وأما فقد قال سؤر سباع البهائم بطهارته محتجا بما رواه الشافعي البيهقي عن والدارقطني قال { جابر } . قيل يا رسول الله أنتوضأ بما أفضلت الحمر قال نعم وبما أفضلت السباع كلها
وبما رواه في الموطإ أن مالك رضي الله عنه خرج في ركب فيهم عمر بن الخطاب حتى وردوا حوضا فقال عمرو بن العاص يا صاحب الحوض هل ترد حوضك السباع فقال عمرو بن العاص يا صاحب الحوض لا تخبره فإنا نرد على السباع وترد علينا وبما رواه عمر بن الخطاب عن ابن ماجه قال { ابن عمر يا صاحب المقراة أولغت السباع الليلة في مقراتك فقال عليه السلام يا صاحب المقراة لا تخبره هذا متكلف لها ما حملت في بطونها ولنا ما بقي شراب وطهور عمر } ولنا { خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أسفار فسار ليلا فمروا على رجل عند مقراة له فقال } والظاهر من الحرمة مع كونه صالحا للغذاء غير مستقذر طبعا كونه للنجاسة وخبث طباعها لا ينافيه بل ذلك يصلح مثيرا لحكم النجاسة فليكن المثير لها فيجامعها ترتيبا على الوصف الصالح للعلية مقتضاه ; ولأنه ليس فيه ضرورة وعموم بلوى فيخرج السنور والفأرة ; ولأن لسانه يلاقي الماء فيخرج سباع الطير لأنه يشرب بمنقاره كما سيأتي ولم تتعارض أدلته فيخرج البغل والحمار أنه صلى الله عليه وسلم نهى عن أكل كل ذي ناب من السباع
وأما حديث فقد اعترف جابر النووي بضعفه ، وأما أثر الموطإ فهو ، وإن صححه وذكر أنه مرسل يحتج به على البيهقي فقد ضعفه أبي حنيفة ابن معين ، وأما حديث والدارقطني فقد ضعفه ابن ماجه ابن عدي وعلى تسليم الصحة يحمل على الماء الكثير أو على ما قبل تحريم لحوم السباع أو على حمر الوحوش وسباع الطير بدليل ما تمسكوا به من حديث القلتين ، فإنه صلى الله عليه وسلم قال { } جوابا لسؤاله عن الماء يكون في الفلاة وما ينوبه من السباع إعطاء لحكم هذا الماء الذي ترده السباع وغيره ، فإن الجواب لا بد أن يطابق أو يزيد فيندرج فيه المسئول عنه وغيره وقد قال بمفهوم شرطه فنجس ما دون القلتين ، وإن لم يتغير وحقيقة مفهوم شرطه أنه إذا لم يبلغها يتنجس من ورود السباع ، وهذا من الوجوه الإلزامية له قال إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل خبثا الزيلعي رحمه الله .
ثم اعلم أن في مذهب أصحابنا في إشكالا ، فإنهم يقولون ; لأنه متولد من لحم نجس ثم يقولون إذا ذكي طهر ; لأن نجاسته لأجل رطوبة الدم سؤر ما لا يؤكل لحمه من السباع
وقد خرج بالذكاة ، فإن كانوا يعنون بقولهم نجس نجاسة عينه وجب أن لا يطهر بالذكاة كالخنزير ، وإن كانوا يعنون به لأجل مجاورة الدم فالمأكول كذلك يجاوره الدم فمن أين جاء الاختلاف بينهما في السؤر إذا كان كل واحد منها يطهر بالذكاة ويتنجس بموته حتف أنفه ولا فرق بينهما إلا في المذكى في حق الأكل والحرمة لا توجب النجاسة وكم من طاهر لا يحل أكله ، ومن ثم قال بعضهم : لا يطهر بالذكاة [ ص: 137 ] إلا جلده ; لأن حرمة لحمه لا لكرامته آية نجاسته لكن بين الجلد واللحم جلدة رقيقة تمنع تنجس الجلد باللحم ، وهذا هو الصحيح ; لأنه لا وجه لنجاسة السؤر إلا بهذا الطريق ا هـ .
وقد ذكر في العناية حاصل هذا الإشكال وذكر أنها نكتة لا بأس بالتنبيه عليها ثم قال وحلها أن المراد باللحم الطاهر المتولد منه اللعاب ما يحل أكله بعد الذبح ، وبالنجس ما يقابله ، وهذا لأنهما اشتركا في النجاسة المجارة بالدم المسفوح قبل الذبح ، فإن الشاة لا تؤكل إذا ماتت حتف أنفها واشتركا في الطهارة بعده لزوال المنجس ، وهو الدم فلا فرق بينهما إلا أن الشاة تؤكل بعد الذبح دون الكلب ولا فرق بينهما أيضا في الظاهر إلا اختلاط اللعاب المتولد من اللحم فعلم من هذا أن طاهر بلا كراهة دون غيره إضافة للحكم إلى الفارق صيانة لحكم الشرع عن المناقضة ظاهرا هذا ما سنح لي ا هـ . اللعاب المتولد من لحم مأكول بعد الذبح
ولا يخفى ما في هذا الجواب ، فإن قول الزيلعي والحرمة لا توجب النجاسة يرده بل الجواب الصحيح ما في شرح الوقاية ، وهو أن الحرمة إذا لم تكن للكرامة ، فإنها آية النجاسة لكن فيه شبهة أن النجاسة لاختلاط الدم باللحم إذ لولا ذلك بل نجاسته لذاته لكان نجس العين ، وليس كذلك فغير مأكول اللحم إذا كان حيا فلعابه متولد من اللحم الحرام المخلوط بالدم فيكون نجسا لاجتماع الأمرين أما في مأكول اللحم فلم يوجد إلا أحدهما ، وهو الاختلاط بالدم فلم يوجب نجاسة السؤر ; لأن هذه العلة بانفرادها ضعيفة إذ الدم المستقر في موضعه لم يعط له حكم النجاسة في الحي ، وإذا لم يكن حيا ، فإن لم يكن مذكى كان نجسا سواء كان مأكول اللحم أو غيره ; لأنه صار حراما بالموت فالحرمة موجودة مع اختلاط الدم فيكون نجسا ، فإذا كان مذكى كان طاهرا أما في مأكول اللحم ; فلأنه لم توجد الحرمة ولا اختلاط الدم ، وأما في غير مأكول اللحم ; فلأنه لم يوجد الاختلاط والحرمة المجردة غير كافية في النجاسة على ما مر أنها تثبت باجتماع الأمرين ا هـ .
فحاصله أن نجاسة اللحم لحرمته مع اختلاط الدم المسفوح به ، وقد فقد الثاني في المذكى من السباع فكان طاهرا واجتمعا في حالتي الموت والحياة فكان نجسا وفقد الأول في الشاة حالة الحياة والذكاة فكان طاهرا واجتمعا حالة الموت فكان نجسا فظهر من هذا كله أن طهارة العين لا تستلزم طهارة اللحم ; لأن السباع طاهرة العين باتفاق أصحابنا كما نقله بعضهم مع أن لحمها نجس فثبت بهذا ما قدمناه من أن الكلب طاهر العين ولحمه نجس ونجاسة سؤره لنجاسة لحمه لكن بقي هاهنا كلام ، وهو أن قولهم بين الجلد واللحم جلدة رقيقة تمنع تنجس الجلد باللحم مشكل ، فإنه يقتضي طهارة الجلد من غير توقف على الذكاة أو الدباغة كما لا يخفى وفي مبسوط شيخ الإسلام ذكر نجاسة سؤر السباع ، ولم يبين أنها خفيفة أم غليظة فعن محمد في رواية الأصول غليظة وعن أبي حنيفة أن سؤر ما لا يؤكل لحمه كبول ما يؤكل لحمه كذا في معراج الدراية ومما سيأتي في سبب التغليظ والتخفيف يظهر وجه كل من الروايتين فالذي يظهر ترجيح الأولى لما عرف من أصله أبي يوسف
[ ص: 135 - 137 ]