1096 ص: قال أبو جعفر : فإن قال قائل: فما معنى ما روي عن عائشة -رضي الله عنها-: " أن النساء كن يصلين الصبح مع رسول الله -عليه السلام- ثم ينصرفن وما يعرفن من الغلس " .
قيل: يحتمل أن يكون هذا قبل أن يؤمر بإطالة القراءة فيها؛ فإنه قد حدثنا ابن أبي داود ، قال: ثنا أبو عمر الحوضي ، قال: ثنا مرجا بن رجاء ، قال: ثنا داود - يعني داود بن أبي هند - عن السبيعي ، عن مسروق ، عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: " أول ما فرضت الصلاة: ركعتين ركعتين ، فلما قدم رسول الله -عليه السلام- المدينة وصل إلى كل صلاة مثلها، غير المغرب فإنها وتر، وصلاة الصبح؛ لطول قراءتها، وكان إذا سافر عاد إلى صلاته الأولى" .
قال أبو جعفر : فأخبرت عائشة -رضي الله عنها- في هذا الحديث أن رسول الله أن -عليه السلام- كان يصلي قبل أن يتم الصلاة على مثال ما يصلي إذا سافر، وحكم المسافر تخفيف الصلاة، ثم أحكم بعد ذلك فزيد في بعض الصلاة، وأمرنا بإطالة بعضها، فيجوز - والله أعلم - أن يكون ما كان يفعل من تغليسه بها، وانصراف النساء المؤمنات منها ولا يعرفن من الغلس، كان في ذلك الوقت الذي كان يصليها فيه على مثال ما [ ص: 421 ] تصلى فيه الآن في السفر، ثم أمر بإطالة القراءة فيها، وأن يكون مفعوله في الحضر بخلاف ما يفعل في السفر من إطالة هذه وتخفيف هذه، وقال: "أسفروا بالفجر" أي: أطيلوا القراءة فيها، ليس ذلك على أن تدخلوا فيها في آخر وقت الإسفار، ولكن تخرجوا منها في وقت الإسفار.
فثبت بذلك نسخ ما روي عن عائشة -رضي الله عنها- مما ذكرنا، مع ما قد دل على ذلك أيضا من فعل أصحاب النبي -عليه السلام- من بعده، في إصابتهم الإسفار في وقت انصرافهم منها واتفاقهم على ذلك حتى لقد قال إبراهيم النخعي ما قد حدثنا محمد بن خزيمة ، قال: ثنا القعنبي ، قال: ثنا عيسى بن يونس ، عن الأعمش ، عن إبراهيم قال: "ما اجتمع أصحاب محمد -عليه السلام- على شيء ما اجتمعوا على التنوير" .
قال أبو جعفر - رحمه الله -: فأخبر أنهم قد كانوا اجتمعوا على ذلك، فلا يجوز عندنا - والله أعلم - اجتماعهم على خلاف ما قد كان النبي -عليه السلام- فعله إلا بعد نسخ ذلك، وثبوت خلافه، فالذي ينبغي: الدخول في الفجر في وقت التغليس، والخروج منها في وقت الإسفار ، على موافقة ما روينا عن رسول الله -عليه السلام- وأصحابه -رضي الله عنهم- هذا قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد - رحمهم الله -.


