[ ص: 124 ] nindex.php?page=treesubj&link=28914مواضع التقديم والتأخير - النفي فصل
التقديم والتأخير في النفي
116- وإذ قد عرفت هذه المسائل في الاستفهام فهذه مسائل في النفي .
إذا قلت : ما فعلت ، كنت نفيت عنك فعلا لم يثبت أنه مفعول . وإذا قلت : ما أنا فعلت . كنت نفيت عنك فعلا يثبت أنه مفعول .
تفسير ذلك: أنك إذا قلت : ما قلت هذا . كنت نفيت أن تكون قد قلت ذاك . وكنت نوظرت في شيء لم يثبت أنه مقول ؟
وإذا قلت: " ما أنا قلت هذا " كنت نفيت أن تكون القائل له ، وكانت المناظرة في شيء ثبت أنه مقول . وكذلك إذا قلت : ما ضربت زيدا . كنت نفيت عنك ضربه، ولم يجب أن يكون قد ضرب بل يجوز أن يكون ضربه غيرك وأن لا يكون قد ضرب أصلا . وإذا قلت : ما أنا ضربت زيدا : لم تقله إلا وزيد مضروب، وكان القصد أن تنفي أن تكون أنت الضارب.
ومن أجل ذلك صلح في الوجه الأول أن يكون المنفي عاما كقولك : " ما قلت شعرا قط " وما أكلت اليوم شيئا، وما رأيت أحدا من الناس ، ولم يصلح في الوجه الثاني، فكان خلفا أن تقول : ما أنا قلت شعرا قط، وما أنا أكلت اليوم شيئا، وما أنا رأيت أحدا من الناس . وذلك أنه يقتضي المحال، وهو أن يكون هاهنا إنسان قد قال كل شعر في الدنيا، وأكل كل شيء يؤكل، ورأى كل أحد من الناس . فنفيت أن تكونه .
[ ص: 125 ]
117- ومما هو مثال بين في أن تقديم الاسم يقتضي وجود الفعل قوله :
وما أنا أسقمت جسمي به ولا أنا أضرمت في القلب نارا
المعنى : كما لا يخفي، على أن السقم ثابت موجود وليس القصد بالنفي إليه، ولكن إلى أن يكون هو الجالب له، ويكون قد جره إلى نفسه.
ومثله في الوضوح قوله :
وما أنا وحدي قلت ذا الشعر كله
الشعر مقول على القطع والنفي لأن يكون هو وحده القائل له.
118- وهاهنا أمران يرتفع معهما الشك في وجوب هذا الفرق، ويصير العلم به كالضرورة.
أحدهما أنه يصح لك أن تقول : ما قلت هذا ولا قاله أحد من الناس ، وما ضربت زيدا، ولا ضربه أحد سواي ، ولا يصح ذلك في الوجه الآخر . فلو قلت : ما أنا قلت هذا ولا قاله أحد من الناس ، وما أنا ضربت زيدا ولا ضربه أحد سواي، كان خلفا من القول، وكان في التناقض بمنزلة أن تقول : لست الضارب زيدا أمس ، فتثبت أنه قد ضرب
[ ص: 126 ] ثم تقول من بعده : وما ضربه أحد من الناس، ولست القائل ذلك . فتثبت أنه قد قيل، ثم تجيء فتقول : وما قاله أحد من الناس.
والثاني من الأمرين أنك تقول : ما ضربت إلا زيدا، فيكون كلاما مستقيما، ولو قلت : ما أنا ضربت إلا زيدا، كان لغوا من القول، وذلك لأن نقض النفي بإلا يقتضي أن تكون ضربت زيدا - وتقديمك ضميرك وإيلاؤه حرف النفي يقتضي نفي أن تكون ضربته فهما يتدافعان. فاعرفه .
تقديم المفعول وتأخيره في النفي
ويجيء لك هذا الفرق على وجهه في تقديم المفعول وتأخيره . فإذا قلت : " ما ضربت زيدا " فقدمت الفعل كان المعنى أنك قد نفيت أن يكون قد وقع ضرب منك على زيد، ولم تعرض في أمر غيره لنفي ولا إثبات، وتركته مبهما محتملا .
وإذا قلت : " ما زيدا ضربت " فقدمت المفعول كان المعنى على أن ضربا وقع منك على إنسان، وظن أن ذلك الإنسان زيد، فنفيت أن يكون إياه .
فلك أن تقول في الوجه الأول : " ما ضربت زيدا ولا أحدا من الناس "، وليس لك ذلك في الوجه الثاني. فلو قلت : " ما زيدا ضربت ولا أحدا من الناس " كان فاسدا على ما مضى في الفاعل .
[ ص: 127 ]
120- ومما ينبغي أن تعلمه أنه يصح لك أن تقول : " ما ضربت زيدا " ولكني أكرمته فتعقب الفعل المنفي بإثبات فعل هو ضده، ولا يصح أن تقول : " ما زيدا ضربت ولكني أكرمته " وذاك أنك لم ترد أن تقول : لم يكن الفعل هذا ولكن ذاك، ولكنك أردت أنه لم يكن المفعول هذا ولكن ذاك . فالواجب إذن أن تقول : " ما زيدا ضربت ولكن عمرا " .
وحكم الجار مع المجرور في جميع ما ذكرنا حكم المنصوب ، فإذا قلت : " ما أمرتك بهذا " كان المعنى على نفي أن تكون قد أمرته بذلك، ولم يجب أن تكون قد أمرته بشيء آخر - وإذا قلت : ما بهذا أمرتك، كنت قد أمرته بشيء غيره .
[ ص: 124 ] nindex.php?page=treesubj&link=28914مَوَاضِعُ التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ - النَّفْيُ فَصْلٌ
التَّقْدِيمُ وَالتَّأْخِيرُ فِي النَّفْيِ
116- وَإِذْ قَدْ عَرَفْتَ هَذِهِ الْمَسَائِلَ فِي الِاسْتِفْهَامِ فَهَذِهِ مَسَائِلُ فِي النَّفْيِ .
إِذَا قُلْتَ : مَا فَعَلْتُ ، كُنْتَ نَفَيْتَ عَنْكَ فِعْلًا لَمْ يَثْبُتْ أَنَّهُ مَفْعُولٌ . وَإِذَا قُلْتَ : مَا أَنَا فَعَلْتُ . كُنْتَ نَفَيْتَ عَنْكَ فِعْلًا يَثْبُتَ أَنَّهُ مَفْعُولٌ .
تَفْسِيرُ ذَلِكَ: أَنَّكَ إِذَا قُلْتَ : مَا قُلْتُ هَذَا . كُنْتَ نَفَيْتَ أَنْ تَكُونَ قَدْ قُلْتَ ذَاكَ . وَكُنْتَ نُوظِرْتَ فِي شَيْءٍ لَمْ يَثْبُتْ أَنَّهُ مَقُولٌ ؟
وَإِذَا قُلْتَ: " مَا أَنَا قُلْتُ هَذَا " كُنْتَ نَفَيْتَ أَنْ تَكُونَ الْقَائِلَ لَهُ ، وَكَانَتِ الْمُنَاظَرَةُ فِي شَيْءٍ ثَبَتَ أَنَّهُ مَقُولٌ . وَكَذَلِكَ إِذَا قُلْتَ : مَا ضَرَبْتُ زَيْدًا . كُنْتَ نَفَيْتَ عَنْكَ ضَرَبَهُ، وَلَمْ يَجِبْ أَنْ يَكُونَ قَدْ ضُرِبَ بَلْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ضَرَبَهُ غَيْرَكَ وَأَنْ لَا يَكُونَ قَدْ ضُرِبَ أَصْلًا . وَإِذَا قُلْتَ : مَا أَنَا ضَرَبْتُ زَيْدًا : لَمْ تَقُلْهُ إِلَّا وَزَيْدٌ مَضْرُوبٌ، وَكَانَ الْقَصْدُ أَنْ تَنْفِيَ أَنْ تَكُونَ أَنْتَ الضَّارِبَ.
وَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ صَلَحَ فِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ أَنْ يَكُونَ الْمَنْفِيُّ عَامًّا كَقَوْلِكَ : " مَا قُلْتُ شِعْرًا قَطُّ " وَمَا أَكَلْتُ الْيَوْمَ شَيْئًا، وَمَا رَأَيْتُ أَحَدًا مِنَ النَّاسِ ، وَلَمْ يَصْلُحْ فِي الْوَجْهِ الثَّانِي، فَكَانَ خَلْفًا أَنْ تَقُولَ : مَا أَنَا قُلْتُ شِعْرًا قَطُّ، وَمَا أَنَا أَكَلْتُ الْيَوْمَ شَيْئًا، وَمَا أَنَا رَأَيْتُ أَحَدًا مِنَ النَّاسِ . وَذَلِكَ أَنَّهُ يَقْتَضِي الْمُحَالَ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ هَاهُنَا إِنْسَانٌ قَدْ قَالَ كُلَّ شِعْرٍ فِي الدُّنْيَا، وَأَكَلَ كُلَّ شَيْءٍ يُؤْكَلُ، وَرَأَى كُلَّ أَحَدٍ مِنَ النَّاسِ . فَنَفَيْتُ أَنْ تَكُونَهُ .
[ ص: 125 ]
117- وَمِمَّا هُوَ مِثَالٌ بَيِّنٌ فِي أَنَّ تَقْدِيمَ الِاسْمِ يَقْتَضِي وُجُودَ الْفِعْلِ قَوْلُهُ :
وَمَا أَنَا أَسْقَمْتُ جِسْمِي بِهِ وَلَا أَنَا أَضْرَمْتُ فِي الْقَلْبِ نَارَا
الْمَعْنَى : كَمَا لَا يَخْفِي، عَلَى أَنَّ السُّقُمَ ثَابِتٌ مَوْجُودٌ وَلَيْسَ الْقَصْدُ بِالنَّفْيِ إِلَيْهِ، وَلَكِنْ إِلَى أَنْ يَكُونَ هُوَ الْجَالِبَ لَهُ، وَيَكُونَ قَدْ جَرَّهُ إِلَى نَفْسِهِ.
وَمِثْلُهُ فِي الْوُضُوحِ قَوْلُهُ :
وَمَا أَنَا وَحْدِي قُلْتُ ذَا الشِّعْرِ كُلَّهُ
الشِّعْرُ مَقُولٌ عَلَى الْقَطْعِ وَالنَّفْيِ لِأَنْ يَكُونَ هُوَ وَحْدَهُ الْقَائِلَ لَهُ.
118- وَهَاهُنَا أَمْرَانِ يَرْتَفِعُ مَعَهُمَا الشَّكُّ فِي وُجُوبِ هَذَا الْفَرْقِ، وَيَصِيرُ الْعِلْمُ بِهِ كَالضَّرُورَةِ.
أَحَدُهُمَا أَنَّهُ يَصِحُّ لَكَ أَنْ تَقُولَ : مَا قُلْتُ هَذَا وَلَا قَالَهُ أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ ، وَمَا ضَرَبْتُ زَيْدًا، وَلَا ضَرْبَهُ أَحَدٌ سِوَايَ ، وَلَا يَصِحُّ ذَلِكَ فِي الْوَجْهِ الْآخَرِ . فَلَوْ قُلْتَ : مَا أَنَا قُلْتُ هَذَا وَلَا قَالَهُ أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ ، وَمَا أَنَا ضَرَبْتُ زَيْدًا وَلَا ضَرَبَهُ أَحَدٌ سِوَايَ، كَانَ خَلْفًا مِنَ الْقَوْلِ، وَكَانَ فِي التَّنَاقُضِ بِمَنْزِلَةِ أَنْ تَقُولَ : لَسْتُ الضَّارِبَ زَيْدًا أَمْسِ ، فَتُثْبِتُ أَنَّهُ قَدْ ضُرِبَ
[ ص: 126 ] ثُمَّ تَقُولُ مِنْ بَعْدِهِ : وَمَا ضَرَبَهُ أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ، وَلَسْتُ الْقَائِلَ ذَلِكَ . فَتُثْبِتُ أَنَّهُ قَدْ قِيلَ، ثُمَّ تَجِيءُ فَتَقُولُ : وَمَا قَالَهُ أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ.
وَالثَّانِي مِنَ الْأَمْرَيْنِ أَنَّكَ تَقُولُ : مَا ضَرَبْتُ إِلَّا زَيْدًا، فَيَكُونُ كَلَامًا مُسْتَقِيمًا، وَلَوْ قُلْتَ : مَا أَنَا ضَرَبْتُ إِلَّا زَيْدًا، كَانَ لَغْوًا مِنَ الْقَوْلِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ نَقْضَ النَّفْيِ بِإِلَّا يَقْتَضِي أَنْ تَكُونَ ضَرَبْتَ زَيْدًا - وَتَقْدِيمُكَ ضَمِيرَكَ وَإِيلَاؤُهُ حَرْفَ النَّفْيِ يَقْتَضِي نَفْيَ أَنْ تَكُونَ ضَرْبَتَهُ فَهُمَا يَتَدَافَعَانِ. فَاعْرِفْهُ .
تَقْدِيمُ الْمَفْعُولِ وَتَأْخِيرُهُ فِي النَّفْيِ
وَيَجِيءُ لَكَ هَذَا الْفَرْقُ عَلَى وَجْهِهِ فِي تَقْدِيمِ الْمَفْعُولِ وَتَأْخِيرِهِ . فَإِذَا قُلْتَ : " مَا ضَرَبْتُ زَيْدًا " فَقُدِّمْتَ الْفِعْلَ كَانَ الْمَعْنَى أَنَّكَ قَدْ نَفَيْتَ أَنْ يَكُونَ قَدْ وَقَعَ ضَرْبٌ مِنْكَ عَلَى زَيْدٍ، وَلَمْ تَعْرِضْ فِي أَمْرٍ غَيْرِهِ لِنَفْيٍ وَلَا إِثْبَاتٍ، وَتَرَكْتَهُ مُبْهَمًا مُحْتَمَلًا .
وَإِذَا قُلْتَ : " مَا زَيْدًا ضَرَبْتُ " فَقَدَّمْتَ الْمَفْعُولَ كَانَ الْمَعْنَى عَلَى أَنَّ ضَرْبًا وَقَعَ مِنْكَ عَلَى إِنْسَانٍ، وَظُنَّ أَنَّ ذَلِكَ الْإِنْسَانَ زَيْدٌ، فَنَفَيْتَ أَنْ يَكُونَ إِيَّاهُ .
فَلَكَ أَنْ تَقُولَ فِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ : " مَا ضَرَبْتُ زَيْدًا وَلَا أَحَدًا مِنَ النَّاسِ "، وَلَيْسَ لَكَ ذَلِكَ فِي الْوَجْهِ الثَّانِي. فَلَوْ قُلْتَ : " مَا زَيْدًا ضَرَبْتُ وَلَا أَحَدًا مِنَ النَّاسِ " كَانَ فَاسِدًا عَلَى مَا مَضَى فِي الْفَاعِلِ .
[ ص: 127 ]
120- وَمِمَّا يَنْبَغِي أَنْ تَعْلَمَهُ أَنَّهُ يَصِحُّ لَكَ أَنْ تَقُولَ : " مَا ضَرَبْتُ زَيْدًا " وَلَكِنِّي أَكْرَمْتُهُ فَتُعْقِبَ الْفِعْلَ الْمَنْفِيَّ بِإِثْبَاتِ فِعْلٍ هُوَ ضِدُّهُ، وَلَا يَصِحُّ أَنْ تَقُولَ : " مَا زَيْدًا ضَرَبْتُ وَلَكِنِّي أَكْرَمْتُهُ " وَذَاكَ أَنَّكَ لَمْ تُرِدْ أَنْ تَقُولَ : لَمْ يَكُنِ الْفِعْلُ هَذَا وَلَكِنْ ذَاكَ، وَلَكِنَّكَ أَرَدْتَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنِ الْمَفْعُولُ هَذَا وَلَكِنْ ذَاكَ . فَالْوَاجِبُ إِذَنْ أَنْ تَقُولَ : " مَا زَيْدًا ضَرَبْتُ وَلَكِنْ عَمْرًا " .
وَحُكْمُ الْجَارِّ مَعَ الْمَجْرُورِ فِي جَمِيعِ مَا ذَكَرْنَا حُكْمُ الْمَنْصُوبِ ، فَإِذَا قُلْتَ : " مَا أَمَرْتُكَ بِهَذَا " كَانَ الْمَعْنَى عَلَى نَفْيِ أَنْ تَكُونَ قَدْ أَمَرْتَهُ بِذَلِكَ، وَلَمْ يَجِبْ أَنْ تَكُونَ قَدْ أَمَرْتَهُ بِشَيْءٍ آخَرَ - وَإِذَا قُلْتَ : مَا بِهَذَا أَمَرْتُكَ، كُنْتَ قَدْ أَمَرْتَهُ بِشَيْءٍ غَيْرِهِ .