[ ص: 325 ]  -  25 - نشأة التفسير وتطوره   : 
جرت سنة الله أن يرسل كل رسول بلسان قومه . ليتم تخاطبه معهم : وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم  ، وأن يكون الكتاب الذي أنزل عليه بلسانه ولسانهم ، وإذا كان لسان محمد   -صلى الله عليه وسلم- عربيا فإن الكتاب الذي أنزل عليه يكون بلسان عربي ، وبذلك نطق محكم التنزيل : إنا أنزلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون   . وإنه لتنزيل رب العالمين  نزل به الروح الأمين  على قلبك لتكون من المنذرين  بلسان عربي مبين   . 
فألفاظ القرآن عربية ، ووجوه المعاني في القرآن توافق وجوه المعاني عند العرب ، وإذا كانت هناك ألفاظ قليلة تختلف فيها أنظار العلماء ، أهي من لغات أخرى وعربت ، أم هي عربية بحتة ولكنها مما تواردت عليها اللغات ؟ فإن هذا لا يخرج القرآن عن أن يكون عربيا . 
والذي عليه المحققون أنها كلمات اتفقت فيها ألفاظ العرب مع ألفاظ غيرهم من بعض أجناس الأمم . وهذا هو ما رجحه جهبذ المفسرين  ابن جرير الطبري   . فقد أورد ما روي في ذلك كقوله تعالى : يؤتكم كفلين من رحمته  ، قيل : الكفلان : ضعفان من الأجر بلسان الحبشة . وقوله : إن ناشئة الليل  ، قيل : بلسان الحبشة إذا قام الرجل من الليل قالوا : نشأ . وقوله : يا جبال أوبي  [ ص: 326 ] معه  ، قيل : سبحي بلسان الحبشة ، وقوله : فرت من قسورة  ، قيل : الأسد بالحبشية . وقوله : حجارة من سجيل  ، قيل فارسية أعربت - أورد الطبري ما روي في ذلك ثم بين أن أحدا لم يقل إن هذه الأحرف وما أشبهها لم تكن للعرب كلاما ، وإنما قال بعضهم : حرف كذا بلسان الحبشة  معناه كذا ، وحرف كذا بلسان العجم معناه كذا ، وقد ظهر أن بعض الألفاظ اتفقت فيها الألسن المختلفة ، كالدرهم والدينار والدواة والقلم والقرطاس ، فأي مرجح يجعل اللفظ من لغة بعينها ثم نقل إلى اللغة الأخرى ؟ فليس أحد الجنسين أولى بأن يكون أصل ذلك كان من عنده من الجنس ومدعي ذلك يدعي شيئا بلا دليل . 
التفسير في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه  
تكفل الله تعالى لرسوله بحفظ القرآن وبيانه : إن علينا جمعه وقرآنه  فإذا قرأناه فاتبع قرآنه  ثم إن علينا بيانه  ، فكان النبي -صلى الله عليه وسلم- يفهم القرآن جملة وتفصيلا . وكان عليه أن يبينه لأصحابه : وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون   . 
وكان الصحابة -رضي الله عنهم- يفهمون القرآن كذلك ; لأنه نزل بلغتهم . وإن كانوا لا يفهمون دقائقه ، يقول ابن خلدون  في مقدمته : " إن القرآن نزل بلغة العرب - وعلى أساليب بلاغتهم ، فكانوا كلهم يفهمونه ، ويعلمون معانيه في مفرداته وتراكيبه " ولكنهم مع هذا كانوا يتفاوتون في الفهم ، فقد يغيب عن واحد منهم ما لا يغيب عن الآخر . 
أخرج  أبو عبيد  في الفضائل عن  أنس   : أن  عمر بن الخطاب  قرأ على المنبر : وفاكهة وأبا  ، فقال : هذه الفاكهة قد عرفناها ، فما الأب ؟ ثم رجع إلى نفسه فقال : إن هذا لهو التكلف يا  عمر  “ . 
 [ ص: 327 ] وأخرج  أبو عبيد  من طريق  مجاهد  عن  ابن عباس  قال : كنت لا أدري ما : فاطر السماوات والأرض حتى أتاني أعرابيان يتخاصمان في بئر ، فقال أحدهما : أنا فطرتها ، يقول : أنا ابتدأتها “  . 
ولذا قال ابن قتيبة   : " إن العرب لا تستوي في المعرفة بجميع ما في القرآن من الغريب والمتشابه ، بل إن بعضها يفضل في ذلك عن بعض “ . 
وكان الصحابة يعتمدون في تفسيرهم للقرآن بهذا العصر على : 
أولا : القرآن الكريم : فما جاء مجملا في موضع جاء مبينا في موضع آخر ، تأتي الآية مطلقة أو عامة ، ثم ينزل ما يقيدها أو يخصصها ، وهذا هو الذي يسمى بتفسير القرآن بالقرآن ولهذا أمثلة كثيرة ، فقصص القرآن جاء موجزا في بعض المواضع ومسهبا في مواضع أخرى ، وقوله تعالى : أحلت لكم بهيمة الأنعام إلا ما يتلى عليكم  ، فسره آية : حرمت عليكم الميتة  ، وقوله تعالى : لا تدركه الأبصار  ، فسره آية : إلى ربها ناظرة   . 
ثانيا : النبي صلى الله عليه وسلم : فهو المبين للقرآن ، وكان الصحابة يرجعون إليه إذا أشكل عليهم فهم آية من الآيات ، عن  ابن مسعود  قال : لما نزلت هذه الآية : الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم  ، شق ذلك على الناس فقالوا : يا رسول الله ، وأينا لا يظلم نفسه ؟ قال : " إنه ليس الذي تعنون ، ألم تسمعوا ما قال العبد الصالح : إن الشرك لظلم عظيم  إنما هو الشرك “  . 
كما كان الرسول -صلى الله عليه وسلم- يبين لهم ما يشاء عند الحاجة ، عن  عقبة بن عامر  قال : " سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول وهو على المنبر : وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة  ألا وإن القوة الرمي “  . 
 [ ص: 328 ] وعن  أنس  قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :  " الكوثر نهر أعطانيه ربي في الجنة “  . 
وقد أفردت كتب السنة بابا للتفسير بالمأثور عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقال الله تعالى : وما أنزلنا عليك الكتاب إلا لتبين لهم الذي اختلفوا فيه وهدى ورحمة لقوم يؤمنون   . 
ومن القرآن ما لا يعلم تأويله إلا ببيان الرسول -صلى الله عليه وسلم- كتفصيل وجوه أمره ونهيه ، ومقادير ما فرضه الله من أحكام ، وهذا البيان هو المقصود بقوله صلى الله عليه وسلم :  " ألا وإني أوتيت الكتاب ومثله معه "  . 
ثالثا- الفهم والاجتهاد : فكان الصحابة إذا لم يجدوا التفسير في كتاب الله تعالى ، ولم يجدوا شيئا في ذلك عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- اجتهدوا في الفهم ، فإنهم من خلص العرب ، يعرفون العربية ، ويحسنون فهمها ، ويعرفون وجوه البلاغة فيها . 
واشتهر بالتفسير من الصحابة جماعة منهم : الخلفاء الأربعة ،  وابن مسعود  ،  وابن عباس  ،  وأبي بن كعب  ،  وزيد بن ثابت  ،  وأبو موسى الأشعري  ،  وعبد الله بن الزبير  ،  وأنس بن مالك  ،  وعبد الله بن عمر  ،  وجابر بن عبد الله  ،  وعبد الله بن عمرو بن العاص  ،  وعائشة  ، على تفاوت فيما بينهم قلة وكثرة ، وهناك روايات منسوبة إلى هؤلاء وغيرهم في مواضع متعددة من تفسير القرآن بالمأثور تتفاوت درجتها من حيث السند . صحة وضعفا . 
ولا شك أن التفسير بالمأثور عن الصحابة له قيمته ، وذهب جمهور العلماء إلى أن تفسير الصحابي له حكم المرفوع إذا كان مما يرجع إلى أسباب النزول وكل ما ليس للرأي فيه مجال . أما ما يكون للرأي فيه مجال فهو موقوف عليه ما دام لم يسنده إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم . 
والموقوف على الصحابي من التفسير يوجب بعض العلماء الأخذ به ; لأنهم أهل اللسان ، ولما شاهدوه من القرائن والأحوال التي اختصوا بها ، ولما لهم من الفهم  [ ص: 329 ] الصحيح . قال الزركشي  في " البرهان " : " اعلم أن القرآن قسمان : قسم ورد تفسيره بالنقل ، وقسم لم يرد ، والأول : إما أن يرد عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أو الصحابة ، أو رءوس التابعين - فالأول يبحث فيه عن صحة السند ، والثاني ينظر في تفسير الصحابي ، فإن فسره من حيث اللغة فهم أهل اللسان ، فلا شك في اعتماده . أو بما شاهدوه من الأسباب والقرائن فلا شك فيه “ . 
وقال الحافظ ابن كثير  في مقدمة تفسيره : " وحينئذ إذا لم نجد التفسير في القرآن ولا في السنة رجعنا في ذلك إلى أقوال الصحابة ، فإنهم أدرى بذلك لما شاهدوه من القرائن والأحوال التي اختصوا بها ، ولما لهم من الفهم التام والعلم الصحيح والعمل الصالح ولا سيما علماؤهم وكبراؤهم كالأئمة الأربعة ، والخلفاء الراشدين ، والأئمة المهتدين المهديين ،  وعبد الله بن مسعود  رضي الله عنهم “ . 
ولم يدون شيء من التفسير في هذا العصر ; لأن التدوين لم يكن إلا في القرن الثاني ، وكان التفسير فرعا من الحديث ، ولم يتخذ شكلا منظما بل كانت هذه التفسيرات تروى منثورة لآيات متفرقة . من غير ترتيب وتسلسل لآيات القرآن وسوره كما لا تشمل القرآن كله . 
"
				
						
						
