[ ص: 225 ]   ( باب ، الإجماع لغة العزم والاتفاق ) قال تعالى { فأجمعوا أمركم    } أي اعزموه . ويصح إطلاقه على الواحد ، يقال : أجمع فلان على كذا ، أي عزم عليه ، ويقال : أجمع القوم على كذا ، أي اتفقوا عليه . فكل أمر من الأمور اتفقت عليه طائفة فهو إجماع في إطلاق أهل اللغة . وأجمعت السير والأمر وأجمعت عليه ، يتعدى بنفسه وبالحرف [ عزمت عليه ] . وفي حديث { من لم يجمع الصيام قبل الفجر فلا صيام له   } أي من لم يعزم عليه فينويه ( و ) الإجماع ( اصطلاحا ) أي في اصطلاح علماء الشريعة ( اتفاق مجتهدي الأمة في عصر على أمر ، ولو ) كان الأمر ( فعلا ) اتفاقا كائنا ( بعد النبي صلى الله عليه وسلم ) والمراد باتفاقهم : اتحاد اعتقادهم . واحترز بالاتفاق عن الاختلاف ، وبقيد " الاجتهاد " عن غير المجتهد . فلا يكون اتفاق غير المجتهد من أصولي وفروعي ونحوي ولا من لم يكمل فيه شروط الاجتهاد إجماعا ، ولا تقدح مخالفته في انعقاد الإجماع ، وبقيد " الأمة " المنصرف إطلاق لفظها إلى أمة محمد  صلى الله عليه وسلم عن اتفاق مجتهدي بقية الأمم . ودخل في قوله " على أمر " جميع الأمور من الأقوال والأفعال الدينية والدنيوية والاعتقادات والسكوت والتقرير وغير ذلك . وإنما أبرز قوله " ولو فعلا " مع دخوله في مسمى الأمر للبيان والتأكيد . وقد اختلف العلماء فيما إذا اتفق مجتهدو العصر على فعل فعلوه ، أو فعله بعضهم . وسكت الباقون مع علمهم . هل يكون إجماعا أم لا  ؟ والأرجح : أنه ينعقد به الإجماع لعصمة الأمة . فيكون كالقول المجمع عليه . وكفعل الرسول صلى الله عليه وسلم . اختاره  أبو الخطاب  من أصحابنا . وقطع به  أبو إسحاق الشيرازي    . واختاره الغزالي  في المنخول . وصرح به أبو الحسين البصري  في المعتمد ، وتبعه في المحصول . قال بعض أصحابنا : هو قول الجمهور . حتى أحالوا الخطأ منهم إذا لم يشترط انقراض العصر ، وقيل : لا ينعقد الإجماع بذلك . ويتفرع على المسألة : إذا فعلوا فعلا قربة ، ولكن لا يعلم هل فعلوه واجبا أو مستحبا ؟ فمقتضى القياس : أنه كفعل الرسول صلى الله عليه وسلم ;  [ ص: 226 ] لأنا أمرنا باتباعهم ، كما أمرنا باتباع الرسول صلى الله عليه وسلم . وللعلماء في تعريف الإجماع حدود غير ذلك يطول الكلام بذكرها ، وأنكر  النظام  وبعض الرافضة  ثبوت الإجماع . وروي عن الإمام  أحمد  رضي الله عنه . وحمل على الورع ، أو على غير عالم بالخلاف ، أو على تعذر معرفة الكل ، أو على العام النطقي ، أو على بعده ، أو على غير الصحابة لحصرهم . وانتشار غيرهم ( وهو ) أي الإجماع ( حجة قاطعة بالشرع ) أي بدليل الشرع كونه حجة قاطعة . وهذا مذهب الأئمة الأعلام ، منهم الأربعة وأتباعهم وغيرهم من المتكلمين    . وقال الآمدي  والرازي    : هو حجة ظنية لا قطعية . 
وقيل : ظنية في السكوتي ونحوه ، دون النطقي . واستدل للقول الأول بقوله تعالى { ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا    } احتج بها الإمام  الشافعي  وغيره . لأنه توعد على متابعة غير سبيل المؤمنين . وإنما يجوز لمفسدة متعلقة به ، وليست من جهة المشاقة . وإلا كانت كافية . والسبيل : الطريق . فلو خص بكفر أو غيره . 
كان اللفظ مبهما ، وهو خلاف الأصل . و " المؤمن " حقيقة في الحي المتصف بالإيمان ، ثم عمومه إلى يوم القيامة يبطل المراد . وهو الحث على متابعة سبيلهم . 
والجاهل غير مراد ، ثم المخصوص حجة ، والسبيل عام . والتأويل بمتابعة الرسول صلى الله عليه وسلم ، أو بمتابعتهم في الإيمان ، أو الاجتهاد : لا ضرورة إليه فلا يقبل ، وليس تبيين الهدى شرطا للوعيد بالاتباع ، بل للمشاقة ; لأن إطلاقها لمن عرف الهدى أولا ، ولأن تبيين الأحكام الفروعية ليس شرطا في المشاقة . فإن من تبين له صدق الرسول وتركه . فقد شاقه ، ولو جهلها . وما قيل : من أن الآية ظاهرة ، ولا دليل على أن الظاهر حجة إلا الإجماع . فيلزم الدور : ممنوع لجواز نص قاطع على أنه حجة ، أو استدلال قطعي ; لأن الظاهر مظنون ، وهو حجة لئلا يلزم رفع النقيضين أو اجتماعهما ، أو العمل بالمرجوح ، وهو خلاف العقل ، وبقوله تعالى { فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول    } والمشروط عدم عند عدم  [ ص: 227 ] شرطه . فاتفاقهم كاف ، واعترض عدم الرد إلى الكتاب والسنة عند الإجماع : أنه إن بني الإجماع على أحدهما فهو كاف . وإلا ففيه تجويز الإجماع بلا دليل ، ثم لا نسلم عدم الشرط . فإن الكلام مفروض في نزاع مجتهدين متأخرين ، لإجماع سابق . رد الأول بأن الإجماع إن احتاج إلى مستند فقد يكون قياسا . والثاني مشكل جدا . قاله الآمدي    . واختار  أبو الخطاب  أن مراد الآية فيما لا نعلم أنه خطأ ، وإن ظنناه رددناه إلى الله والرسول . وبقوله تعالى { ولا تفرقوا    } وخلاف الإجماع تفرق . والنهي عن التفرق ليس في الاعتصام للتأكيد . ومخالفة الظاهر وتخصيصه بها قبل الإجماع لا يمنع الاحتجاج به ، ولا يختص الخطاب بالموجودين زمنه صلى الله عليه وسلم ; لأن التكليف لكل من وجد مكلفا ، كما سبق . وبقوله تعالى { كنتم خير أمة أخرجت للناس    } فلو اجتمعوا على باطل كانوا قد اجتمعوا على منكر لم ينهوا عنه ، ومعروف لم يؤمروا به ، وهو خلاف ما وصفهم الله تعالى به ، ولأنه جعلهم أمة وسطا أي عدولا ، ورضي بشهادتهم مطلقا . 
وعلى ذلك اعتراضات وأجوبة يطول الكتاب بذكرها . وعن أبي مالك الأشعري  رضي الله عنه مرفوعا { إن الله تعالى أجاركم من ثلاث خلال : أن لا يدعو عليكم نبيكم فتهلكوا جميعا ، وأن لا يظهر أهل الباطل على أهل الحق ، وأن لا تجتمعوا على ضلالة   } رواه  أبو داود    . وعن  ابن عمر  مرفوعا { لا تجتمع هذه الأمة على ضلالة أبدا   } رواه الترمذي    . 
وعن  أنس  مرفوعا { لا تجتمع هذه الأمة على ضلالة . فإن رأيتم الاختلاف فعليكم بالسواد الأعظم ، الحق وأهله   } رواه  ابن ماجه  ،  وابن أبي عاصم  ، وعن  أبي ذر  مرفوعا { عليكم بالجماعة . إن الله تعالى لا يجمع أمتي إلا على هدى   } رواه  أحمد    . وعن  أبي ذر  مرفوعا { من فارق الجماعة شبرا فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه   } رواه  أحمد   وأبو داود  ، ولهما عن  معاوية  مرفوعا { ألا إن هذه الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين يعني : فرقة ثنتان وسبعون في النار . وواحدة في الجنة ، وهي الجماعة   } وعن  ابن عمر  مرفوعا { إن الله لا يجمع أمتي - أو قال أمة محمد    - على ضلالة ، ويد الله على الجماعة . ومن شذ  [ ص: 228 ] شذ في النار   } رواه الترمذي    . وعن  ثوبان  مرفوعا { لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم ، حتى يأتي أمر الله وهم كذلك   } وفي حديث  جابر    { إلى يوم القيامة   } وفي حديث  جابر بن سمرة    { حتى تقوم الساعة   } رواه  مسلم    . 
وعن  ابن عمر  مرفوعا { عليكم بالجماعة ، وإياكم والفرقة . فإن الشيطان مع الواحد ، وهو من الاثنين أبعد . من أراد بحبوحة الجنة فليلزم الجماعة   } رواه  الشافعي   وأحمد   وعبد بن حميد  والترمذي  وغيرهم . وعن  ابن مسعود    { ما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن ، وما رآه المسلمون سيئا فهو عند الله سيئ   } رواه  أبو داود الطيالسي    . 
قال الآمدي  وغيره : السنة أقرب الطرق إلى كون الإجماع حجة قاطعة . واستدل أيضا لكونه حجة قاطعة بأن العادة تحيل إجماع مجتهدي العصر على قطع بحكم شرعي من غير اطلاع على دليل قاطع في ذلك الحكم . فوجب في ذلك الحكم تقرير نص قاطع فيه ، ولأن الإجماع مقدم على الدليل القاطع . فكان قاطعا ، وإلا تعارض الإجماعان لتقديم القاطع على غيره إجماعا 
				
						
						
