الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                صفحة جزء
                                                558 ص: واحتجوا في ذلك بما حدثنا ابن مرزوق، قال: نا وهب بن جرير ، عن شعبة ، عن عمرو بن مرة ، عن عبد الله بن سلمة ، قال: " دخلت على علي - رضي الله عنه - أنا ورجل منا ورجل من بني أسد، فبعثهما في وجه، ثم قال: إنكما علجان فعالجا عن دينكما. قال: ثم دخل المخرج، ثم خرج فأخذ حفنة من ماء فتمسح بها، وجعل يقرأ القرآن، فرآنا كأنا أنكرنا ذلك، فقال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخرج من الخلاء فيقرئنا القرآن، ويأكل معنا اللحم، ولم يكن يحجره عن ذلك شيء، ليس الجنابة". .

                                                التالي السابق


                                                ش: أي احتج الآخرون الذين خالفوا أهل المقالتين في ذلك، أي في قولهم: لا بأس أن يذكر الله في كل الأحوال كلها من الجنابة وغيرها، ويقرأ القرآن في ذلك إلا في الجنابة والحيض.

                                                قوله: "بما حدثنا" يتعلق بقوله احتجوا، وإسناد الحديث صحيح.

                                                وعبد الله بن سلمة -بكسر اللام- المرادي الكوفي، قال العجلي: تابعي ثقة. روى له الأربعة.

                                                وأخرجه أبو داود : نا حفص بن عمر، قال شعبة.. إلى آخره نحوه. والترمذي مختصرا : نا أبو سعيد الأشج، نا حفص بن غياث وعقبة بن خالد

                                                [ ص: 212 ] قالا: نا الأعمش وابن أبي ليلى ، عن عمرو بن مرة ، عن عبد الله بن سلمة ، عن علي - رضي الله عنه - قال: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرئنا القرآن على كل حال، ما لم يكن جنبا".

                                                والنسائي : أنا علي بن حجر، أنا إسماعيل بن إبراهيم ، عن شعبة ، عن عمرو بن مرة ، عن عبد الله بن سلمة قال: "أتيت عليا أنا ورجلان، فقال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخرج من الخلاء فيقرأ القرآن، ويأكل معنا اللحم، ولم يكن يحجبه عن القرآن شيء ليس الجنابة".

                                                وابن ماجه : نا محمد بن بشار، نا محمد بن جعفر، نا شعبة ، عن عمرو بن مرة ، عن عبد الله بن سلمة قال: "دخلت على علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - فقال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأتي الخلاء فيقضي الحاجة، ثم يخرج فيأكل معنا الخبز واللحم، ويقرأ القرآن، ولا يحجبه -وربما قال: ولا يحجره- عن القرآن شيء إلا الجنابة".

                                                وأخرجه ابن حبان أيضا، وصححه ابن خزيمة ، وأبو علي الطوسي ، والحكم ، والبغوي في "شرح السنة"، وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.

                                                وفي سؤالات الميموني: قال شعبة: ليس أحد يحدث بحديث أجود من ذا. وفي كتاب ابن عدي عنه: لم يرو عمرو أحسن من هذا، وكان شعبة يقول: هو ثلث رأس مالي.

                                                وخرجه ابن الجارود في "المنتقى" ، وذكر البزار أنه لا يروى عن علي إلا من حديث عمرو بن مرة ، عن عبد الله بن سلمة، وحكى البخاري ، عن عمرو بن مرة كان عبد الله يعني ابن سلمة يحدثنا فنعرف وننكر، وكان قد كبر، لا يتابع في حدثيه.

                                                [ ص: 213 ] وذكر الشافعي هذا الحديث، وقال: وإن لم يكن أهل الحديث يثبتوه.

                                                وقال البيهقي: وإنما توقف الشافعي في ثبوت الحديث؛ لأن مداره على عبد الله بن سلمة الكوفي، وكان قد كبر وأنكر من حديثه، وإنما روى هذا الحديث بعد ما كبر، قاله شعبة .

                                                وذكر الخطابي أن الإمام أحمد بن حنبل كان يوهن حديث علي - رضي الله عنه - هذا، ويضعف أمر عبد الله بن سلمة .

                                                قلت: وقد ذكره ابن الجوزي في "الضعفاء والمتروكين" ، وقال: قال النسائي تعرف وتنكر.

                                                ولكن قال الحاكم: إنه غير مطعون فيه. وقال العجلي: تابعي ثقة. وقال ابن عدي: أرجو أنه لا بأس به.

                                                قوله: "ورجل منا" عطف على الضمير المرفوع المنفصل الذي أوتي به ليصح العطف على ما قبله حتى لا يكون عطف الاسم على الفعل.

                                                قوله: "في وجه" أي جهة من الجهات، وهو النحو والقصد [1\ق144-أ] الذي تستقبله.

                                                قوله: "علجان" تثنية علج بفتح العين، وكسر اللام، وهو الضخم القوي، وقال الخطابي: يريد الشدة والقوة على العمل، يقال: رجل علج، وعلج -بتشديد اللام- إذا كان قوي الخلقة وثيق البنية.

                                                قوله: "فعالجا" أي جاهدا، وجالدا لأجل دينكما، وكلمة "عن" للتعليل نحو قوله تعالى: وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وتجوز أن تكون حالا، والمعنى عالجا مقيمين دينكما، أي مقيمين أموره، ومحصلين ما ينبغي له.

                                                [ ص: 214 ] قوله: "المخرج" بفتح الجيم، وهو الخلاء، سمي به لأنه موضع خروج البول، والغائط.

                                                قوله: "فتمسح بها" أي توضأ بها أي غسل يديه، وقال ابن الأثير: يقال للرجل إذا توضأ: تمسح.

                                                قوله: "فرآنا كأنا أنكرنا ذلك" أي كونه قرأ القرآن بلا وضوء كامل، فلما أنكروا على علي - رضي الله عنه - قال: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخرج من الخلاء فيقرئنا القرآن" أي يعلمنا القرآن عقيب خروجه، من غير اشتغال بالوضوء.

                                                قوله: "كأنا أنكرنا" جملة وقعت مفعولا ثانيا للرؤية، والتقدير: رآنا كالمنكرين في ذلك.

                                                قوله: "ويأكل معنا اللحم" أشار به إلى أن أكل ما مسته النار لا يوجب الوضوء لقراءة القرآن ولا للصلاة أيضا، لأجل هذا قال: "ولم يكن يحجره" أي يمنعه "من القرآن"، أي عن قراءة القرآن "شيء ليس الجنابة" أي غيرها.

                                                وقوله: "يحجره" من حجره إذا منعه، وحجر عليه أي منعه من التصرف، وفي بعض الرواية "يحجزه" بالزاي المعجمة، من حجزه يحجزه حجزا بمعنى منعه أيضا، وكلاهما من باب نصر ينصر، وفي بعض الرواية "يحجبه" من حجب إذا منع أيضا، ومنه قيل للبواب: حاجبا؛ لأنه يمنع الناس عن الدخول.

                                                قوله: "ليس الجنابة" أي غير الجنابة، "وليس" له ثلاث مواضع:

                                                أحدها: أن تكون بمعنى الفعل، وهو يرفع الاسم، وينصب الخبر كقولك: ليس عبد الله جاهلا.

                                                وتكون بمعنى "لا" كقولك: رأيت عبد الله ليس زيدا، تنصب به زيدا كما تنصب بلا.

                                                وتكون بمعنى "غير" كقولك: ما رأيت أكرم من عمر، وليس زيد. أي غير زيد، وهو يجر ما بعده.

                                                [ ص: 215 ] وتستنبط منه أحكام:

                                                الأول: جواز قراءة القرآن للمحدث.

                                                الثاني: جواز ذكر الله تعالى بأي ذكر كان في أي حال كان؛ لأن قراءة القرآن إذا كانت جائزة للمحدث فالذكر بالطريق الأولى.

                                                الثالث: فيه دليل على حرمة قراءته على الجنب، وكذلك الحائض؛ لأن حدثها أغلظ من حدث الجنابة، وكان أحمد يرخص للجنب أن يقرأ الآية ونحوها، وكذلك قال مالك، وقد حكي عنه أنه قال: تقرأ الحائض ولا يقرأ الجنب لأن الحائض إذا لم تقرأ نسيت القرآن؛ لأن أيام الحيض تتطاول؛ ومدة الجنابة لا تتطاول، وروي عن ابن المسيب وعكرمة أنهما كانا لا يريان بأسا بقراءة القرآن للجنب، والجمهور على تحريمه.

                                                وفي "المغني" : لا يقرأ القرآن جنب، ولا حائض، ولا نفساء، رويت الكراهة لذلك عن عمر ، وعلي ، والحسن ، والنخعي ، والزهري ، وقتادة ، والشافعي، وأصحاب الرأي، وقال الأوزاعي: لا يقرأ إلا آية الركوب، والنزول سبحان الذي سخر لنا هذا وقل رب أنزلني منزلا مباركا وقال ابن عباس: يقرأ ورده، وقال سعيد بن المسيب: يقرأ، أليس هو في جوفه؟

                                                والذي يحرم عليه قراءة آية، فأما ما دون الآية ففيه روايتان:

                                                إحداهما: لا تجوز قراءته، وهو مذهب الشافعي .

                                                والثانية: تجوز، وهو قول أبي حنيفة .

                                                وقال صاحب "البدائع"، ويستوي في الكراهة الآية التامة وما دونها عند عامة مشايخنا، وقال الطحاوي: لا بأس بقراءة ما دون الآية.

                                                [ ص: 216 ] والصحيح قول العامة، هذا إذا قصد التلاوة، فأما إذا لم يقصد بأن قال: بسم الله. لافتتاح الأشياء تبركا، أو قال: الحمد لله فلا بأس؛ لأنه من باب الذكر.

                                                وقال ابن حزم في "المحلى" : وقراءة القرآن، والسجود فيه، ومس المصحف، وذكر الله جائز كل ذلك بوضوء، وبلا وضوء، وللجنب والحائض.

                                                وقالت طائفة لا تقرأ الحائض ولا الجنب شيئا [1\ق144-ب] من القرآن، وهو قول روي عن عمر بن الخطاب ، وعلي بن أبي طالب ، والحسن البصري ، والنخعي ، وقتادة، وغيرهم.

                                                وقالت طائفة: أما الحائض فتقرأ ما شاءت من القرآن، وأما الجنب فيقرأ الآيتين ونحوهما، وهو قول مالك، وقال بعضهم: يتم الآية، وهو قول أبي حنيفة، ثم روي عن ربيعة أنه قال: لا بأس أن يقرأ الجنب القرآن، وعن سعيد بن جبير: يقرأ الجنب؟ فلم ير بأسا، وقال: أليس في جوفه القرآن، ثم قال: وهو قول داود، وجميع أصحابنا.




                                                الخدمات العلمية