وما الحياة الدنيا إلا لعب ولهو وللدار الآخرة خير للذين يتقون أفلا تعقلون
في هذا النص تكون المقابلة بين الحياة الدنيا والآخرة، أو الحياة العاجلة والحياة الآجلة، أو بالأحرى بين من يطلب الحياة الدنيا من غير نظر إلى ما وراءها من حياة أخرى، ومن يطلب الحياة الآخرة، وأيهما أمثل، ولذلك كان حصر الحياة الدنيا في أنها لهو ولعب؛ فإن هناك حصرا بالنفي والإثبات، فهي مقصورة على اللهو واللعب، وذلك لمن يطلبها من غير نظر إلى ما وراءها من حياة أخرى، فإنه حينئذ لا ينظر إلا إلى لذائذها وشهواتها، ولا تكون حينئذ إلا لهوا ولعبا، واللهو واللعب هما الاشتغال بما لا يجدي في ذاته، ولكن قد يختلفون في حقيقتهما مع قربهما في المعنى، فاللعب العمل الذي لا مقصد منه إلا تزجية الفراغ وقضاء الوقت، وقد يكون عبثا، واللهو طلب ما يلهي عن الجد من الأمور من ملاذ [ ص: 2483 ] وأهواء وشهوات، والفرق بينهما غير محدود، بل هما متقاربان يستعمل أحدهما في موضع الآخر، ومهما يكن؛ فإن الاشتغال بكل واحد منهما لغير غاية مجدية مذمة لا تجوز من عاقل، وإذا قصد بأحدها الاسترواح حتى يقوى على الجد من غير سأم ولا إملال فربما لا يكون قبيحا.
وإن قصر الحياة على اللهو واللعب إنما هو لمن أهمل ما وراءها، أما من عنى بما وراءها وقام بالجد من الأمور، فإنها الطريق إلى الآخرة، وهي طريق الذين يتقون.
وكانت المقابلة للدلالة على موضوع القصر؛ فإن الذين يتقون هم من الذين يعيشون في الدنيا، ولكن لم تكن لهم كل شيء، بل ما نظروا إليها إلا ليطلبوا الآخرة بها والله على كل شيء قدير.
وقوله: وللدار الآخرة خير للذين يتقون
في هذه مقابلة بين الذين يطلبون الدنيا لذاتها، والذين يطلبون بها الآخرة; إذ الأولون تكون عندهم لعبا ولهوا، والآخرون تكون عندهم جدا، يطلبون ما في الدنيا لغاية وراءها، ولا يطلبونها لذاتها، وهذه المقابلة فهمت بالصراحة في الكلام بشأن الأولى، وهو الخسران، وفهمت بذات المقابلة في الثانية، وهناك مقابلة أخرى؛ وهو أن عاقبة الآخرين خير، وهذه فهمت بصراحة في الثانية، وبالمقابلة ذاتها في الأولى وهو الخسران أيضا، وقد أكد الله تعالى الخيرية لأهل التقوى فأكد باللام المؤكدة، ثم خاطب الله تعالى الناس فقال تعالت كلماته: أفلا تعقلون الاستفهام هنا للحث على التفكر والتدبر، والمقابلة بين اللذات العاجلة السريعة الفانية، واللذات الآجلة الدائمة الباقية.