فالفقه لغة الفهم وتقول منه فقه الرجل بالكسر وفلان لا يفقه وأفقهتك الشيء ثم خص به علم الشريعة والعالم به فقيه وفقه بالضم فقاهة وفقهه الله وتفقه إذا تعاطى ذلك وفاقهته إذا باحثته في العلم كذا في الصحاح وحاصله أن الفقه اللغوي مكسور القاف في الماضي والاصطلاحي مضمومهما فيه كما صرح به الكرماني وفي ضياء الحلوم الفقه العلم بالشيء ثم خص بعلم الشريعة وفقه بالكسر معنى الشيء فقها وفقها وفقهانا إذا علمه وفقه بالضم فقاهة إذا صار فقيها ا هـ .
وفي المغرب فقه المعنى فهمه وأفهمه غيره ا هـ .
واصطلاحا على ما ذكره النسفي في شرح المنار تبعا للأصوليين العلم بالأحكام الشرعية العلمية المكتسبة من أدلتها التفصيلية بالاستدلال أطلقوا العلم على الفقه مع كونه ظنيا ; لأن أدلته ظنية ; لأنه لما كان ظن [ ص: 4 ] المجتهد الذي يجب عليه وعلى مقلديه العمل بمقتضاه كان لقوته بهذا الاعتبار قريبا من العلم فعبر به عنه تجوزا وتعقب بأن فيه ارتكاب مجاز دون قرينة فالأولى ما في التحرير من ذكر التصديق الشامل للعلم والظن بدل العلم ، والأحكام جمع محلى باللام فإما أن يحمل على الاستغراق أو على الجنس المتناول للكل والبعض الذي أقله ثلاثة منها لا بعينه ذكره السيد في حاشية العضد وفيه أن المراد بالأحكام المجموع ومعنى العلم بها التهيؤ لذلك ورده في التوضيح بأن التهيؤ البعيد حاصل لغير الفقه والقريب غير مضبوط إذ لا يعرف أي قدر من الاستعداد يقال له التهيؤ القريب .
وأجاب عنه في التلويح بأنه مضبوط ; لأنه ملكة يقتدر بها على إدراك جزئيات الأحكام وإطلاق العلم عليها شائع وفي التحرير والمراد بالملكة أدنى ما تتحقق به الأهلية ، وهو مضبوط ا هـ .
واختلف في المراد من الحكم هنا فاختار السيد في حاشيته أنه التصديق ورده في التلويح بأنه علم ; لأنه إدراك أن النسبة واقعة أو ليست بواقعة فيقتضي أن الفقه علم بالعلوم الشرعية وليس كذلك بل المراد به النسبة التامة بين الأمرين التي العلم بها تصديق وبغيرها تصور ا هـ .
ويمكن الجواب بأن مراده من التصديق القضية صرح المولى سعد في حاشية العضد بأنه كما يطلق على الإدراك يطلق على القضية والمحققون على أنه لا يراد بالحكم هنا خطاب الله المتعلق بأفعال المكلفين اقتضاء أو تخييرا ; لأنه يكون ذكر الشرعية والعملية تكرارا وخرج بقيد الأحكام العلم بالذوات والصفات والأفعال وخرج بقيد الشرعية الأحكام المأخوذة من العقل كالعلم بأن العالم حادث أو من الحس كالعلم بأن النار محرقة أو من الوضع والاصطلاح كالعلم بأن الفاعل مرفوع كذا في التلويح وظاهره أن الحكم في مثل قولنا النار محرقة ليس عقليا ويمكن أن يجعل من العقلي بناء على أن الإدراك في الحواس إنما هو للعقل بواسطة الحواس وخرج بقيد العملية الأحكام الشرعية الاعتقادية ككون الإجماع حجة والإيمان واجبا ; ولذا لم يكن العلم بوجوب الصلاة [ ص: 5 ] والصوم ونحو ذلك مما اشتهر كونه من الدين بالضرورة فقها اصطلاحا وأورد عليه أنه إن أريد بالعمل عمل الجوارح فالتعريف غير جامع إذ يخرج عنه العلم بوجوب النية وتحريم الرياء والحسد ونحو ذلك ، وإن أريد به ما يعم عمل القلب وعمل الجوارح فالتعريف غير مانع إذ يدخل فيه جميع الاعتقاديات التي هي أصول الدين .
وأجيب عنه باختيار الشق الثاني ، ولا تدخل الاعتقادات إذ المراد بالعلمية المتعلقة بكيفية عمل فالتعلق في النية ونحوها بكيفية عمل قلبي والتعلق في الاعتقادات بحصول العلم وتحقيق الفرق بين فعل القلب كقصده إلى الشيء أو تمنيه حصول الشيء وزواله وبين التصديق القائم بالقلب الذي هو تجل وانكشاف يحصل عقب قيام الدليل لا فعل للنفس هو أن القصد نوع من الإرادة والتصديق نوع من العلم والوجدان كاف في الفرق نعم يعتبر في الإيمان مع التصديق الذي هو التجلي والانكشاف إذعان واستسلام بالقلب لقبول الأوامر والنواهي فتسمية التصديق الذي هو الاعتقاد فعلا بهذا الاعتبار وقد عدل بعضهم عن ذكر العملية إلى الفرعية ، فلم يتوجه الإيراد أصلا ، وقوله من أدلتها متعلق بالعلم أي العلم الحاصل من الأدلة وبه خرج علم المقلد وليس متعلقا بالأحكام إذ لو تعلق بها لم يخرج علم المقلد ; لأنه علم بالأحكام الحاصلة من أدلتها التفصيلية وإن لم يكن علم المقلد حاصلا عن الأدلة ، ومعنى حصول العلم من الدليل أنه ينظر في الدليل فيعلم منه الحكم ، فعلم المقلد ، وإن كان مستندا إلى قول المجتهد المستند إلى علمه المستند إلى دليل الحكم لكنه لم يحصل من النظر في الدليل كذا في التلويح ، وبه اندفع ما ذكرهالكمال بن أبي شريف من أن قوله من أدلتها للبيان لا للاحتراز إذ لا اكتساب إلا من دليل ا هـ .
واختلف في قيد التفصيلية ، فذكر [ ص: 6 ] جماعة منهم المحقق في التلويح أنه للاحتراز عن علم الخلافي ; لأن العلم بوجوب الشيء لوجود المقتضي أو بعدم وجوبه لوجود النافي ليس من الفقه وغلطهم المحقق في التحرير بقوله وقولهم التفصيلية تصريح بلازم وإخراج الخلافي به غلط ووضحه الكمال بأن قولهم إنما يصح إذا قلنا إن الخلافي يستفيد علما بثبوت الوجوب أو انتفائه من مجرد تسليمه من الفقه وجود المقتضي أو النافي إجمالا وأنه يمكنه بمجرد ذلك حفظه عن إبطال الخصم والحق أنه لا يستفيد علما ولا يمكنه الحفظ المذكور حتى يتعين المقتضي أو النافي فيكون هو الدليل المستفاد منه ذلك ، فإن كان أهلا للاستفادة منه كان فقيها فالصواب أنه ليس إخراجا لعلم الخلافي فهو تصريح بلازم ا هـ .
واختلف أيضا في قيد الاستدلال فذهب إلى أنه للاحتراز عن العلم الحاصل بالضرورة كعلم ابن الحاجب جبريل والرسول صلى الله عليه وسلم فإنه لا يسمى فقها اصطلاحا وحقق في التلويح بأنه لا حاجة إليه ، فإن حصول العلم عن الدليل مشعر بالاستدلال إذ لا معنى لذلك إلا أن يكون العلم مأخوذا من الدليل فخرج ما كان بالضرورة بقوله من أدلتها فهو للتصريح بما علم التزاما أو لدفع الوهم أو للبيان دون الاحتراز ومثله شائع في التعريفات ا هـ .
ولم يذكر علم الله تعالى ; لأنه لا يوصف بضرورة ولا استدلال فلو قال إنه للاحتراز عن العلم الذي لم يحصل بالاستدلال لكان مخرجا لعلم الله تعالى أيضا واختلف في فقها والظاهر أنه باعتبار أنه دليل شرعي للحكم لا يسمى فقها وباعتبار حصوله عن دليل شرعي يصح أن يسمى فقها اصطلاحا وبما قررناه ظهر أن الأولى الاقتصار على قولنا الفقه العلم بالأحكام الشرعية الفرعية عن أدلتها ويصح تعريفه بنفس الأحكام المذكورة لما ذكره علم النبي عليه الصلاة والسلام الحاصل عن اجتهاد هل يسمى السيد في حواشيه أن أسماء العلوم كالأصول والفقه والنحو يطلق كل منها تارة بإزاء معلومات مخصوصة كقولنا زيد يعلم النحو أي يعلم تلك المعلومات المعينة وتارة بإزاء إدراك تلك المعلومات وهكذا في التحرير وعرفه في التقويم بأنه اسم لضرب علم أصيب باستنباط المعنى وضد الفقيه صاحب الظاهر ، وهو الذي يعمل بظاهر النصوص من غير تأمل في معانيها ولا يرى القياس حجة ا هـ .
وظاهره أن ما كان من الأحكام له دليل صريح ليس من الفقه ; لأنه لم يصب بالاستنباط ، وهو بعيد ; ولذا أطلقوا في قولهم من أدلتها ليشمل القياس وغيره من الدلائل الأربعة وعرفه بأنه معرفة النفس ما لها وما عليها لكنه يتناول الاعتقاديات كوجوب الإيمان والوجدانيات أي الأخلاق الباطنة والملكات النفسانية والعمليات كالصلاة والصوم والبيع فمعرفة ما لها وما عليها من الاعتقاديات علم الكلام ومعرفة ما لها وما عليها من الوجدانيات هي علم الأخلاق والتصوف كالزهد والصبر والرضا وحضور القلب في الصلاة ونحو ذلك ، ومعرفة ما لها وما عليها من العمليات هي الفقه المصطلح ، فإن أردت بالفقه هذا المصطلح زدت عملا على قوله ما لها وما عليها ، وإن أردت علم ما يشتمل على الأقسام الثلاثة لم تزد الإمام الأعظم رضي الله عنه إنما لم يزد ; لأنه أراد الشمول أي أطلق العلم على العلم بما لها وما عليها سواء كان من الاعتقاديات أو الوجدانيات أو العمليات ومن ثم سمى الكلام فقها أكبر كذا في التوضيح وذكر وأبو حنيفة العلامة خسرو أن الملكات النفسانية ليست من الفقه باعتبار ذاتها ، وأما باعتبار آثارها التابعة لها من أفعال الجوارح فهي من الفقه ا هـ .
هذا كله معنى الفقه عند الأصوليين وأما معناه الحقيقي له عند أهل الحقيقة فما ذكره كما نقله أصحاب الفتاوى في باب الطلاق ومنهم الحسن البصري الولوالجي بقوله هل رأيت فقيها قط إنما الفقيه المعرض عن الدنيا الزاهد في الآخرة البصير بعيوب نفسه وأما [ ص: 7 ] معناه عند الفقهاء فذكر صاحب الروض أنه لو وقف على الفقهاء فهو من حصل في علم الفقه شيئا وإن قل ; أو المتفقهة المشتغل به ا هـ .
وفي الحاوي القدسي اعلم أن معنى الفقه في اللغة الوقوف والاطلاع وفي الشريعة الوقوف الخاص ، وهو الوقوف على معاني النصوص وإشاراتها ودلالاتها ومضمراتها ومقتضياتها والفقيه اسم للواقف عليها ويسمى حافظ مسائل الفقه الثابتة بها فقيها مجازا لحفظ ما ثبت بالفقه ا هـ .
ثم قال ثم العلم أول ما يحصل للقلب لا يخلو عن نوع اضطراب لحكم الابتداء فإذا دامت الرؤية زال الاضطراب فصار معرفة لزيادة الصحبة ثم تتنوع هذه المعرفة نوعين الظاهر دون المعنى الباطن والباطن الذي هو الحكمة وبها يلتذ القلب إذا صار معقولا له فجرى منه مجرى الطبيعة فهذا هو الفقه ; ولهذا قال مرضت مرضا شديدا حتى نسيت كل شيء سوى الفقه ، فإنه صار لي كالطبع ا هـ . أبو يوسف
وقال في موضع آخر الفقه قوة تصحيح المنقول وترجيح المعقول فالحاصل أن الفقه في الأصول علم الأحكام من دلائلها كما تقدم فليس الفقيه إلا المجتهد عندهم وإطلاقه على المقلد الحافظ للمسائل مجاز ، وهو حقيقة في عرف الفقهاء بدليل انصراف الوقف والوصية للفقهاء إليهم وأقله ثلاثة أحكام كما في المنتقى وذكر في التحرير أن الشائع إطلاقه على من يحفظ الفروع مطلقا يعني سواء كانت بدلائلها أو لا وأما موضوعه ففعل المكلف من حيث إنه مكلف لأنه يبحث فيه عما يعرض لفعله من حل وحرمة ووجوب وندب والمراد بالمكلف البالغ العاقل ففعل غير المكلف ليس من موضوعه وضمان المتلفات ونفقة الزوجات إنما المخاطب بها الولي لا الصبي والمجنون كما يخاطب صاحب البهيمة بضمان ما أتلفته حيث فرط في حفظها لتنزيل فعلها في هذه الحالة بمنزلة فعله ، وأما صحة عبادة الصبي كصلاته وصومه المثاب عليها فهي عقلية من باب ربط الأحكام بالأسباب ; ولذا لم يكن مخاطبا بها بل ليعتادها فلا يتركها بعد بلوغه إن شاء الله تعالى وقيدنا بحيثية التكليف ; لأن فعل المكلف لا من حيث التكليف ليس موضوعه كفعله من حيث إنه مخلوق الله تعالى ولا يرد عليه الفعل المباح أو المندوب لعدم التكليف فيهما لأن اعتبار حيثية التكليف أعم من أن تكون بحسب الثبوت كما في الوجوب والتحريم أو بحسب السلب كما في بقية الأحكام ، فإن تجويز الفعل والترك يرفع الكلفة عن العبد وفي الحاوي القدسي وأفعال العباد توصف بالحل والحرمة والحسن والقبح فيقال فعل حلال أو حرام أو حسن أو قبيح ، وأما وصف حكم الله بها كقول القائل الحلال والحرام والحسن والقبيح حكم الله تعالى فهو بطريق المجاز توسعا في العبارة وإطلاقا لاسم المفعول على الفعل وهذا ; لأن الله تعالى له فعل واحد لكنه اختلف تسمياته باعتبار الإضافة إلى وصف المفعول ، فإن كان وصف المفعول كونه حادثا سمي إحداثا ، وإن كان حيا سمي إحياء ، وإن كان ميتا سمي إماتة ، وإن كان واجبا سمي إيجابا ، وإن كان حلالا سمي تحليلا وإن كان حراما سمي تحريما ونحوها وهذا بناء على مسألة التكوين والمكون إنهما غيران عندنا ا هـ .
و أما استمداده فمن الأصول الأربعة الكتاب والسنة والإجماع والقياس والمستنبط من هذه الثلاثة وأما شريعة من قبلنا فتابعة للكتاب ، وأما أقوال الصحابة فتابعة للسنة ، وأما تعامل الناس فتابع للإجماع وأما التحري واستصحاب الحال فتابعان للقياس ، وأما غايته فالفوز بسعادة الدارين
والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب