فالجواب : أن الكلام في أن قد تقدم . الشعر لا يجوز أن يوازن به القرآن
وإذ كنا قد بينا أن شعر امرئ القيس - وهو كبيرهم الذي يقرون بتقدمه ، وشيخهم الذي يعترفون بفضله ، وقائدهم الذي يأتمون به ، وإمامهم الذي يرجعون إليه - كيف سبيله ، وكيف طريق سقوط منزلته عن منزلة نظم القرآن ، وأنه لا يلحظ بشعره غبار ذلك ، وهو إذا لحظ ذلك كان كما قال :
فأصبحت من ليلى الغداة كناظر مع الصبح في أعجاز نجم مغرب
وكما قال أيضا :
راحت مشرقة ورحت مغربا فمتى التقاء مشرق ومغرب
[ ص: 216 ] وإذا كنا قد أبنا في القاعدة ما علمت ، وفصلنا لك في شعره ما عرفت - لم نحتج إلى أن نتكلم على شعر كل شاعر ، وكلام بليغ ، والقليل يدل على الكثير .
وقد بينا - في الجملة - مباينة أسلوب نظم القرآن جميع الأساليب ، ومزيته عليها في النظم والترتيب ، وتقدمه عليها في كل حكمة وبراعة ، ثم تكلمنا على التفصيل - على ما شاهدت - فلا يبقى علينا بعد ذلك سؤال .
ثم نقول : أنت تعلم أن من يقول بتقدم في الصنعة ، به من الشغل في تفضيله على البحتري أو تسوية ما بينهما ما لا يطمع معه في تقديمه على ابن الرومي امرئ القيس ومن في طبقته .
كذلك ، إنما يعدل شعره بشعر أشكاله ، ويقابل كلامه بكلام أضرابه من أهل عصره ، وإنما يقع بينهم التباين اليسير ، والتفاوت القليل . أبو نواس
فأما أن يظن ظان ، أو يتوهم متوهم أن جنس الشعر معارض لنظم القرآن فكأنما خر من السماء فتخطفه الطير أو تهوي به الريح في مكان سحيق .
وإنما هي خواطر يغير بعضها على بعض ، ويقتدي فيها بعض ببعض ، والغرض الذي يرمي إليه ، ويصح التوافي عليه ، في الجملة ، فهو قبيل متداول ، وجنس متنازع ، وشريعة مورودة ، وطريقة مسلوكة .
ألا ترى إلى ما روي عن الحسين بن الضحاك ؛ قال : أنشدت قصيدتي التي فيها : أبا نواس
وشاطري اللسان مختلق التكـ ريه شاب المجون بالنسك
[ ص: 217 ] كأنه - نصب كأسه - قمر يكرع في بعض أنجم الفلك
قال : فأنشدني بعد أيام قصيدته التي يقول فيها : أبو نواس
أعاذل أعتبت الإمام وأعتبا وأعربت عما في الضمير وأعربا
وقلت لساقيها : أجزها فلم أكن ليأبى أمير المؤمنين وأشربا
فجوزها عني عقارا ترى لها إلى الشرف الأعلى شعاعا مطنبا
إذا عب فيها شارب القوم خلته يقبل في داج من الليل كوكبا
قال : فقلت له : يا أبا علي ، هذه مصالتة . فقال : أتظن أنه يروى لك معنى وأنا حي ؟
فتأمل هذا الأخذ ، وهذا الوضع ، وهذا الاتباع .
أما الخليع فقد رأى الإبداع في المعنى ، فأما العبارات فإنها ليست على ما ظنه ؛ لأن قوله : " يكرع " ليس بصحيح ، وفيه ثقل بين وتفاوت ، وفيه إحالة ؛ لأن القمر لا يصح تصورا أن يكرع في نجم .
[ ص: 218 ] وأما قول : " إذا عب فيها " ، فكلمة قد قصد فيها المتانة ، وكان سبيله أن يختار سواها من ألفاظ الشرب ، ولو فعل ذلك كان أملح . أبي نواس
وقوله : " شارب القوم " ، فيه ضرب من التكلف الذي لا بد له منه أو من مثله ، لإقامة الوزن .
ثم قوله : " خلته يقبل في داج من الليل كوكبا " ، تشبيه بحالة واحدة من أحواله ، وهي أن يشرب حيث لا ضوء هناك ، وإنما يتناوله ليلا ، فليس بتشبيه مستوفى ، على ما فيه من الوقوع والملاحة والصنعة .
وقد قال ما هو أوقع منه وأملح وأبدع : ابن الرومي
ومهفهف تمت محاسنه حتى تجاوز منية النفس
تصبو الكؤوس إلى مراشفه وتحن في يده إلى الحبس
أبصرته والكأس بين فم منه وبين أنامل خمس
وكأنها وكأن شاربها قمر يقبل عارض الشمس
ولا شك في أن تشبيه أحسن وأعجب ، إلا أنه لم يتمكن من إيراده إلا في بيتين ، وهما - مع سبقهما إلى المعنى - أتيا به في بيت واحد . ابن الرومي
* * *
وإنما أردت بهذا أن أعرفك أن هذه أمور متقاربة ، يقع فيها التنافس والتعارض ، والأطماع تتعلق بها ، والهمم تسمو إليها ، وهي إلف طباعنا ، وطوع مداركنا ، ومجانس لكلامنا .
وإعجاب قوم بنحو هذا وما يجري مجراه ، وإيثار أقوام لشعر [ ص: 219 ] على البحتري ، أبي تمام وعبد الصمد ، ، وتقديم قوم كل هؤلاء أو بعضهم عليه ، وذهاب قوم عن المعرفة - ليس بأمر يضر بنا ولا سبب يعترض على أفهامنا . وابن الرومي
* * *