[ ص: 2719 ] سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شيء
يبين الله سبحانه وتعالى ما يجول في قلوب الذين أشركوا وما أبدوه وهو قول الذين يعتذرون عن كفرهم بإلقاء التبعة عنهم، وقولهم هذا لا يؤمنون به ولا يخضعون له، ولكنهم قوم خصمون، والمجادل المموه يحتج بالحجة الباطلة وغير الباطلة.
إنه لو شاء الله ما أشركوا ولا آباؤهم، ولا حرموا من شيء، ولكنهم في وسط هذا القول الظاهر ينسون حقيقتين:
الأولى: أنهم عصوا الله، وأشركوا به، وحرموا ما حرموا مختارين وغير مجبرين، وأنه على ذلك يكون حسابهم وعقابهم في الآخرة ومؤاخذتهم في الدنيا ببيان أنهم خارجون عن الحق ينحرفون عنه، وفوق ذلك حرموا ما حرموا، وادعوا من غير أي برهان أو حجة بأن التحريم من الله افتراء عليه.
الثانية: أنه ما كان الله تعالى ليتركهم في غيهم إلا لأنهم اختاروا السير في طريق الضلالة، فتركهم الله يسيرون فيه حتى بعدوا عن الحق بالضلال البعيد.
وإن ذلك دأب الخارجين، فخرج الذين من قبلهم بذلك القول الذين يلقون به الإثم عن أنفسهم وهو محيط بهم، لا يخرجون من دائرته، ولذلك قال تعالى:
كذلك كذب الذين من قبلهم حتى ذاقوا بأسنا
كهذا القول الذي سيقوله الذين أشركوا ما أشركنا نحن ولا آباؤنا ولا حرمنا من شيء قال الذين سبقوهم بالشرك من قبلهم، فالشر مسلسل فيهم ما داموا قد غووا، والكفر كله ملة واحدة في التفكير واستيلاء الهوى، وعدم تحملهم مسؤولية فعلهم بإلقاء التبعة على غيرهم، ونفيها عنهم، واعتذارهم بأنهم لا يؤاخذون على ما يرتكبون من آثام، وذلك الشأن في العصاة، يروى أنه حدث أن مرتكبا لما يوجب حدا سيق إلى فسأله: لم ارتكبت هذا؟ قال: قضاء الله، فأقام عمر، عليه الحد، وزاده أسواطا لأنه يحمل قضاء الله تعالى مسؤولية عمله، ولقد قال [ ص: 2720 ] الإمام عمر أبو جعفر الصادق بن محمد رضي الله عنه: أمرنا الله أمرا وقضى لنا أمرا، فلماذا نترك ما أمرنا؟ ونحمله على ما قضى لنا.
ذلك شأن الذين يفسقون عن أمر ربهم يلقون عن أنفسهم أوزارهم كاذبين بمثل هذه الاعتذارات وهم لا يؤمنون بها.
وإنهم استمروا على غيهم وعلى قولهم حتى ذاقوا عذاب الله تعالى؛ ولذا قال الله تعالت كلمته: حتى ذاقوا بأسنا
وهذا يحتمل أن يكون بأس الله بقوة المؤمنين في الدنيا، ويحتمل أن بأسه بعذابه الأليم في الآخرة، وكيفما يكون العذاب فإن الله تعالى عبر بالماضي، وهو واقع في المستقبل للدلالة على تأكد وقوعه، كما في قوله تعالى: أتى أمر الله فلا تستعجلوه
وإن هذه الاعتذارات التي يسوقونها بأنه لو شاء ما أشركوا ولا حرموا بعض الأنعام افتراء على الله فهل عندهم حجة على أن شركهم برضا الله، وأن تحريمهم ما حرموا بأمره أو رضاه لا حجة عندهم؛ ولذا قال تعالى مفحما لهم رادا على افترائهم.
قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا
قل يا محمد في جدلهم مفحما لهم: إن ادعاء رضا الله لا يكون بمثل ظنكم، ولكن يكون بعلم جاء إليكم من الله، فتحتجون بهذا العلم، لا بمجرد الظن والتخمين، وكثرة الكلام، والتهافت فيه، فهل عندكم من علم فتخرجوه لنا تحتجون به، وتسوغون كلامكم إن كان فيه ما يسوغ ما تزعمون.
والاستفهام للإنكار والتوبيخ، واستغراق النفي المتضمن له الاستفهام بـ: (من) يفيد الاستغراق، أي: هل عندكم من علم أي علم تزعمونه فتخرجوه لنا ليكون دليلا لكم؟
[ ص: 2721 ] وهذه الجملة السامية فيها إفحام واستنكار وتهديد وتوبيخ، وقد أكد الله تعالى أنه لا علم عندهم فقال: إن تتبعون إلا الظن وإن أنتم إلا تخرصون
إنهم لا حجة لهم من علم أوتوه، ولا من دليل اعتنقوه، ولكن الظن الذي سبق إليهم، وتوهموه حقا لا شك فيه هو دفعهم، وإن الظن لا يغني من الحق شيئا، فهو رجحان أمر في نفوسهم جعلوه حراما، وذلك الظن لم يبنوه ولو على دليل ظني مرجح، ولكن على خرص وتخمين سيطرت عليه أوهامهم ووجهتهم إليه، وهذا معنى أو قريب من معنى قوله تعالى: إن تتبعون إلا الظن و: (إن) للنفي، و: (إلا) للاستثناء، أي: ما يتبعون إلا الظن، فهذه الكلمة السامية نافية أن يكون دليلا مقنعا أو ملزما باليقين، ولكنهم يتبعون ظنا ترجحه أوهامهم، وأكد أن الظن مبني على أوهام بقوله تعالى: وإن أنتم إلا تخرصون أي: ما هم إلا يخمنون تخمينا قائما على الأوهام المضللة، وقد ضلوا بذلك ضلالا بعيدا.
وقد التفت الله سبحانه في خطابه الكريم من الغيبة إلى الخطاب لتكون المواجهة أرهب في نفوسهم، وليفزعوا إلى الحق وليلتزموا قول الحق- ولكنهم لا يعلمون.