ولما فرغ المصنف من فرائض الوضوء شرع في بيان إشارة إلى أن الوضوء لا واجب فيه لما أن ثبوت الحكم بقدر دليله والدليل المثبت له هو ما كان ظني الثبوت قطعي الدلالة وما كان بمنزلته كأخبار الآحاد التي مفهومها قطعي الدلالة ، ولم يوجد في الوضوء ولا ينافيه ما في الخلاصة من أن سننه فرض ، وهو الوضوء لصلاة الفريضة وصلاة الجنازة وسجدة التلاوة وواجب ، وهو الوضوء للطواف الوضوء ثلاثة [ ص: 17 ] أنواع بالبيت ومندوب ، وهو الوضوء للنوم وعن الغيبة والكذب ، وإنشاد الشعر ومن القهقهة والوضوء على الوضوء والوضوء لغسل الميت ا هـ .
لأن هذا حكم على نفس الوضوء بأنه واجب لا أن فيه واجبا ، وظاهر تقييده بصلاة الفريضة أن ليس بفرض ، وإن كان شرطا والظاهر أنه فرض عند إرادتها الجازمة كما سبق تقريره في بيان السبب ومراده من الوضوء للنوم الوضوء عند إرادة النوم ، فإنه مستحب ، وأما الوضوء من النوم الناقض ففرض الوضوء للنافلة
( قوله : وسنته ) أي الوضوء هي لغة الطريقة المعتادة ، ولو سيئة واصطلاحا الطريقة المسلوكة في الدين كذا في العناية ، وفيه نظر لشموله الفرض والواجب فزاد في الكشف من غير افتراض ولا وجوب وفيه نظر لشموله المستحب والمندوب فالأولى أن يقال هي الطريقة المسلوكة في الدين من غير لزوم على سبيل المواظبة ليخرج غير المحدود ، وما في غاية البيان من أنها ما في فعله ثواب وفي تركه عتاب لا عقاب فهو تعريف بالحكم وما في شرح النقاية من أنها ما ثبت بقوله أو فعله وليس بواجب ولا مستحب ففيه نظر لشموله المباح
وما في فتح القدير وغيره من أنها ما واظب النبي صلى الله عليه وسلم عليه ومع الترك أحيانا فمنتقض بالفرض ، فإن القيام في الصلاة مثلا حصلت المواظبة عليه مع الترك أحيانا لعذر المرض ; فلذا زاد في التحرير أن يكون الترك أحيانا بلا عذر ليلزم كونه بلا وجوب وظاهر أن المواظبة بلا ترك أصلا لا تفيد السنية بل الوجوب وظاهر الهداية يخالفه ، فإنه في الاستدلال على سنية المضمضة والاستنشاق قال ; لأنه عليه السلام فعلهما على المواظبة ، وكذا استدلالهم على سنية الاعتكاف في العشرة الأخير من رمضان { } كما في الصحيحين يفيد أنها تفيد السنية مطلقا ; ولذا في فتح القدير فهذه المواظبة المقرونة بعدم الترك مرة لما اقترنت بعدم الإنكار على من لم يفعله من الصحابة كانت دليل السنية ، وإلا كانت تكون دليل الوجوب انتهى والذي ظهر للعبد الضعيف أن السنة ما واظب النبي صلى الله عليه وسلم عليه لكن إن كانت [ ص: 18 ] لا مع الترك فهي دليل السنة المؤكدة ، وإن كانت مع الترك أحيانا فهي دليل غير المؤكدة ، وإن اقترنت بالإنكار على من لم يفعله فهي دليل الوجوب فافهم هذا فإن به يحصل التوفيق وفي بعض النسخ وسننه بالجمع ونكتة جمعها وإفراد الفرض الإشارة إلى أن الفروض بأنه عليه السلام واظب على الاعتكاف في العشرة الأخير من رمضان حتى توفاه الله تعالى
وإن كثرت في حكم شيء واحد بدليل فساد البعض بترك البعض بخلاف السنن إذ لا يبطل بعضها بترك بعضها والإضافة هنا بمعنى اللام كما لا يخفى وجعلها المصنف في المستصفى من إضافة الشيء إلى محله ; لأن الطهارة محل لهذه السنن وفي النهاية أنها بمعنى من وفيه ما تقدم في كتاب الطهارة . ( قوله : يعني : غسل اليدين ثلاثا إلى رسغيه في ابتداء الوضوء سنة والرسغ منتهى الكف عند المفصل وفي ضياء الحلوم الرسغ بالغين المعجمة موصل الكف في الذراع والقدم في الساق . غسل يديه إلى رسغيه ابتداء )
اعلم أن في غسل اليدين ابتداء ثلاثة أقوال قيل إنه فرض وتقديمه سنة واختاره في فتح القدير والمعراج والخبازية وإليه يشير قول في الأصل بعد غسل الوجه ثم يغسل ذراعيه ولم يقل يديه فلا يجب غسلهما ثانيا وقيل إنه سنة تنوب عن الفرض كالفاتحة ، فإنها واجبة تنوب عن الفرض واختاره في الكافي وقال محمد السرخسي : إنه سنة لا ينوب عن الفرض فيعيد غسلهما ظاهرهما وباطنهما قال : وهو الأصح عندي واستشكله في الذخيرة بأن المقصود هو التطهير فبأي طريق حصل حصل المقصود
وظاهر كلام المشايخ أن المذهب الأول واختلف في أن غسلهما قبل الاستنجاء أو بعده فقيل سنة قبله فقط وقيل بعده فقط وقيل قبله وبعده وإليه ذهب الأكثر كما صرح به في المجتبى وصححه قاضي خان في الفتاوى وفي النهاية ويستدل له بأن جميع من حكى وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم غسل اليدين ، وأما سنيته قبله فيما رواه الجماعة من { ميمونة في صفة غسله وفيه أنها حكت غسل اليدين قبل الاستنجاء } وحكمته قبله المبالغة في إزالة رائحة ما يصيبهما وأورد أن المصاب اليد اليسرى فينبغي الاقتصار عليها وتخصيصه بما إذا تغوط . حديث
وأجيب بما في الأصول من أن الحكمة تراعى في الجنس ولا يلزم وجودها في كل فرد .
ثم اعلم أن واجب إذا كانت النجاسة محققة فيهما وسنة عند ابتداء الوضوء كما ذكرنا وسنة مؤكدة عند توهم النجاسة كما إذا استيقظ من النوم فعلم بهذا أن قيد الاستيقاظ الواقع في الهداية وغيرها اتفاقي ; لأن من حكى وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم الابتداء بغسل اليدين كحمران مولى عثمان بن عفان وغيره قدم فيه البداءة بغسل اليدين من غير تقييد بكونه عن نوم وعلل له في الهداية بأن اليدين آلة التطهير فيبدأ بتنظيفهما وأورد عليه بأن هذا يقتضي الوجوب ; لأن ما لا يتوصل إلى الواجب إلا به فهو واجب .
وأجيب بأن هنا مانعا من القول بالوجوب ، وهو طهارتهما حقيقة وحكما ، فكأن الغسل إلى الرسغين ; لأنه يكفي في حصول المقصود ، وهو تنظيف الآلة
وعلم بما قررناه أيضا أن ما في شرح المجمع من أن مقيدة بأن يكون نام غير مستنج أو كان على بدنه نجاسة حتى لو لم يكن كذلك لا يسن في حقه ضعيف أو المراد نفي السنة المؤكدة لا أصلها وكيفية غسلهما كما ذكر في الشروح أنه إن كان الإناء صغيرا بحيث يمكن رفعه لا يدخل يده فيه بل يرفعه بشماله ويصبه على كفه اليمنى ويغسلها ثلاثا ثم يأخذ الإناء بيمينه ويصبه على كفه اليسرى ويغسلها ثلاثا ، وإن كان الإناء كبيرا لا يمكن رفعه ، فإن كان معه إناء صغير يفعل كما ذكرنا ، وإن لم يكن يدخل أصابع يده اليسرى مضمومة في الإناء يصب على كفه اليمنى ثم يدخل اليمنى في الإناء ويغسل اليسرى وعلله في المحيط بأن الجمع بين اليدين في كل مرة غير مسنون وتعقبه السنة في غسل اليدين للمستيقظ العلامة الحلبي بأن الجمع سنة كما تفيده الأحاديث والظاهر أن تقديم اليمنى على اليسري لأجل التيامن [ ص: 19 ] لا لما في المحيط كما لا يخفى قالوا ولا يدخل الكف حتى لو أدخله صار الماء مستعملا كما صرح به في المبتغى ومعناه صار الماء الملاقي للكف مستعملا إذا انفصل لا جميع ماء الإناء كما سنحققه في بحث المستعمل ، وقالوا يكره للحديث ، وهي كراهة تتزيه ; لأن النهي فيه مصروف عن التحريم بقوله { إدخال اليد في الإناء قبل الغسل } ، فإنه لا يدري أين باتت يده
فالنهي محمول على الإناء الصغير أو الكبير إذا كان معه إناء صغير فلا يدخل اليد فيه أصلا ، وفي الكبير على إدخال الكف كذا في المستصفى وغيره مع أن المنقول في الخانية أن لا يفسد الماء وكذا إذا وقع الكوز في الجب فأدخل يده إلى المرفق لا يصير الماء مستعملا وفي شرح المحدث أو الجنب إذا أدخل يده في الإناء للاغتراف ، وليس عليها نجاسة الأقطع يكره لاحتمال النجاسة كما يكره الوضوء بالماء الذي أدخل المستيقظ يده فيه وفي المضمرات إذا لم يكن معه ما يغترف به ويداه نجستان ، فإنه يأمر غيره أن يغترف بيديه ليصب على يديه ليغسلهما ، وإن لم يجد يرسل في الماء منديلا ويأخذ طرفه بيده ثم يخرج من البئر فيغسل اليد بقطراته ثم يغسل اليد الأخرى أو يأخذ الثوب بإسنانه فيغسل يديه بالماء الذي يتقاطر ثلاثا ، فإن لم يجد يرفع الماء بفمه فيغسل يديه ، فإن لم يقدر ، فإنه يتيمم ويصلي ولا إعادة عليه ا هـ . الوضوء بالماء الذي أدخل الصبي يده فيه
وفي مسألة رفع الماء بفيه اختلاف والصحيح أنه يصير مستعملا ، وهو مزيل للخبث ( قوله : كالتسمية ) أي كما أن مطلقا كذلك غسل اليدين سنة في الابتداء مطلقا أعني : سواء كان الوضوء عن نوم أو غيره لفظها المنقول عن التسمية سنة في الابتداء السلف كما في النهاية أو عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في الخبازية بسم الله العظيم والحمد لله على دين الإسلام وعن الوبري يتعوذ ثم يبسمل وذكر الزاهدي أنه إن جمع بين ما تقدم والبسملة فحسن وفي المحيط السنة مطلق الذكر كالحمد لله أو لا إله إلا الله وما ذكره المصنف من أنها سنة مختار القدوري
وفي الهداية الأصح أنها مستحبة قيل ، وهو ظاهر الرواية ويسمي قبل الاستنجاء وبعده هو الصحيح إلا مع الانكشاف ، وفي موضع النجاسة كذا في الخانية ، وقد استدل لوجوب التسمية بحديث أبي داود { } ، وهو ، وإن ضعف ارتقى إلى الحسن بكثرة طرقه . لا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه
وأجاب عنه في شرح الآثار بمعارضته لما في الصحيحين { الطحاوي } ولما رواه أنه عليه السلام لم يرد السلام حين سلم عليه رجل حتى أقبل على الجدار فتيمم ثم رد السلام أبو داود وغيره من حديث المهاجرين { قنفذ لما سلم على النبي عليه السلام ، وهو يتوضأ فلم يرد عليه فلما فرغ قال إنه لم يمنعني أن أرد عليك إلا أني كنت على غير وضوء } فهذه تفيد عدم ذكره عليه السلام اسمه تعالى على غير طهارة ومقتضاه انتفاؤه في أول الوضوء فيحمل الأول على نفي الفضيلة جمعا بين الأحاديث وتعقبه في معراج الدراية وشرح المجمع بأنه يلزم منه أن لا تكون التسمية أفضل في ابتداء الوضوء وأن يكون وضوءه عليه السلام خاليا عن التسمية ولا يجوز نسبة ترك الأفضل له عليه السلام وقد يدفع بأنه يجوز ترك الأفضل له تعليما للجواز كوضوئه مرة مرة تعليما لجوازه ، وهو واجب عليه ، وهو أعلى من المستحب لكن يمكن الجمع بين الأحاديث بأن التسمية من لوازم إكماله فكان ذكرها من تمامه والذاكر لها قبل الوضوء مضطر إلى ذكرها لإقامة هذه السنة المكملة للفرض فخصت من عموم الذكر ومطلق الذكر ليس من ضروريات الوضوء والمستحب أن لا يطلق اللسان به إلا على [ ص: 20 ] طهارة ويدخل في التخصيص الأذكار المنقولة على أعضاء الوضوء لكونها من مكملاته كذا في معراج الدراية وهو مبني على أن المراد به نفي الفضيلة ، وهو ظاهر في نفي الجواز لكنه خبر واحد لا يزاد به على الكتاب فمقتضاه الوجوب إلا لصارف فذكر بعضهم أن الصارف قوله عليه السلام { } فإنه يقتضي وجود من توضأ وسمى الله تعالى كان طهورا لجميع أعضائه ومن توضأ ولم يسم الله كان طهورا لأعضاء وضوئه ، وهو مردود من ثلاثة أوجه : الوضوء بلا تسمية
الأول : ضعف الحديث كما بينه في فتح القدير .
الثاني : أن ترك الواجب لا ينفي الوجود ، وإنما يوجب النقصان فقط الثالث أنه يقتضي تجزؤ الطهارة ، وهي غير متجزئة عندنا كذا في المعراج ورده الأكمل في تقديره بأن من كانت الطهارة مقتصرة على ما غسل ، نعم بدن الإنسان باعتبار ما يخرج منه غير متجزئ وقيل الصارف عدم حكاية توضأ وغسل بعض أعضاء وضوئه عثمان لها لما حكيا وضوءه عليه السلام ورده في فتح القدير بأن عدم النقل لا ينفي الوجود فكيف بعد الثبوت بوجه آخر ألا ترى أنهما لم ينقلا التخليل والسواك ولا شك أنهما سنتان وذكر في المبسوط أن الصارف هو عدم تعليمها للأعرابي لما علمه الوضوء ورده في فتح القدير بأن حديث الأعرابي ، وإن حسنه وعلي الترمذي ضعفه ابن القطان قال فأدى النظر إلى وجوبها غير أن صحة الوضوء لا تتوقف عليها ; لأن الركن إنما يثبت بالقاطع ولا يلزم الزيادة على الكتاب بخبر الواحد إلا لو قلنا بالافتراض ، وقد أجاب عن قولهم لا واجب في الوضوء بما حاصله أن هذا الحديث لما كان ظني الثبوت قطعي الدلالة ، ولم يصرفه صارف أفاد الوجوب ولا مانع منه ، وقول من قال إنه ظني الدلالة ممنوع بأنه إن أريد بظنيتها مشتركها فما نحن فيه ليس منه ، فإن الظاهر أن النفي متسلط على الوضوء والحكم الذي هو الصحة
ونفي الكمال احتمال ، وإن أريد بظنيتها ما فيه احتمال ، ولو مرجوحا فلا نسلم أنه لا يثبت به الوجوب ; لأن الظن واجب الاتباع ، وإن كان فيه احتمال ولقائل أن يقول إن قوله عدم النقل لا ينفي الوجود إلى آخره لا يتم في الواجب إذا لا يجوز في التعليم ترك شيء من الواجبات فلو كانت التسمية واجبة لذكراها للحاجة إلى بيانها بخلاف السنن فكان هذا صارفا سالما عن الرد ومرادهم من ظني الدلالة مشتركها كما صرح به الأصوليون ولا شك أنه مشترك شرعي أطلق تارة وأريد به نفي الحقيقة نحو { } { لا صلاة لحائض إلا بخمار } وأطلق تارة مرادا به نفي الكمال نحو { ولا نكاح إلا بشهود } و { لا صلاة للعبد الآبق } فتعين نفي الحقيقة في الأول بالإجماع ، وفي الثاني ; لأنه مشهور تلقته الأمة بالقبول فتجوز الزيادة بمثله على النصوص المطلقة ، فكانت الشهادة شرطا فعند عدم المرجح لأحد المعنيين كان الحديث ظنيا ، وبه تثبت السنة ومنه حديث التسمية والعجب من لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد الكمال بن الهمام أنه في هذا الموضع نفى ظنية الدلالة عن حديث التسمية بمعنى مشتركها وأثبتها له في باب شروط الصلاة بأبلغ وجوه الإثبات بأن قال ولا شك في ذلك ; لأن احتمال نفي الكمال قائم فالحق ما عليه علماؤنا من أنها مستحبة كيف
وقد قال : لا أعلم فيها حديثا ثابتا والله تعالى أعلم . الإمام أحمد
ولو لا تحصل السنة بخلاف نحوه في الأكل كذا في التبيين معللا بأن الوضوء عمل واحد بخلاف الأكل ، فإن كل لقمة فعل مبتدأ ا هـ . نسي التسمية في ابتداء الوضوء ثم ذكرها في خلاله فسمى
ولهذا ذكر في الخانية لو فعليه بكل لقمة درهم ; لأن كل لقمة أكل لكن قال قال كلما أكلت اللحم فلله علي أن أتصدق بدرهم المحقق ابن الهمام هو إنما يستلزم في الأكل تحصيل السنة في الباقي لا استدراك ما فات ا هـ .
وظاهره مع ما قبله أنه إذا نسي التسمية فإتيانه بها وعدمه سواء مع أن ظاهر ما في السراج الوهاج أن الإتيان بها مطلوب ولفظه ، فإن أتى بها إذا ذكرها قبل الفراغ حتى لا يخلو الوضوء منها . نسي التسمية في أول الطهارة