( قوله : ومن ) أي إذا عجز عن تعرف القبلة بغير التحري لزمه التحري وهو بذل المجهود لنيل المقصود ; لأن الصحابة تحروا وصلوا وقيل في قوله تعالى { اشتبهت عليه القبلة تحرى فأينما تولوا فثم وجه الله } أي قبلته أنها نزلت في الصلاة حالة الاشتباه قيدنا بالعجز عن التعرف إلا به ; لأنه لو قدر على تعرف القبلة بالسؤال من أهل ذلك الموضع ممن هو عالم بالقبلة فلا يجوز له التحري ; لأن الاستخبار فوقه لكون الخبر ملزما له ولغيره والتحري ملزم له دون غيره فلا يصار إلى الأدنى مع إمكان الأعلى بخلاف ما إذا لم يكن من أهله فإنه لا يقلده ; لأن كحاله ، فإن لم يخبره المستخبرين سأله فصلى بالتحري ، ثم أخبره لا يعيد [ ص: 303 ] ولو كان مخطئا وبناء على هذا ما ذكر في التجنيس تحرى فأخطأ فدخل في الصلاة وهو لا يعلم ، ثم علم وحول وجهه إلى القبلة فدخل رجل في صلاته ، وقد علم حالته الأولى لا تجوز صلاة الداخل لعلمه أن الإمام كان على الخطأ في أول الصلاة . ا هـ .
وكذا إذا كان في المفازة والسماء مصحية وله علم بالاستدلال بالنجوم على القبلة لا يجوز له التحري ; لأن ذلك فوقه وفي الظهيرية هل يجوز قال رضي الله عنه قال أستاذنا رجل صلى بالتحري إلى الجهة في المفازة والسماء مصحية لكنه لا يعرف النجوم فتبين أنه أخطأ القبلةظهير الدين المرغيناني يجوز وقال غيره لا يجوز ; لأنه لا عذر لأحد في الجهل بالأدلة الظاهرة المعتادة نحو الشمس والقمر وغير ذلك ، أما دقائق علم الهيئة وصور النجوم الثوابت فهو معذور في الجهل بها . ا هـ .
فالحاصل أن محل التحري أن يعجز عن الاستقبال بانطماس الأعلام وتراكم الظلام وتضام الغمام كما ذكره المصنف في كافيه وهو يرجح ما في الظهيرية من أن السماء إذا كانت مصحية لا يجوز التحري ولا يعذر بالجهل وذكر الشارح أنه لا يجوز التحري مع المحاريب وفي الظهيرية قال في الأصول يجوز له التحري ; لأنه عجز عمن يسأله فصار كالمفازة وقال أئمة رجل اشتبهت عليه القبلة في المسجد ولم يكن أحد يعرفه القبلة بلخ منهم الفقيه أبو جعفر لا تجوز له الصلاة بالتحري وعلل فقال إن هذه نائبة العقبى فتعتبر بنائبة الدنيا ولو حدثت به نائبة الدنيا فإنه يستغيث بجيران المسجد كذلك هاهنا يجب أن يستغيث بهم وإن كان في مسجد نفسه قال بعضهم هو كالبيت لا يجوز له التحري وقال بعضهم مسجده ومسجد غيره سواء وروى أبو جعفر عن سلام بن حكيم أنه قال محاريب خراسان كلها منصوبة إلى الحجر الأسود والحجر الأسود إلى ميسرة الكعبة ومن توجه إلى الكعبة ومال بوجهه إلى ميسرة الكعبة وقع وجهه إلى جبل أبي قبيس ومن مال بوجهه إلى يمينها وقع وجهه إلى الكعبة ولهذا قيل : يجب أن يميل إلى يمينها قال ومحاريب الدنيا كلها نصبت بالتحري حتى منى ولم يزد عليه شيئا وهذا خلاف ما نقل عن في محراب أبي بكر الرازي المدينة أنه مقطوع به فإنه إنما نصبه رسول الله صلى الله عليه وسلم بالوحي بخلاف سائر البقاع حتى قيل : إن محراب منى نصب بالتحري والعلامات وهو أقرب المواضع إلى مكة . ا هـ .
وبهذا تبين أن قولهم لغير المكي إصابة جهتها ليس على إطلاقه بل في غير المدني فإن المدني كالمكي يفترض عليه إصابة عينها كما صرح به في السراج الوهاج أيضا وأطلق في الاشتباه فشمل ما إذا كان بمكة أو بالمدينة بأن كان محبوسا ولم يكن بحضرته من يسأله فصلى بالتحري ، ثم تبين أنه أخطأ روي عن أنه لا إعادة عليه وكان محمد يقول تلزمه الإعادة ; لأنه تيقن بالخطأ إذا كان الرازي بمكة أو بالمدينة والأول أحسن ، كذا في الظهيرية وفي فتاوى قاضي خان جازت صلاته ; لأنه ليس له أن يقرع أبواب الناس للسؤال عن القبلة ولا يعرف القبلة بمس الجدران والحيطان ; لأن الحائط لو كانت منقوشة لا يمكنه تمييز المحراب من غيره وعسى يكون ثم هامة مؤذية فجاز له التحري ا هـ . رجل صلى في المسجد في ليلة مظلمة بالتحري فتبين أنه صلى إلى غير القبلة
وقيد بالاشتباه ; لأنه لو صلى في الصحراء إلى جهة من غير شك ولا تحر إن تبين أنه أصاب أو كان أكبر رأيه أو لم يظهر من حاله شيء حتى ذهب عن الموضع فصلاته جائزة وإن تبين أنه أخطأ أو كان أكبر رأيه فعليه الإعادة وقيد بالتحري ; لأن من صلى ممن اشتبهت عليه بلا تحر فعليه الإعادة إلا إن علم بعد الفراغ أنه أصاب ; لأن ما افترض لغيره يشترط حصوله لا تحصيله وإن علم في الصلاة أنه أصاب يستقبل خلافا لما ذكرنا قلنا حالته قويت بالعلم وبناء القوي على الضعيف لا يجوز ، أما لو تحرى وصلى إلى غير جهة التحري ففي الخلاصة والخانية عن لأبي يوسف أنه يخشى عليه الكفر لإعراضه عن القبلة وفي الذخيرة اختلف [ ص: 304 ] المشايخ في كفره ; لأنه صارت قبلة في حقه وفي الظهيرية وظن بعض أصحابنا أن الجهة التي أدى إليها التحري قبلة على الحقيقة وعندنا وهذا غير مرضي ففيه قول بأن كل مجتهد يصيب الحق لا محالة ولا نقول به لكن المجتهد يخطئ مرة ويصيب أخرى . ا هـ . أبي حنيفة
وأما صلاته فلا تجزئه وإن أصاب مطلقا خلافا وفي فتح القدير هي مشكلة على قولهما ; لأن تعليلهما في هذه وهو أن القبلة في حقه جهة التحري ، وقد تركها يقتضي الفساد مطلقا في صورة ترك التحري ; لأن ترك جهة التحري تصدق مع ترك التحري وتعليلهما في تلك بأن ما فرض لغيره يشترط مجرد حصوله كالسعي يقتضي الصحة في هذه وعلى هذا لو صلى في ثوب وعنده أنه نجس ، ثم ظهر أنه طاهر أو صلى وعنده أنه محدث فظهر أنه متوضئ أو صلى الفرض وعنده أن الوقت لم يدخل فظهر أنه كان قد دخل لا يجزئه ; لأنه لما حكم بفساد صلاته بناء على دليل شرعي وهو تحريه فلا ينقلب جائزا إذا ظهر خلافه وهذا التعليل يجري في مسألة العدول عن جهة التحري إذا ظهر صوابه وبه يندفع الإشكال الذي أوردناه ; لأن دليل الشرع على الفساد هو التحري أو اعتقاد الفساد عن التحري فإذا حكم بالفساد دليل شرعي لزم وذلك منتف في صورة ترك التحري فكان ثبوت الفساد فيها قبل ظهور الصواب إنما هو لمجرد اعتقاده الفساد فيؤاخذ باعتقاده الذي ليس بدليل إذا لم يكن عن تحر وفي فتاوى لأبي يوسف العتابي تحرى فلم يقع تحريه على شيء قيل يؤخر وقيل يصلي إلى أربع جهات وقيل يخير وفي الظهيرية ولو تحرى رجل واستوى الحالان عنده ولم يتيقن بشيء ولكن صلى إلى جهة إن ظهر أنه أصاب القبلة جاز وإن ظهر أنه أخطأ فكذلك وإن لم يظهر له شيء جازت صلاته وفي الخلاصة وعن لو صلى أربع ركعات إلى أربع جهات جاز ، ثم اختلف المتأخرون فيما إذا تحول رأيه إلى الجهة الأولى بالتحري فمنهم من قال يتم الصلاة ومنهم من قال يستقبل . ا هـ . محمد
وفي البغية لو صلى إلى جهة بتحر ، ثم تحول رأيه في الركعة الثانية إلى جهة أخرى فتحول وتذكر أنه ترك سجدة من الركعة الأولى فسدت صلاته وفي الظهيرية ويجوز التحري لسجدة التلاوة كما يجوز للصلاة . ( قوله : وإن أخطأ لم يعد ) ; لأنه أتى بالواجب في حقه وهو الصلاة إلى جهة تحريه بخلاف من توضأ بماء أو صلى في ثوب على ظن أنه طاهر ، ثم تبين أنه نجس حيث يعيد الصلاة لأنه ترك ما أمر به [ ص: 305 ] وهو الصلاة في ثوب طاهر وعلى طهارة وهو قد أتى بما أمر به وهو التحري وفي الكافي ما يدل على جواز التحري في الأواني والثياب وفيه تفصيل مذكور في الظهيرية قال ويجوز التحري في الثوب الواحد حالة الضرورة والثوبين والثياب وإن كان النجس غالبا وفي الإناءين لا يجوز إلا رواية عن لكنه إذا توضأ بهما واحدا بعد واحد وصلى ينظر إن توضأ بالأول وصلى جاز ; لأن وضوءه من الأول تحر منه أنه طاهر كما لو قال لامرأتيه إحداكما طالق ، ثم وطئ إحداهما تعينت الأخرى للطلاق فلو توضأ بالثاني ، ثم صلى ينبغي أن لا تجوز صلاته ; لأنه توضأ بماء نجس وإن لم يحدث ولم يصل بعدما توضأ من الأول حتى توضأ بالثاني قال عامتهم لا يجوز ; لأن أعضاءه صارت نجسة وقال بعضهم يجوز وهو الصحيح ; لأنه لما لم يجز التحري عندنا لغلبة النجاسة أو لاستواء الطاهر بالنجس يهريق المياه كلها ويتيمم ويصلي أو يخلط المياه كلها حتى تصير المياه كلها نجسة ، ثم يتيمم احترازا عن إضاعة الماء ولو لم يهرقها جاز له التيمم قالوا هذا قول أبي يوسف أبي حنيفة وقالا : لا يجوز تيممه إلا بعد الإراقة وقال ابن زيادة يخلطها ، ثم يتيمم وإن كان عند ثلاثة ثلاث أو أن أحدها نجس ووقع تحري كل واحد منهم على إناء جازت صلاتهم فرادى ولو كان أحدهما سؤر حمار والآخر طاهرا يتوضأ بهما ولا يتيمم ا هـ .