يقاوم صاحب الحجة والبرهان الساطع إلا بالباطل، لذلك قاوموا بطرق ثلاثة كلها شر، حاربوه بتأليب الناس ودعوة أتباعهم إلى الإعراض عنه، وحاربوه ثانيا بالأذى ينزلونه به، والتحريض عليه، والائتمار به، ولكن دعوته كانت تنفذ إلى القلوب من غير حجاب، وذلك لأن الله كف عنه أذاهم، ولما يئسوا منه خلصوا إلى الطريق القاتل، وهو الدس عند ذوي السلطان، وكانت نعمة من الله تعالى عليه أعظم وأوضح، فقد نجاه الله تعالى من أيديهم، كما قال تعالى: وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم وقوله تعالى: وما قتلوه يقينا بل رفعه الله إليه
كف الله تعالى الأذى عن سيدنا عيسى -عليه الصلاة والسلام- وقد كفروا مع ظهور هذه الآيات الباهرة التي فيها البرهان القاطع الذي لا يقبل جدلا، أشار الله تعالى إلى ما اتخذوه من تعلات بقوله تعالت كلماته: فقال الذين كفروا منهم إن هذا إلا سحر مبين
أي: إذا كانت هذه البينات ظاهرة، فهي لا ترفع اللجاجة من الذين كفروا وجحدوا؛ لأن الذين يكفرون بالحق عندما يجيئهم يسارعون بالكفر، ثم يحاولون أن يوجدوا ما يبرر كفرهم، كشأن كل من يحكم بالباطل يسارع إليه؛ لأنه غاية [ ص: 2400 ] مراده له، ثم يتلمس التعلات لكفره، أو بعبارة أخرى: يحكمون بالباطل، ثم يحاولون سماع الشهادات الباطلة التي تؤيد ذلك الباطل، لقد قالوا: إن كل ما فعله عيسى -عليه السلام- من تصوير الطير والنفخ فيه بالحياة، وإبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى- ما هو إلا سحر مبين، أي: بين واضح مع أنه أمور واقعة محسوسة، وليست تمويها باطلا خادعا، ولا تخييلا غير واقع، مما يدل على أن المبطل اللجوج لا يقنعه دليل مهما يكن، اللهم اجعلنا مع الحق، وللحق.