الباب الرابع في أركان القياس وشروط كل ركن
وأركانه أربعة : الأصل ، والفرع ، والعلة والحكم فلنميز القول في شرط كل ركن ليكون أقرب إلى الضبط
الشرط الأول : أن يكون حكم الأصل ثابتا فإنه إن أمكن توجيه المنع عليه لم ينتفع به الناظر ولا المناظر قبل إقامة الدليل على ثبوته . الركن الأول : وهو الأصل وله شروط ثمانية
الثاني : ، إذ ما ثبت بطريق عقلي أو لغوي لم يكن حكما شرعيا ، والحكم اللغوي والعقلي لا يثبت قياسا عندنا كما ذكرناه في كتاب أساس القياس أن يكون الحكم ثابتا بطريق سمعي شرعي
الثالث : ; لأن كون الوصف علة حكم شرعي ووضع شرعي . أن يكون الطريق الذي به عرف كون المستنبط من الأصل علة سمعا
الرابع : فلا معنى لقياس الذرة على الأرز ثم قياس الأرز على البر ; لأن الوصف الجامع إن كان موجودا في الأصل الأول كالطعم مثلا فتطويل الطريق عبث ، إذ ليست الذرة بأن تجعل فرعا للأرز أولى من عكسه ; وإن لم يكن موجودا في الأصل فبم يعرف كون الجامع علة ؟ وإنما يعرف كون الشبه والمناسب علة بشهادة الحكم وإثباته على وفق المعنى ، فإذا لم يكن الحكم منصوصا عليه أو مجمعا عليه لم يصلح لأن يستدل به على ملاحظة المعنى المقرون به ; لأن ذلك يؤدي في أن لا يكون الأصل فرعا لأصل آخر بل يكون ثبوت الحكم فيه بنص أو إجماع إلى أن يشبه بالفرع الثالث رابع وبالرابع خامس فينتهي الأخير إلى حد لا يشبه الأول ، كما لو التقط حصاة وطلب ما يشبهها ثم طلب ما يشبه الثانية ثم طلب ما يشبه الثالثة ثم ينتهي بالآخرة إلى أن لا يشبه العاشر الأول ; لأن الفروق الدقيقة تجتمع فتظهر المفارقة . قياس الشبه
فإن قيل : فأي فائدة لفرض المناظر الكلام في بعض الصور ؟ قلنا : للفرض محلان
أحدهما : أن يعم السائل بسؤاله جملة من الصور فيخصص المناظر بعض الصور إذ يساعده فيه خبر أو دليل خاص أو يندفع فيه بعض شبه الخصم
الثاني : أن تبني فرعا على فرع آخر وهو ممتنع على الناظر المجتهد لما ذكرناه .
أما قبوله من المناظر فإنه ينبني على اصطلاح الجدليين ، فالجدل شريعة وضعها المتناظرون ونظرنا في المجتهد وهو لا ينتفع بذلك ، وموافقة الخصم على الفرع لا تنفع ولا تجعله أصلا إذ الخطأ ممكن على الخصمين إلا أن يكون ذلك إجماعا مطلقا فيصير أصلا مستقلا .
الخامس : ، مثاله أنه لو قال : السفرجل مطعوم فيجري فيه الربا قياسا على البر ، ثم استدل على إثبات كون الطعم علة بقوله عليه السلام : { أن يكون دليل إثبات العلة في الأصل ، مخصوصا بالأصل لا يعم الفرع } أو قال فضل القاتل القتيل بفضيلة الإسلام فلا يقتل به كما لو لا تبيعوا الطعام بالطعام ، ثم استند في إثبات علته إلى قوله : { قتل المسلم المعاهد } [ ص: 325 ] فهذا قياس منصوص على منصوص وهو كقياس البر على الشعير والدراهم على الدنانير . لا يقتل مؤمن بكافر
السادس : قال : قوم : شرط الأصل أن يقوم دليل بجواز القياس عليه ، وقال قوم : بل أن يقوم دليل على وجوب تعليله
وهذا كلام مختل لا أصل له ، فإن الصحابة حيث قاسوا لفظ الحرام على الظهار أو الطلاق أو اليمين لم يقم دليل عندهم على وجوب تعليل أو جوازه ، لكن الحق أنه إن انقدح فيه معنى مخيل غلب على الظن اتباعه ، وترك الالتفات إلى المحل الخاص ، وإن كان الوصف من قبيل الشبه كالطعم الذي يناسب فيحتمل أن يقال : لولا ضرورة جريان الربا في الدقيق والعجين وامتناع ضبط الحكم باسم البر لما وجب استنباط الطعم .
فهذا له وجه وقد ذكرناه ، وإن لم يرد به هذا فلا وجه له .
السابع : ومعناه ما ذكرناه من أن العلة إذا عكرت على الأصل بالتخصيص فلا تقبل كما ذكرناه في كتاب التأويل في مسألة الأبدال ، وقد بينا أن أن لا يتغير حكم الأصل بالتعليل ، جاز أن يكون قرينة مخصصة للعموم ; أما المعنى إن كان سابقا إلى الفهم ففيه نظر . المستنبط بالتأمل
الثامن : ، فإن أن لا يكون الأصل معدولا به عن سنن القياس لا يقاس عليه غيره . الخارج عن القياس
وهذا مما أطلق ويحتاج إلى تفصيل ، فنقول : قد اشتهر في ألسنة الفقهاء أن الخارج عن القياس لا يقاس عليه غيره ، ويطلق اسم الخارج عن القياس على أربعة أقسام مختلفة ; فإن ذلك يطلق على ما استثني من قاعدة عامة ، وتارة على ما استفتح ابتداء من قاعدة مقررة بنفسها لم تقطع من أصل سابق وكل واحد من المستثنى والمستفتح ينقسم إلى ما يعقل معناه وإلى ما لا يعقل معناه ، فهي أربعة أقسام .
الأول : فلا يقاس عليه غيره ; لأنه فهم ثبوت الحكم في محله على الخصوص ، وفي القياس إبطال الخصوص المعلوم بالنص ، ولا سبيل إلى ما استثني عن قاعدة عامة وخصص بالحكم ، ولا يعقل معنى التخصيص . إبطال النص بالقياس
بيانه ما فهم من تخصيص النبي عليه السلام واستثنائه في تسع نسوة ، وفي نكاح امرأة على سبيل الهبة من غير مهر ، وفي تخصيصه بصفي المغنم وما ثبت من تخصيصه خزيمة بقبول شهادته وحده ، وتخصيصه في العناق أنها تجزي عنه في الضحية ، فهذا لا يقاس عليه ; لأنه لم يرد ورود النسخ للقاعدة السابقة بل ورود الاستثناء مع إبقاء القاعدة فكيف يقاس عليه ؟ وكونه خاصية لمن ورد في حقه تارة يعلم وتارة يظن فالمظنون كاختصاص قوله : { أبا بردة } وقوله في شهداء لا تخمروا رأسه ولا تقربوه طيبا فإنه يحشر يوم القيامة ملبيا أحد : { } فقال زملوهم بكلومهم ودمائهم : لا ترفع به قاعدة الغسل في حق المحرمين والشهداء ; لأن اللفظ خاص ، ويحتمل أن يكون الحكم خاصا لاطلاعه على إخلاصهم في العبادة ، ونحن لا نطلع على موت غيرهم على الإسلام فضلا عن موتهم على الإحرام والشهادة . أبو حنيفة
ولما قال للأعرابي الذي واقع أهله في نهار رمضان : { } ولم يقر الكفارة في ذمته عند عجزه وجعل [ ص: 326 ] الشبق عجزا عن الصوم قال أكثر العلماء : هو خاصية وقال صاحب التقريب : يلتحق به من يساويه في الشبق والعجز . تصدق به على أهل بيتك
ومن جعله خاصة استند فيه إلى أنه لو فتح هذا الباب فيلزم مثله في ، ونص القرآن دليل على أنهم لا ينفكون عن واجب ، وإن اختلفت أحوالهم في العجز ، فحمله على الخاصية أهون من هدم القواعد المعلومة . كفارة الظهار وسائر الكفارات
القسم الثاني : ، فهذا يقاس عليه كل مسألة دارت بين المستثنى والمستبقى وشارك المستثنى في علة الاستثناء ، مثاله ما استثني عن قاعدة سابقة ويتطرق إلى استثنائه معنى ، فإنه لم يرد ناسخا لقاعدة الربا ولا هادما لها لكن استثني للحاجة ، فنقيس العنب على الرطب ; لأنا نراه في معناه . استثناء العرايا
وكذلك لم يرد هادما لضمان المثليات بالمثل ، لكن لما اختلط اللبن الحادث بالكائن في الضرع عند البيع ولا سبيل إلى التمييز ولا إلى معرفة القدر وكان متعلقا بمطعوم يقرب الأمر فيه خلص الشارع المتبايعين من ورطة الجهل بالتقدير بصاع من تمر ، فلا جرم ، نقول لو إيجاب صاع من تمر في لبن المصراة فيضمن اللبن أيضا بصاع وهو نوع إلحاق وإن كان في معنى الأصل ، ولولا أنا نشم منه رائحة المعنى لم نتجاسر على الإلحاق ; فإنه لما فرق في بول الصبيان بين الذكور والإناث وقال : { رد المصراة بعيب آخر لا بعيب التصرية } ولم ينقدح فيه معنى لم يقس عليه الفرق في حق البهائم بين ذكورها وإناثها ; وكذلك حكم الشرع ببقاء صوم الناسي على خلاف قياس المأمورات قال يغسل من بول الصبية ويرش على بول الغلام : لا نقيس عليه كلام الناسي في الصلاة ولا أكل المكره والمخطئ في المضمضة ، ولكن قال : جماع الناسي في معناه ; لأن الإفطار باب واحد أبو حنيفة قال : الصوم من جملة المأمورات بمعناه إذ افتقر إلى النية والتحق بأركان العبادات وهو من جملة المنهيات في نفسه وحقيقته ، إذ ليس فيه إلا ترك يتصور من النائم جميع النهار ، فإسقاط الشرع عهدة الناسي ترجيح لنزوعه إلى المنهيات فنقيس عليه كلام الناسي ونقيس عليه المكره والمخطئ على قول . والشافعي
القسم الثالث : ، فلا يقاس عليها غيرها لعدم العلة فيسمى خارجا عن القياس تجوزا ، إذ معناه أنه ليس منقاسا ; لأنه لم يسبق عموم قياس ولا استثناء حتى يسمى المستثنى خارجا عن القياس بعد دخول فيه ; ومثاله : المقدرات في أعداد الركعات ، ونصب الزكوات ومقادير الحدود والكفارات وجميع التحكمات المبتدأة التي لا ينقدح فيها معنى ، فلا يقاس عليها غيرها ; لأنها لا تعقل علتها . القاعدة المستقلة المستفتحة التي لا يعقل معناها
القسم الرابع : في ، لا يقاس ، عليها مع أنه يعقل معناها ; لأنه لا يوجد لها نظير خارج مما تناوله النص والإجماع والمانع من القياس فقد العلة في غير المنصوص ، فكأنه معلل بعلة قاصرة ; ومثاله : القواعد المبتدأة العديمة النظير : في القصر ، والمسح على الخفين ، رخص السفر في أكل الميتة وضرب الدية على العاقلة وتعلق الأرش برقبة العبد وإيجاب غرة الجنين والشفعة في العقار وخاصية الإجارة والنكاح وحكم اللعان والقسامة وغير ذلك من نظائرها ، فإن هذه القواعد متباينة المأخذ فلا يجوز أن يقال بعضها خارج عن قياس البعض ، بل لكل واحدة من هذه القواعد معنى منفرد به لا يوجد له نظير فيه ، فليس البعض بأن يوضع أصلا ويجعل الآخر [ ص: 327 ] خارجا عن قياسه بأولى من عكسه ولا ينظر فيه إلى كثرة العدد وقلته . ورخصة المضطر
وتحقيقه أنا نعلم أنه إنما جوز المسح على الخف لعسر النزع ومسيس الحاجة إلى استصحابه فلا نقيس عليه العمامة والقفازين وما لا يستر جميع القدم لا ; لأنه خارج عن القياس لكن ; لأنه لا يوجد ما يساويه في الحاجة وعسر النزع وعموم الوقوع ، وكذلك رخصة السفر لا شك في ثبوتها بالمشقة ولا يقاس عليها مشقة أخرى ; لأنها لا يشاركها غيرها في جملة معانيها ومصالحها ; لأن المرض يحوج إلى الجمع لا إلى القصر ، وقد يقضي في حقه بالرد من القيام إلى القعود ولما ساواه في حاجة الفطر سوى الشرع بينهما . وكذلك قولهم تناول الميتة رخصة خارجة عن القياس غلط ; لأنه إن أريد به أنه لا يقاس عليه غير المضطر ; فلأنه ليس في معناه ، وإلا فلنقس الخمر على الميتة ، والمكره على المضطر فهو منقاس .
وكذلك لشرف أمر الدم ولخاصية لا يوجد مثلها في غيره ; لأنه عديم النظير فلا يقاس عليه ، وأقرب شيء إليه البضع وقد ورد تصديق المدعي باللعان على ما يليق به وكذلك ضرب الدية على العاقلة فإن ذلك حكم الجاهلية قرره الشرع لكثرة وقوع الخطأ وشدة الحاجة إلى ممارسة السلاح ، ولا نظير له في غير الدية وهذا مما يكثر فبهذا يعرف أن قول الفقهاء " بداءة الشرع بأيمان المدعي في القسامة " خارج عن قياس البيع والنكاح خطأ كقولهم : " تأقت الإجارة خارج عن قياس الإجارة " تأبد البيع والنكاح " خارج عن وتأقت المساقاة ، بل تأبد القراض خارج عن قياس تأقت المساقاة . تأبد القراض
فإذا هذه الأقسام الأربعة لا بد من فهمها وبفهم بيانها يحصل الوقوف على سر هذا الأصل