وفائدة قوله صلى الله عليه وسلم " ذكر " بيان أن المراد بالرجل هنا ما قابل المرأة ، فيشمل الصبي لا ما قابل الصبي المختص بالبالغ ، وورد في الحث على تعلمها وتعليمها أخبار منها ما صح من قوله صلى الله عليه وسلم { } وورد أنه نصف العلم وأنه ينسى وأنه أول علم ينزع من الأمة : أي بموت أهله ، وسمي نصفا لتعلقه بالموت المقابل للحياة ، وقيل النصف بمعنى الصنف . تعلموا الفرائض وعلموها الناس فإني امرؤ مقبوض ، وإن هذا العلم سيقبض وتظهر الفتن حتى يختلف اثنان في فريضة [ ص: 4 ] فلا يجدان من يقضي بينهما
قال الشاعر :
إذا مت كان الناس نصفان شامت وآخر مثن بالذي كنت أصنع
وهو مخرج على لغة من يلزم المثنى الألف مطلقا أو اسم كان ضمير الشأن محذوفا ، والناس مبتدأ ونصفان خبره والجملة خبر كان ، والمراد بالنصف الشطر لا خصوص النصف كما لا يخفى ، وعلم الفرائض يحتاج إلى ثلاثة علوم : علم الفتوى بأن يعلم نصيب كل وارث من التركة ، وعلم النسب بأن يعلم الوارث من الميت بالنسب وكيفية انتسابه للميت ، وعلم الحساب بأن يعلم من أي حساب تخرج المسألة ، وحقيقة مطلق الحساب أنه علم بكيفية التصرف في عدد لاستخراج مجهول من معلوم وهي ما يخلفه من حق كجناية وحد قذف أو اختصاص أو مال كخمر تخللت بعد موته ودية أخذت من قاتله لدخولها في ملكه ، وكذا ما وقع بشبكة نصبها في حياته على ما قاله ( يبدأ ) وجوبا ( من تركة الميت ) الزركشي وما نظر به من انتقالها بعد الموت للورثة ، فالواقع بها من زوائد التركة ، وهي ملكهم رد بأن سبب الملك نصبه للشبكة لا هي ، وإذا استند الملك لفعله كان تركة ، ووقع السؤال عمن عاش بعد موته معجزة لنبي .وأجاب بعضهم بتبين بقاء ملكه لتركته ، وهو محمول على أنه بالإحياء تبين عدم موته ، لكنه خلاف الفرض في السؤال إذ لا توجد المعجزة إلا بعد تحقق الموت ، وعند تحققه ينتقل الملك للورثة بالإجماع ، فإذا وجد [ ص: 5 ] الإحياء كانت هذه حياة جديدة مبتدأة بلا تبين عود ملك ويلزمه أن نساءه لو تزوجن أن يعدن له وليس كذلك بل يبقى نكاحهن .
والحاصل أن زوال الملك والعصمة محقق وعوده مشكوك فيه ، فيستصحب زواله حتى يثبت ما يدل على العود ، ولم يثبت فيه شيء فوجب البقاء مع الأصل ، وسيأتي في الصداق حكم الممسوخ جمادا أو حيوانا بالنسبة لمخلفه وغيره ( بمؤنة تجهيزه ) ولو كافرا من كفن وأجرة غسل وحمل وحفر وطم وحنوط كما في المجموع عن الأصحاب لاحتياجه لذلك كالمفلس ، بل أولى لانقطاع كسبه بالمعروف بحسب يساره وإعساره ، ولا عبرة بما كان عليه في حياته من إسرافه وتقتيره ، وعلم مما مر في الجنائز أن عليه مؤنة تجهيز عبده ونحوه ممن تلزمه نفقته كزوجته غير الناشزة إذا كان موسرا وإن كان لها تركة ولو اجتمع معه ممونه ولم تف تركته إلا بأحدهما فالأوجه تقديمه [ ص: 6 ] لتبين عجزه عن تجهيز غيره ، أو اجتمع جمع من ممونه وماتوا دفعة قدم كما في الروضة من يخشى تغيره ثم الأب لشدة حرمته ثم الأم ; لأن لها رحما ثم الأقرب فالأقرب ، ويقدم الأكبر سنا من أخوين مثلا ، ويقرع بين زوجتيه إذ لا مزية ، والأوجه تقديم الزوجة على جميع الأقارب ثم المملوك الخادم لها بعدها لأن العلقة بهما أتم أخذا مما ذكر في النفقات ، وقياس كلامهم فيما لو دفن اثنان فأكثر في قبر أنه يقدم هنا في نحو الأخوين المستويين سنا الأفضل بنحو فقه أو ورع ، وأنه لا يقدم فرع على أصله من جنسه ، بخلافه من غير جنسه فيقدم أب على ابن وإن كان أفضل منه وابن على أمه لفضيلة الذكورة ورجل على صبي وهو على خنثى فيجعل امرأة ، فإن استووا أقرع بينهم .
وفي كلام الأذرعي ما يؤيد ما ذكرناه ، وظاهر كلامهم الإقراع بين الزوجات ، وإن تفاوتن في الفضل وغيره ، ويوجه بأن الزوجية لا تقبل التفاوت فيها ، بخلاف الأخوة المقتضية لوجوب التجهيز ، وبه يعلم أن المملوكين كذلك ، أما إذا ترتبوا فيقدم السابق حيث أمن فساد غيره ولو مفضولا ، هذا كله إن لم يمكنه القيام بأمر الجميع ، وإلا فالأوجه وجوبه كما بحثه الزركشي أخذا مما مر في الفطرة ، فتقدم الزوجة فالولد الصغير فالأب فالأم فالكبير ، ولعل الفرق بين هذا وما مر قبله أن ذاك فيه إيثار مجرد التعجيل فنظر فيه إلى الأشرف ، وهذا فيه إيثار بالتجهيز فنظر فيه إلى الألزم مؤنة ثم الأشرف ، وذكرهم الأخوين هنا مع أن الكلام إنما هو فيمن تجب مؤنته لعلهم أرادوا به ما إذا انحصر تجهيزهما فيه أو ألزمه به من يرى وجوب ذلك ( ثم ) بعد مؤنة التجهيز ( تقضى ديونه ) المتعلقة بذمته من رأس المال سواء أكان لله تعالى أم لآدمي أوصى به أم لا ; لأنه حق واجب عليه ، وإنما قدمت الوصية في الآية على الدين ذكرا لكونها قربة أو مشابهة للإرث من حيث أخذها بلا عوض ومشقتها على [ ص: 7 ] الورثة ونفوسهم مطمئنة على أدائه فقدمت عليه بعثا على وجوب إخراجها والمسارعة إليه .
ويقدم دين الله تعالى كزكاة وكفارة وحج على دين الآدمي ، أما المتعلقة بعين التركة فستأتي ( ثم ) بعد الدين ، وإن كان إنما يثبت بإقرار الوارث سواء أكان بعد ثبوت الوصية أم قبلها كما علم مما نقلناه عن الصيدلاني تنفذ ( وصاياه ) وما ألحق بها من عتق علق بالموت أو تبرع نجز في مرض الموت أو الملحق به لقوله تعالى { من بعد وصية يوصى بها أو دين } ( من ) للابتداء فتدخل الوصايا بالثلث وببعضه ( ثلث الباقي ) بعد الدين كما نبه عليه بثم .