3008 3009 3010 ص: فالحجة للآخرين عليهم في ذلك : أن قوله : "إن شئتما فعلت ولا حق فيها لغني " . أي : أن غناكما يخفى علي ، فإن كنتما غنيين فلا حق لكما فيها ، "وإن شئتما فعلت " لأني لم أعلم بغناكما فمباح لي إعطاؤكما ، وحرام عليكما أخذ ما أعطيتكما إن كنتما تعلمان من حقيقة أموركما في الغنى خلاف ما أرى من ظاهركما الذي استدللت به على فقركما ، فهذا معنى قوله : "إن شئتما فعلت ولا حق فيها لغني " .
وأما قوله : "ولا لقوي مكتسب " فذلك على أنه لا حق فيها للقوي المكتسب من جميع الجهات التي بها يجب الحكم فيها ، فعاد معنى ذلك إلى معنى ما ذكرنا من قوله : "ولا لذي مرة قوي " ، وقد يقال : فلان عالم حقا إذا تكاملت فيه الأسباب التي بها يكون الرجل عالما ، ولا يقال : هو عالم حقا إذا كان دون ذلك وإن كان عالما ، فكذلك لا يقال : فقير حقا إلا لمن تكاملت فيه الأسباب التي يكون بها الفقير فقيرا وإن كان فقيرا ; ولهذا قال لهما : "ولا حق فيها لقوي مكتسب " أي : ولا حق له فيها حتى يكون به من أهلها حقا وهو قوي مكتسب ، ولولا أنه يجوز للنبي - عليه السلام - إعطاؤه للقوي المكتسب إذا كان فقيرا لما قال لهما : إن شئتما فعلت " وهذا أولى ما حملت عليه هذه الآثار ; لأنها إن حملت على ما حملها عليه أهل المقالة الأولى ; ضادت سواها مما قد روي عن رسول الله - عليه السلام - ، فمن ذلك :
ما حدثنا ابن مرزوق ، قال : ثنا بشر بن عمر ، قال : ثنا شعبة ، عن أبي حمزة ، عن هلال بن حصن قال : "نزلت دار أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - بالمدينة فضمني وإياه المجلس ، فقال : أصبحوا فات يوم وقد عصب على بطنه حجرا من الجوع ، فقالت له امرأته أو أمه : لو أتيت النبي - عليه السلام - فسألته ، فقد أتاه فلان فسأله فأعطاه ، وأتاه فلان فسأله فأعطاه ، فقلت : لا والله حتى أطلب ، فطلبت فلم أجد شيئا ، فاستبقت
[ ص: 18 ] إليه وهو يخطب وهو يقول : من استغنى أغناه الله ، ومن استعف أعفه الله ، ومن سألنا إما أن نبذل له وإما أن نواسيه ، ومن استعف عنا واستغنى أحب إلينا ممن سألنا . قال : فرجعت فما سألت أحدا بعد ، فما زال الله يرزقنا حتى ما أعلم أهل بيت في المدينة أكثر أموالا منا " .
حدثنا ابن أبي داود ، قال : ثنا محمد بن المنهال ، قال : ثنا يزيد بن زريع ، قال : ثنا سعيد بن أبي عروبة ، عن قتادة ، عن هلال بن مرة ، عن أبي سعيد ، قال : "أعوزنا مرة فأتيت النبي - عليه السلام - فذكرت ذلك له ، فقال النبي - عليه السلام - : من استعف أعفه الله ، ومن استغنى أغناه الله ، ومن سألنا أعطيناه . قال : قلت فلأستعففن فيعفني الله ، ولأستغنين فيغنيني الله ، قال : فوالله ما كان إلا أيام حتى إن رسول الله - عليه السلام - قسم زبيبا فأرسل إلينا منه ، ثم قسم شعيرا فأرسل منه ، ثم سالت علينا الدنيا فغرقتنا إلا من عصم الله " .
حدثنا ابن أبي داود ، قال : ثنا محمد ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا هشام ، عن قتادة ، عن هلال بن حصن -أخي بني مرة بن عباد - عن أبي سعيد ، عن النبي - عليه السلام - مثله .
قال ابن أبي داود : هذا هو الصحيح .
قال أبو جعفر -رحمه الله- : فهذا رسول الله - عليه السلام - يقول : "من سألنا أعطيناه " ويخاطب بذلك أصحابه ، وأكثرهم صحيح لا زمانة به إلا أنه فقير ، فلم يمنعهم منها ، فقد دل ذلك على ما ذكرنا ، وفضل من استعف ولم يسأل على من سأل ، فلم يسأله أبو سعيد لذلك ، ولو سأله لأعطاه ، إذ قد كان بذل ذلك له ولأمثاله من الصحابة - رضي الله عنهم - .


