كتاب النكاح هو لغة : الضم والوطء ، وشرعا : عقد يتضمن إباحة وطء باللفظ الآتي ، وهو حقيقة في العقد مجاز في الوطء لصحة نفيه عنه ولاستحالة أن يكون حقيقة فيه ، ويكنى به عن العقد لاستقباح ذكره كفعله وإرادته في { حتى تنكح زوجا غيره } دل عليها خبر { } وقيل حقيقة فيهما فلو حلف لا ينكح حنث بالعقد ، [ ص: 177 ] ولو زنى بامرأة لم تثبت مصاهرة ، وقد بلغ بعض اللغويين أسماءه ألفا وأربعين . والأصل فيه قبل الإجماع الآيات والأخبار الكثيرة ، وفائدته حفظ النسل وتفريغ ما يضر حبسه واستيفاء اللذة والتمتع ، وهذه هي التي في الجنة ، حتى تذوقي عسيلته ؟ وجهان يظهر أثرهما فيما لو وهل هو عقد تمليك أو إباحة والأصح لا حنث حيث لا نية ، وعلى الأصح الأول فهو مالك ; لأن ينتفع لا للمنفعة ، فلو وطئت بشبهة فالمهر لها اتفاقا ، ولا يجب عليه وطؤها ; لأنه حقه ، وقد افتتحه كثير من الأصحاب بذكر شيء من خصائصه صلى الله عليه وسلم إذ ذكرها مستحب لئلا يراها جاهل فيعمل بها . حلف لا يملك شيئا وله زوجة
ولنذكر طرفا منها على وجه التبرك فنقول : هي أنواع : أحدها الواجبات كالضحى والوتر [ ص: 178 ] والأضحية والسواك لكل صلاة والمشاورة وتغيير منكر رآه وإن خاف وإن علم أن فاعله يزيد فيه عنادا خلافا للغزالي ومصابرة العدو وإن كثر وقضاء دين مسلم مات معسرا ، ولا يجب على الإمام القضاء من المصالح وتخيير نسائه ، ولا يشترط الجواب فورا فلو اختارته واحدة لم يحرم طلاقها أو كرهته توقفت الفرقة على الطلاق ، وقولها اخترت نفسي ليس طلاقا في أوجه الوجهين ، والأوجه جواز تزوجه بها بعد فراقها ونسخ وجوب التهجد عليه لا الوتر .
الثاني المحرمات عليه صلى الله عليه وسلم كصدقة وتعلم خط وشعر لا أكل نحو ثوم أو متكئا ، ويحرم نزع لأمته قبل قتال عدو دعت له حاجة ومد العين إلى متاع الناس ، وخائنة الأعين ، وهي الإيماء بما يظهر خلافه من مباح دون الخديعة في الحرب ، وإمساك من كرهت نكاحه ولو أمة فيجب إخراجها عن ملك ، ونكاح كتابية لا التسري بها ، ونكاح الأمة ، ولو مسلمة ، والمن ليستكثر .
الثالث التخفيفات والمباحات له وهي نكاح تسع وحرم الزيادة عليهن ثم نسخ ، وينعقد نكاحه محرما وعلى محرمة وبلا ولي وشهود وبلفظ الهبة إيجابا وقبولا ، ولا مهر للواهبة له وإن دخل بها ، ويجب إجابته على امرأة رغب فيها وعلى زوجها طلاقها ، وله تزويج من شاء لمن شاء ولو لنفسه من غير إذن متوليا للطرفين ، ويزوجه الله تعالى ، وأبيح له الوصال [ ص: 179 ] وصفي المغنم وخمس الخمس وأربعة أخماس الفيء ، ويقضي بعلمه ويحكم ويشهد لنفسه وفرعه وعلى عدوه ويحمي لنفسه وإن لم يقع له ، وتجوز الشهادة بما ادعاه ، وتقبل شهادة من شهد له ، وله أخذ طعام غيره إن احتاجه ، ويجب إعطاؤه له وبذل النفس دونه ، ولا ينتقض وضوءه بالنوم ، ومن شتمه صلى الله عليه وسلم أو لعنه جعل الله له ذلك قربة ومعظم هذه المباحات لم يفعله ، الرابع : الفضائل والإكرام ، وهي تحريم زوجاته على غيره ولو مطلقات ومختارات فراقه ولو قبل الدخول وسراري ، وتفضيل نسائه على سائر النساء وثوابهن وعقابهن مضاعف وهن أمهات المؤمنين إكراما فقط كهو في الأبوة للرجال والنساء ، وتحريم سؤالهن إلا من وراء حجاب وأفضل نساء العالم مريم ابنة عمران ثم ثم فاطمة ابنة رسول الله صلى الله عليه وسلم خديجة ، ومن فضلها على ابنتها فمن حيث الأمومة ثم كما أفتى بذلك الوالد رحمه الله تعالى ، وهو خاتم النبيين وسيد ولد عائشة آدم ، وأول من تنشق عنه الأرض ، وأول من يقرع باب الجنة ، وأول شافع ، وأول مشفع ، وأمته خير الأمم معصومة لا تجتمع على ضلالة ، وصفوفهم كصفوف الملائكة وشريعته مؤيدة ناسخة لغيرها ، ومعجزته باقية وهي القرآن ، ونصر بالرعب مسيرة شهر ، وجعلت له الأرض مسجدا وترابها طهورا ، وأحلت له الغنائم ولم يورث ، وتركته صدقة على المسلمين ، وأكرم بالشفاعات الخمس ، وخص بالعظمى ، ودخول خلق من أمته الجنة بغير حساب ، وأرسل إلى الإنس [ ص: 180 ] والجن لا الملائكة كما أفتى به الوالد رحمه الله تعالى وهو أكثر الأنبياء أتباعا ، وكان لا ينام قلبه ، ويرى من خلفه وتطوعه قاعدا كقائم ، ولا تبطل صلاة من خاطبه بالسلام
ويحرم رفع الصوت فوق صوته ، ونداؤه من وراء الحجرات وباسمه ، والتكني بكنيته مطلقا على المذهب ، وتجب إجابته في الصلاة ولا تبطل بها ولو فعلا كثيرا كما بحثه الإسنوي وشمله كلامهما ، وكان يتبرك ويستشفى ببوله ودمه ، ومن زنى بحضرته أو استخف به كفر ، وإن نظر المصنف في الزنا ، وأولاد بناته ينسبون إليه ، وتحل له الهدية مطلقا ، وأعطي جوامع الكلم ، وكان يؤخذ عن الدنيا عند الوحي مع بقاء التكليف ، ولا يجوز الجنون على الأنبياء بخلاف الإغماء ولا الاحتلام ، ورؤيته في النوم حق ولا يعمل بها في الأحكام لعدم ضبط النائم ، ولا تأكل الأرض لحوم الأنبياء والكذب عليه عمدا كبيرة ، ونبع الماء الطهور من بين أصابعه ، وصل بالأنبياء ليلة الإسراء ، وكان أبيض الإبط ، ولا يجوز عليه الخطأ ، ويبلغه سلام الناس بعد موته ، ويشهد لجميع الأنبياء بالأداء يوم القيامة ، وكان إذا مشى في الشمس والقمر لا يظهر له ظل ، ولا يقع منه إيلاء ولا ظهار ، ولا يتصور منه لعان .
ونقل أنه كان لا يقع عليه الذباب ولا يمتص دمه البعوض ، وكل موضع صلى فيه وضبط موقفه امتنع فيه الاجتهاد يمنة ويسرة ، ووجوب الصلاة عليه في التشهد الأخير ، وعرض عليه جميع الخلق من الفخر الرازي آدم إلى من بعده كما قاله في الذخائر ، وكان لا يتثاءب ولا يظهر ما يخرج منه من الغائط بل تبتلعه الأرض كما قاله الحافظ عبد الغني ، ومن كان في قلبه حرج في حكمه عليه يكفر به .
قاله الإصطخري ، ولم يصل عليه جماعة بل صلى الناس أفرادا ( هو ) أي أي تائق له بتوقانه للوطء ( يجد أهبته ) من مهر وكسوة فصل التمكين ونفقة يومه ولو خصيا كما اقتضاه كلام الإحياء أو مشتغلا بالعبادة للخبر المتفق عليه [ ص: 181 ] { النكاح بمعنى التزوج : أي تأهله بزوجة ( مستحب لمحتاج إليه ) } والباءة بالمد لغة : الجماع ، والمراد هو مع المؤنة لرواية { يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج ، فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج } والقول بأن المراد الجماع ينافيه ( ومن لم يستطع فعليه بالصوم ) ; لأن من لا شهوة له لا يحتاج للصوم ، وتأويله بأن المعنى من استطاع منكم الباء بقدرته على المؤن إلخ بعيد لا ضرورة بل لا حاجة إليه كما لا يخفى ولم يجب مع هذا الأمر لآية { من كان منكم ذا طول فليتزوج ما طاب لكم } ورد بأن المراد به الحلال من النساء ، وأيضا فلم يأخذ بظاهره أحد فإن الذي حكوه قولا إنه فرض كفاية لبقاء النسل .
نعم لو خاف العنت وتعين طريقا لدفعه مع قدرته وجب ، ولا يلزم بالنذر مطلقا وإن استحب كما أفتى به الوالد رحمه الله تعالى خلافا لبعض المتأخرين ، وما بحثه بعضهم من وجوبه أيضا فيما لو طلق مظلومة في القسم ليوفيها حقها من نوبة المظلوم لها ظاهر ، وإن رد بأن الطلاق بدعي ، وقد صرحوا في البدع بندب الرجعة فيه لوضوح الفرق بأن الذمة اشتغلت فيها بحق لها فوجب رده ، ويجب ما يكون طريقا متعينا له ، ولا كذلك طلاق البدعة إذ لم يستقر لها في ذمته حق تطالبه برده ، ومنع جمع التسري في هذا الزمن لعدم التخميس مردود ، كما يأتي بأنه إنما يتجه فيمن تحقق أن سابيها مسلم لا فيمن شك في سابيها ; لأن الأصل الحل ، ولا فيمن تحقق أن سابيها كافر من كافر أو اشترى خمس بيت المال من ناظره لحلها يقينا ، وما نقل عن النص من عدم استحباب النكاح مطلقا لمن في دار الحرب خوفا على ولده من التدين بدينهم ، والاسترقاق محمول على من لم يغلب على ظنه الزنا لو لم يتزوج ، إذ المصلحة المحققة الناجزة مقدمة على المفسدة المستقبلة المتوهمة .
والأوجه إلحاق التسري بالنكاح في ذلك ; لأن ما علل به يأتي فيه والضمائر الثلاثة في كلام المصنف راجعة كلها للعقد المراد به أحد طرفيه ، وهو التزوج : أي قبول التزويج ولا محذور فيه ، وما يوهمه [ ص: 182 ] في إليه يرده قولنا : أي تائق إليه بتوقانه للوطء وهذا مجاز مشهور لا اعتراض عليه فاندفع القول بأنه إن أراد بها العقد أو الوطء لم يصح أو بهو وأهبته العقد وبإليه الوطء صح لكن فيه تعسف ( فإن فقدها استحب تركه ) لقوله تعالى { وليستعفف الذين لا يجدون نكاحا } الآية وعبر الرافعي والمصنف في الروضة بأن الأولى أن لا ينكح ، ودعوى أنها دون الأولى في الطلب مردودة بأنه لا فرق بينهما ، وفي شرح يكره فعله ، ورد بأن مقتضى الخبر عدم طلب الفعل ، وهو أعم من النهي عن الفعل بل ومن طلب الترك ، وقيل يستحب فعله وعليه كثيرون لآية { مسلم إن يكونوا فقراء } مع الخبر الصحيح { } وصح أيضا { تزوجوا النساء فإنهن يأتينكم بالمال } وفي مرسل { ثلاثة حق على الله أن يعينهم منهم الناكح يريد أن يستعفف من ترك التزوج مخافة العيلة فليس منا } وحملوا الأمر بالاستعفاف في الآية على من لم يجد زوجة ولا دلالة لهم عند التأمل في شيء مما ذكر إذ لا يلزم من الفقر وإتيانهن بالمال والإعانة وخوف العيلة عدم وجدان الأهبة بالمعنى السابق لا سيما .
ودليلنا { } أي قاطع أصح ، وهو صريح فيما ذكر لا يقبل تأويلا ( ويكسر ) إرشادا ( شهوته بالصوم ) للحديث المذكور ، وكونه يثير الحرارة والشهوة إنما هو في ابتدائه ، فإن لم تنكسر به تزوج ، ولا يكسرها بنحر كافر بل يكره له ذلك كما قاله ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء البغوي ونقله في المطلب عن الأصحاب ; لأنه نوع من الخصاء إن غلب على الظن أنه لا يقطع الشهوة بالكلية بل يفترها في الحال ، ولو أراد إعادتها باستعمال ضد الأدوية لأمكنه ذلك ، وما جزم به في الأنوار من الحرمة [ ص: 183 ] محمول على القطع لها مطلقا ( فإن لم يحتج ) أي يتق ( له ) أي للنكاح بعدم توقانه للوطء خلقة أو لعارض ولا علة به ( كره ) له ( إن فقد الأهبة ) لا التزامه ما لا يقدر عليه بلا حاجة ، وسيأتي في كلامه أن شرط صحة نكاح السفيه الحاجة فلا يرد هنا ( وإلا ) بأن ( فلا ) يكره له لقدرته عليه ، ومقاصده لا تنحصر في الوطء ، بل بحث جمع ندبه لحاجة تأنس وخدمة . وجد الأهبة مع عدم حاجته للنكاح
وكلامهم يأباه ( لكن العبادة ) أي التخلي لها من المتعبد ( أفضل ) منه اهتماما بشأنها ، وقدرنا ما ذكر ; لأنه محل الخلاف كما قاله السبكي وغيره ; لأن ذات العبادة أفضل من ذات النكاح قطعا ، ويصح عدم التقدير ، ويكون " أفضل " بمعنى فاضل كما قاله الشارح ، وما اقتضاه ذلك من أن النكاح ليس بعبادة ، ولو لابتغاء النسل صرح به جمع مستدلا على ذلك بصحته من الكافر ممنوع ، إذ صحته منه لا تنفي كونه عبادة كعمارة المساجد والعتق ; ولأنه صلى الله عليه وسلم أمر به ، والعبادة إنما تتلقى من الشارع ، وأفتى المصنف بأنه إن قصد به طاعة من ولد صالح أو إعفاف كان من عمل الآخرة ويثاب عليه وإلا كان مباحا وسبقه إليه الماوردي ، وعليه ينزل الكلامان ، ومحل ذلك في غير نكاحه صلى الله عليه وسلم .
أما هو فقربة قطعا ; لأن فيه نشر الشريعة المتعلقة بمحاسنه الباطنة التي لا يطلع عليها الرجال ، ومن ثم وسع له في عدد الزوجات ما لم يوسع لغيره ليحفظ كل ما لم يحفظه غيره لتعذر إحاطة العدد القليل بها لكثرتها بل خروجها عن الحصر .
( قلت : فإن لم يتعبد فالنكاح أفضل في الأصح ) من البطالة لئلا تفضي به إلى الفواحش ، فأفضل هنا بمعنى فاضل مطلقا ، والثاني تركه أفضل منه للخطر في القيام بواجبه ، وفي الصحيح { بني إسرائيل كانت من النساء } ( فإن وجد الأهبة وبه علة كهرم أو مرض دائم أو تعنين ) كذلك بخلاف من يعن وقتا دون وقت ( كره ) له النكاح ( والله أعلم ) لعدم حاجته مع عدم تحصين المرأة المؤدي غالبا إلى فسادها ، وبه يندفع قول الإحياء يسن لنحو ممسوح تشبها بالصالحين كما يسن إمرار الموسى على رأس الأصلع ، وقول اتقوا الله واتقوا النساء فإن أول فتنة الفزاري : أي نهي ورد في نحو المجبوب والحاجة غير منحصرة في الجماع ، وما اقتضاه سياق كلام المصنف من عدم مجيء تلك الأحكام في المرأة غير مراد ، ففي الأم وغيرها ندبه للتائقة وألحق بها محتاجة للنفقة وخائفة من اقتحام فجرة ، وفي التنبيه من جاز لها النكاح إن احتاجته ندب لها وإلا كره ، ونقله عن الأصحاب ، ثم نقل وجوبه عليها . الأذرعي
إذا لم تندفع عنها الفجرة إلا به ، وبما ذكر علم ضعف قول الزنجاني يسن لها مطلقا ، إذ لا شيء عليها مع ما فيه من القيام بأمرها وسترها ، وقول غيره لا يسن لها مطلقا ; لأن عليها حقوقا خطيرة للزوج لا يتيسر لها القيام بها ، ومن ثم ورد الوعيد الشديد في ذلك ، ولو علمت من نفسها عدم القيام بها ولم تحتج إليه حرم عليها ا هـ .
وما ذكره آخرا ظاهر .