وحدة المؤمنين باتباع ملة إبراهيم
قولوا آمنا بالله وما أنـزل إلينا وما أنـزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما هم في شقاق فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم صبغة الله ومن أحسن من الله صبغة ونحن له عابدون
* * *
يجمع الرسل على اختلاف ما أنزل على النبيين من كتب لا تتباين في معناها ، وإن اختلفت أزمانها ، يجمع هذه الكتب أنها كلها في لبها وغايتها ملة إبراهيم عليه السلام ، فهي ملة جامعة لا تختلف رسائل النبيين ولا تتباين عندها ، [ ص: 423 ] فهي ملة النبيين أجمعين ، وقد كانت رسالة محمد - صلى الله عليه وسلم - هي ملة إبراهيم عليه السلام ! ولذا قال تعالى : وما جعل عليكم في الدين من حرج ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من قبل وقد تلونا هذا النص الكريم من قبل ، ولذا دعا الله سبحانه وتعالى المؤمنين أن يعلنوا أنهم يؤمنون بذلك فقال تعالى مخاطبا المؤمنين : قولوا آمنا بالله وما أنـزل إلينا وما أنـزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم
وإن هؤلاء جميعا على ملة إبراهيم ، وهي التوحيد ، وهذا كقوله تعالى : شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه كبر على المشركين ما تدعوهم إليه الله يجتبي إليه من يشاء ويهدي إليه من ينيب
إن إبراهيم ويعقوب وصى كلاهما أبناءه بملته ، واتبعه من بعدهم موسى وعيسى والنبيون الذين كانوا بين موسى وعيسى عليهم السلام ، فهم جميعا على ملة واحدة جامعة ، وهي ملة إبراهيم التي هي التوحيد والتنزيه ، والاستقرار على الحق ، والحنيفية السمحة .
وقد أمر الله تعالى المؤمنين ، ولم يكن أمره إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وحده ، بل كان أمره له ولمن اتبعه ، وفيه بيان أن إيمانهم هو إيمان إبراهيم ، وبنيه ، ويعقوب وبنيه ، والنبيين أجمعين ، فهو إيمان عام بالرسالة الإلهية لا فرق بين رسول ورسول ، ولذلك قال بحق بعض الذين علموا الإسلام وما يدعو إليه : إن الإسلام دين عام .
وقيل لمسيحي أسلم : لماذا خرجت عن المسيحية ؟ فقال : إني لم أخرج عن المسيحية دين المسيح ، ولكن دخلت فيها بدخولي في الإسلام .
أمر الله المؤمنين أن يقولوا : آمنا بالله وما أنـزل إلينا وما أنـزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط والأسباط هم ولد يعقوب عليه السلام الذي قال لهم : ما تعبدون من بعدي ، وهم اثنا عشر ، وقد ذكر القرآن لهم ذلك العدد في رؤيا يوسف بن يعقوب ، إذ قال الله تعالى عنه : إذ قال يوسف لأبيه يا [ ص: 424 ] أبت إني رأيت أحد عشر كوكبا والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين قال يا بني لا تقصص رؤياك على إخوتك فيكيدوا لك كيدا إن الشيطان للإنسان عدو مبين وإن الأحد عشر كوكبا رمز لأبناء يعقوب غير يوسف ، وبضم يوسف إليهم يكونون اثني عشر . . والأسباط واحدهم سبط ، وهو بمنزلة القبيلة في العرب ، وسموا الأسباط من السبط وهو التتابع ، فهم جماعة متتابعون ، وقيل إن السبط هو الحفيد ، وسموا بذلك لأنهم في أصلهم حفدة إبراهيم .
ولماذا ذكر الأسباط مع أن ذكر يعقوب يغني عن ذكرهم ، لأنهم أبناء يعقوب ، وقد وصاهم باتباع ملة إبراهيم وشدد في الوصية ؟ والجواب عن ذلك أنهم صاروا من بعده جموعا ، كونوا العشائر والقبائل ، فكانت لهم صفة بهذا الانفراد وقد أمر الله تعالى المؤمنين ، بأن يقولوا لا نفرق بين أحد منهم لأنهم جميعا يتكلمون عن الله ، ويذكرون أمره ونهيه ، ورسالتهم رسالة من الله تعالى ، ونحن له مسلمون أي أسلمنا وجهنا وقلوبنا وكل جوارحنا له سبحانه وتعالى ، جمع الله قلوبنا ونفوسنا وحواسنا لتكون لله تعالى ، وهو الحكيم العليم .
إن ذلك هو الإيمان الحق ، وهو الإيمان الجامع غير المفرق ; ولذلك كان هو ميزان الإيمان الصادق الموحد للناس حول ربهم ، وهو الوحدانية لله تعالى ، والوحدة في الرسالة الإلهية ; ولذا قال تعالى : فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به فقد اهتدوا
الضمير في قوله تعالى : فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به يعود إلى اليهود والنصارى ; لأنهم هم الذين ظنوا أن الاهتداء عندهم فقط ، وقالوا كونوا هودا أو نصارى تهتدوا وأمر الله تعالى نبيه أن يقول لهم : قل بل ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين
وفي الآية السابقة صورة للإيمان الموحد الجامع الذي لا يفرق ، فإن آمن اليهود والنصارى بمثل ذلك الإيمان الجامع غير المفرق فقد اهتدوا ، لا أن يكونوا قد اهتدوا بما هم عليه من الانحياز المفرق .
[ ص: 425 ] فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به والمعنى فإن آمنوا بإيمان مثل الذي آمنتم به ، أي مشابه له من حيث إنه يجمع الناس على الوحدانية لله تعالى ، والوحدة في الرسالة ، والوحدة في الإنسانية بالصورة التي أنتم عليها - فقد اهتدوا ، فكلمة " مثل " في موضعها من القول ولها دلالتها ، فالمراد - وعند الله تعالى علمه - أن يؤمنوا بما آمنتم على أن يكون مثله في المعنى الجامع ، ولقد تهجم بعض المفسرين في العصر الحديث ، فقال إن مثل " مقحم " أستغفر الله لي وله ، إنه ليس في القرآن مقحم ، إنما ألفاظ القرآن الكريم ليس فيها مقحم قط ، إنما هي تنزيل من حكيم حميد .
ونقول إن الإيمان الذي ثبت من قوله تعالى : قولوا آمنا بالله وما أنـزل إلينا وما أنـزل إلى إبراهيم وإسماعيل إلى آخر الآية الكريمة ، يتحقق فيه أمران : أولهما - الإيمان بالوحدانية ، والثاني - الصفة الجامعة ، فالمثلية ليست في أصل الإيمان ، وإنما هي في الصور الجامعة غير المفرقة .
ولذا قال تعالى : وإن تولوا فإنما هم في شقاق التولي هو الترك الجسمي والبعد الذي يدل على الإعراض النفسي فإن أعرضوا عن الإيمان الجامع للرسالة الإلهية فهم في شقاق مستمر ، لأن من ترك الوحدة في الرسالة الإلهية فقد اختار النزاع والمجادلة ، وحيث دخل النزاع في الدين كانت العصبية والتعصب ، والانحياز ، ويفقد الدين سلطانه في القلوب ، ويصير لجاجة ، وعداوة وبغضاء بين الناس ، ويكون كل ملة أو دين في شق منحاز لا يلتقي ولا يهتدي ; ولذلك قال : في شقاق والشقاق : أن يكون كل جانب في شق من الأرض أو الفكر والنفس .
وإنه عند ذلك تكون العداوة المستحكمة من أولئك الذين تولوا عن الحق وأعرضوا عن الدين الجامع إلى الفرقة المعادية ، وكأن الله تعالى ينبه نبيه الأمين ، إلى أن يتوقع منهم الشر ، والبغضاء المستمرة ; ولذلك أشار سبحانه إلى أنه معه ، وأنه [ ص: 426 ] ناصره تعالى عليهم ; ولذا قال تعالى : فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم والمعنى : إذا أظهروا العداوة المفرقة على الوحدة المقربة ، وصاروا أعداء لكم فسيكفيكهم ، أي فسيكون الله تعالى كافيا لك ، ومانعك منهم . يقال كفاك هذا الرجل ، أي منعك ودافع عنك ، و " السين " هنا لتأكيد وقوع الفعل في المستقبل ، فـ " السين " و " سوف " الدالان على المستقبل القريب أو البعيد ، يدلان مع ذلك على تأكيد الوقوع ، والمؤدى أن عداوتهم سترد في نحورهم وسيكون وبالهم عليهم .
وقد أكد سبحانه وتعالى حمايته لنبيه ولمن معه بقوله تعالى : وهو السميع العليم أي أنه سبحانه وتعالى عليم بما ينوون ، وما يخفون وما يعلنون ، عليم علم من يسمع ، ومن صفاته العلم فهو يعلم ما يكون وما يقع ، وإنه بذلك العلم المحيط الدقيق يعلم خائنتهم ، ويكفيك أمرهم ، إنه نعم المولى ونعم النصير .
إن الإيمان الجامع بالنبيين أجمعين لا يفرق بين أحد من رسله ، لأنهم جميعا يحملون رسالات ربهم إلى عباده وهي واحدة ، إن هذا الإيمان هو دين الله تعالى ، وهو ملة إبراهيم وهي الشارة الوحيدة للدين الحق ; ولذا قال تعالى : صبغة الله ومن أحسن من الله صبغة ونحن له عابدون
الصبغة هي الملة التي اختارها الله تعالى ، وهي ملة إبراهيم ، وهي دين الله الحق الذي اصطفاه واختاره وصح أن يكون دينه .
والصبغة في الأصل ما يصبغ منه ، ويتشربه الثوب حتى يصير لونا غير قابل للتغيير ، بيد أن هذه الصبغة في القلب يتشربها فتكون لونا ثابتا مستقرا دائما بالإيمان والإذعان ، يخالط مداركه ، ويتشربها قلب المؤمن كما يتشرب الثوب صبغته ; لأنه مفطور على الإيمان والإيمان في فطرته ، إلى أن يتدرن بالأهواء والشهوات فتطمس الفطرة ، ولقد قال تعالى : فأقم وجهك للدين حنيفا فطرت الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون
[ ص: 427 ] ولقد قال - صلى الله عليه وسلم - : " " . كل مولود يولد على الفطرة ، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه ، كمثل البهيمة تنتج البهيمة هل ترى فيها جدعاء
وصبغة هنا منصوبة على الإغراء لفعل محذوف تقديره إلزم صبغة الله ، فإنها إيمان القلوب ، وزينة النفوس للمؤمنين ; كما يتزين الجسم بزينة الثياب الملونة بأبهى الصباغ .
وإن التعبير عن الدين بأنه صبغة الله إشارة لما يفعله اليهود والنصارى من صبغ أولادهم باليهودية أو النصرانية بما يغمسونهم فيه بماء يسمى المعمودية .
فإذا كان هؤلاء يعملون تلك الأعمال حاسبين أنها تصبغهم بدينهم غير الحق الذي ارتضوا ، فالله سبحانه وتعالى هو الذي يجعل القلوب تتشرب حب الدين الحق ، فلا تتحول ولا تتغير ولا تتبدل .
ولقد بين سبحانه وتعالى أن صبغة الإيمان الجامع الذي اختاره الله تعالى دينا للعالمين هي أحسن صبغة وأبهاها حسا ومعنى ، وطهارة ; ولذا قال تعالى : ومن أحسن من الله صبغة أي لا صبغة أفضل من صبغة الله تعالى ; لأنها الحق والحق وحده زينة القلوب . وغيرها الباطل ، وهو طمس للفطرة وفرق بين زين القلب وحسن الإيمان ، والإشراق بنوره ، وطمس النور منه وامتلائه بالظلمات .
وقد قال تعالى : إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب من شأنه الإذعان للحق ، والتمسك به ، وقال هنا : ونحن له عابدون فالقلوب قسمان : قلوب على الفطرة يدخلها نور الإيمان فيشرق فيها ، وقلوب طمست عليها [ ص: 428 ] الأهواء وسيطرت عليها وأخفت منابع الهداية فهي في عمياء عن الهدى ، غلقت فلا تدخلها هداية .
وإنما يدرك جمال صبغة الله تعالى ، وتزيينها للقلب والنفوس الذين يوقنون بالحق ، ومن شاء الإيمان به إذا قامت دلائله ، وبدرت محاسنه ; ولذا قال تعالى : ونحن له عابدون خاضعون له لا لسواه ; ولذا قدم " له " على " عابدون " إذ التقديم للاختصاص فلا نعبد سواه ولا نؤمن بغيره .
* * *