مسألة : إذا عرفت أن الحرام ضد الواجب
; لأنه المقتضى تركه والواجب هو المقتضى فعله ، فلا يخفى عليك أن
nindex.php?page=treesubj&link=20557الشيء الواحد يستحيل أن يكون واجبا حراما طاعة معصية ; لكن ربما تخفى عليك حقيقة الواحد ،
nindex.php?page=treesubj&link=20559فالواحد ينقسم إلى واحد بالنوع وإلى واحد بالعدد . أما الواحد بالنوع كالسجود مثلا ، فإنه نوع واحد من الأفعال ; فيجوز أن ينقسم إلى الواجب والحرام ويكون انقسامه بالأوصاف والإضافات كالسجود لله تعالى والسجود للصنم ، إذ أحدهما واجب والآخر حرام ولا تناقض .
وذهب بعض
المعتزلة إلى تناقض ، فإن السجود نوع واحد مأمور به فيستحيل أن ينهى عنه ، بل الساجد للصنم عاص بقصد تعظيم الصنم لا بنفس السجود . وهذا خطأ فاحش ، فإنه إذا تغاير متعلق الأمر والنهي لم يتناقض ، والسجود للصنم غير السجود لله تعالى ; لأن اختلاف الإضافات والصفات يوجب المغايرة إذ الشيء لا يغاير نفسه .
والمغايرة تارة تكون باختلاف النوع وتارة باختلاف الوصف وتارة باختلاف الإضافة ، وقد قال الله تعالى : {
nindex.php?page=tafseer&surano=41&ayano=37لا تسجدوا للشمس ولا للقمر واسجدوا لله } ، وليس المأمور به هو المنهي عنه ، والإجماع منعقد على أن
nindex.php?page=treesubj&link=20559_10043الساجد للشمس عاص بنفس السجود والقصد جميعا .
فقولهم : إن السجود نوع واحد لا يغني مع انقسام هذا النوع إلى أقسام مختلفة المقاصد ، إذ المقصود بهذا السجود تعظيم الصنم دون تعظيم الله تعالى ، واختلاف وجوه الفعل كاختلاف نفس الفعل في حصول الغيرية الرافعة للتضاد ، فإن التضاد إنما يكون بالإضافة إلى واحد ولا وحدة مع المغايرة
[ ص: 62 ]
مسألة : ما ذكرناه في الواحد بالنوع ظاهر ،
أما
nindex.php?page=treesubj&link=20559_24348_20557الواحد بالتعيين كصلاة زيد في دار مغصوبة من عمرو فحركته في الصلاة فعل واحد بعينه هو مكتسبه ومتعلق قدرته ; فالذين سلموا في النوع الواحد نازعوا ههنا فقالوا : لا تصح هذه الصلاة ، إذ يؤدي القول بصحتها إلى أن تكون العين الواحدة من الأفعال حراما واجبا ، وهو متناقض فقيل لهم : هذا خلاف إجماع السلف ، فإنهم ما أمروا الظلمة عند التوبة بقضاء الصلوات المؤداة في الدور المغصوبة مع كثرة وقوعها ، ولا نهوا الظالمين عن الصلاة في الأراضي المغصوبة ، فأشكل الجواب على
nindex.php?page=showalam&ids=12604القاضي أبي بكر رحمه الله فقال : يسقط الوجوب عندها لا بها بدليل الإجماع ولا يقع واجبا ; لأن الواجب ما يثاب عليه .
وكيف يثاب على ما يعاقب عليه وفعله واحد هو كون في الدار المغصوبة وسجوده وركوعه أكوان اختيارية هو معاقب عليها ومنهي عنها ؟ وكل من غلب عليه الكلام قطع بهذا نظرا إلى اتحاد أكوانه في حالة من أحواله وأن الحادث منه الأكوان لا غيرها وهو معاقب عليها عاص بها ، فكيف يكون متقربا بما هو معاقب عليه ومطيعا بما هو به عاص ؟ وهذا غير مرضي عندنا ، بل نقول : الفعل وإن كان واحدا في نفسه فإذا كان له وجهان متغايران يجوز أن يكون مطلوبا من أحد الوجهين مكروها من الوجه الآخر ، وإنما المحال أن يطلب من الوجه الذي يكره بعينه ، وفعله من حيث إنه صلاة مطلوب ومن حيث إنه غصب مكروه ، والغصب معقول دون الصلاة والصلاة معقولة دون الغصب ، وقد اجتمع الوجهان في فعل واحد ومتعلق الأمر والنهي الوجهان المتغايران .
وكذلك يعقل من السيد أن يقول لعبده : " صل اليوم ألف ركعة وخط هذا الثوب ولا تدخل هذه الدار ، فإن ارتكبت النهي ضربتك وإن امتثلت الأمر أعتقتك " . فخاط الثوب في الدار وصلى ألف ركعة في تلك الدار ، فيحسن من السيد أن يضربه ويعتقه ويقول أطاع بالخياطة والصلاة وعصى بدخول الدار ، فكذلك فيما نحن فيه من غير فرق . فالفعل وإن كان واحدا فقد تضمن تحصيل أمرين مختلفين يطلب أحدهما ويكره الآخر .
nindex.php?page=treesubj&link=20557_20559ولو رمى سهما واحدا إلى مسلم بحيث يمرق إلى كافر أو إلى كافر بحيث يمرق إلى مسلم ، فإنه يثاب ويعاقب ويملك سلب الكافر ويقتل بالمسلم قصاصا لتضمن فعله الواحد أمرين مختلفين .
فإن قيل : ارتكاب المنهي عنه إذا أخل بشرط العبادة أفسدها بالاتفاق ، ونية التقرب بالصلاة شرط ، والتقرب بالمعصية محال ، فكيف ينوي التقرب ؟ فالجواب من أوجه : الأول : أن الإجماع إذا انعقد على صحة هذه الصلاة فليعلم به بالضرورة أن نية التقرب ليس بشرط أو نية التقرب بهذه الصلاة ممكن ،
nindex.php?page=showalam&ids=12187وأبو هاشم الجبائي ومن خالف في صحة الصلاة مسبوق بإجماع الأمة على ترك تكليف الظلمة قضاء الصلوات مع كثرتهم ، وكيف ينكر سقوط نية التقرب ؟ وقد اختلفوا في اشتراط نية الفرضية ونية الإضافة إلى الله تعالى ، فقال قوم : لا يجب إلا أن ينوي الظهر أو العصر فهو في محل الاجتهاد .
وقد ذهب قوم إلى أن الصلاة تجب في آخر الوقت
nindex.php?page=treesubj&link=20500_1413_20499والصبي إذا صلى في أول الوقت ثم بلغ آخره أجزأه ، ولو بلغ في وسط الوقت مع أنه لا تتحقق الفرضية في حقه .
فإن قيل من نوى الصلاة فقد تضمنت نيته القربة قلنا : إذا صحت الصلاة بالإجماع واستحال نية التقرب فتلغى تلك النية . ويصح أن يقال تعلقت نية التقرب ببعض أجزاء
[ ص: 63 ] الصلاة من الذكر والقراءة وما لا يزاحم حق المغصوب منه ، فإن الأكوان هي التي تتناول منافع الدار .
ثم كيف يستقيم من
المعتزلة هذا وعندهم لا يعلم المأمور كونه مأمورا ولا كون العبادة واجبة قبل الفراغ من الامتثال كما سيأتي ؟
nindex.php?page=treesubj&link=20746_20559فكيف ينوي التقرب بالواجب وهو لا يعرف وجوبه ؟ الجواب الثاني ، وهو الأصح أنه ينوي التقرب بالصلاة ويعصي بالغصب .
وقد بينا انفصال أحدهما عن الآخر ; ولذلك يجد المصلي من نفسه نية التقرب بالصلاة وإن كان في دار مغصوبة ; لأنه لو سكن ولم يفعل لكان غاصبا في حالة النوم وعدم استعمال القدرة ، وإنما يتقرب بأفعاله وليست تلك الأفعال شرطا لكونه غاصبا فإن قيل : هو في حالة القعود والقيام غاصب بفعله ، ولا فعل له إلا قيامه وقعوده ، وهو متقرب بفعله فيكون متقربا بعين ما هو عاص به .
قلنا : هو من حيث إنه مستوف منافع الدار غاصب ومن حيث إنه أتى بصورة الصلاة متقرب كما ذكرناه في صورة الخياطة ، إذ قد يعقل كونه غاصبا ولا يعلم كونه مصليا ، ويعلم كونه مصليا ولا يعلم كونه غاصبا .
فهما وجهان مختلفان وإن كان ذات الفعل واحدا . الجواب الثالث : هو أنا نقول : تنكرون على
nindex.php?page=showalam&ids=12604القاضي رحمه الله حيث حكم بأن الفرض يسقط عندها لا بها بدليل الإجماع ؟ فسلم أنه معصية ; ولكن الأمر لا يدل على الإجزاء إذا أتى بالمأمور ولا النهي يدل على عدم الإجزاء ، بل يؤخذ الإجزاء من دليل آخر كما سيأتي .
فإن قيل : هذه المسألة اجتهادية أم قطعية ؟
قلنا : هي قطعية والمصيب فيها واحد ; لأن من صحح أخذ من الإجماع وهو قاطع ، ومن أبطل أخذ من التضاد الذي بين القربة والمعصية ، ويدعى كون ذلك محالا بدليل العقل فالمسألة قطعية .
فإن قيل : ادعيتم الإجماع في هذه المسألة وقد ذهب
nindex.php?page=showalam&ids=12251أحمد بن حنبل إلى بطلان هذه الصلاة وبطلان كل عقد منهي عنه حتى البيع في وقت النداء يوم الجمعة ، فكيف تحتجون عليه بالإجماع ؟ قلنا : الإجماع حجة عليه ، إذ علمنا أن الظلمة لم يؤمروا بقضاء الصلوات مع كثرة وقوعها مع أنهم لو أمروا به لانتشر ، وإذا أنكر هذا فيلزمه أظهر منه وهو أن لا تحل امرأة لزوجها وفي ذمته دانق ظلم به ، ولا يصح بيعه ولا صلاته ولا تصرفاته ، وإنه لا يحصل التحليل بوطء من هذه حاله ; لأنه عصى بترك رد المظلمة ولم يتركها إلا بتزويجه وبيعه وصلاته وتصرفاته ، فيؤدي إلى تحريم أكثر النساء وفوات أكثر الأملاك ، وهو خرق للإجماع قطعا وذلك لا سبيل إليه
مَسْأَلَةٌ : إذَا عَرَفْت أَنَّ الْحَرَامَ ضِدُّ الْوَاجِبِ
; لِأَنَّهُ الْمُقْتَضَى تَرْكُهُ وَالْوَاجِبُ هُوَ الْمُقْتَضَى فِعْلُهُ ، فَلَا يَخْفَى عَلَيْكَ أَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=20557الشَّيْءَ الْوَاحِدَ يَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ وَاجِبًا حَرَامًا طَاعَةً مَعْصِيَةً ; لَكِنْ رُبَّمَا تَخْفَى عَلَيْكَ حَقِيقَةُ الْوَاحِدِ ،
nindex.php?page=treesubj&link=20559فَالْوَاحِدُ يَنْقَسِمُ إلَى وَاحِدٍ بِالنَّوْعِ وَإِلَى وَاحِدٍ بِالْعَدَدِ . أَمَّا الْوَاحِدُ بِالنَّوْعِ كَالسُّجُودِ مَثَلًا ، فَإِنَّهُ نَوْعٌ وَاحِدٌ مِنْ الْأَفْعَالِ ; فَيَجُوزُ أَنْ يَنْقَسِمَ إلَى الْوَاجِبِ وَالْحَرَامِ وَيَكُونُ انْقِسَامُهُ بِالْأَوْصَافِ وَالْإِضَافَاتِ كَالسُّجُودِ لِلَّهِ تَعَالَى وَالسُّجُودِ لِلصَّنَمِ ، إذْ أَحَدُهُمَا وَاجِبٌ وَالْآخَرُ حَرَامٌ وَلَا تَنَاقُضَ .
وَذَهَبَ بَعْضُ
الْمُعْتَزِلَةِ إلَى تَنَاقُضٍ ، فَإِنَّ السُّجُودَ نَوْعٌ وَاحِدٌ مَأْمُورٌ بِهِ فَيَسْتَحِيلُ أَنْ يُنْهَى عَنْهُ ، بَلْ السَّاجِدُ لِلصَّنَمِ عَاصٍ بِقَصْدِ تَعْظِيمِ الصَّنَمِ لَا بِنَفْسِ السُّجُودِ . وَهَذَا خَطَأٌ فَاحِشٌ ، فَإِنَّهُ إذَا تَغَايَرَ مُتَعَلَّقُ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ لَمْ يَتَنَاقَضْ ، وَالسُّجُودُ لِلصَّنَمِ غَيْرُ السُّجُودِ لِلَّهِ تَعَالَى ; لِأَنَّ اخْتِلَافَ الْإِضَافَاتِ وَالصِّفَاتِ يُوجِبُ الْمُغَايَرَةَ إذْ الشَّيْءُ لَا يُغَايِرُ نَفْسَهُ .
وَالْمُغَايَرَةُ تَارَةً تَكُونُ بِاخْتِلَافِ النَّوْعِ وَتَارَةً بِاخْتِلَافِ الْوَصْفِ وَتَارَةً بِاخْتِلَافِ الْإِضَافَةِ ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : {
nindex.php?page=tafseer&surano=41&ayano=37لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ } ، وَلَيْسَ الْمَأْمُورُ بِهِ هُوَ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ ، وَالْإِجْمَاعُ مُنْعَقِدٌ عَلَى أَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=20559_10043السَّاجِدَ لِلشَّمْسِ عَاصٍ بِنَفْسِ السُّجُودِ وَالْقَصْدِ جَمِيعًا .
فَقَوْلُهُمْ : إنَّ السُّجُودَ نَوْعٌ وَاحِدٌ لَا يُغْنِي مَعَ انْقِسَامِ هَذَا النَّوْعِ إلَى أَقْسَامٍ مُخْتَلِفَةِ الْمَقَاصِدِ ، إذْ الْمَقْصُودُ بِهَذَا السُّجُودِ تَعْظِيمُ الصَّنَمِ دُونَ تَعْظِيمِ اللَّهِ تَعَالَى ، وَاخْتِلَافُ وُجُوهِ الْفِعْلِ كَاخْتِلَافِ نَفْسِ الْفِعْلِ فِي حُصُولِ الْغَيْرِيَّة الرَّافِعَةِ لِلتَّضَادِّ ، فَإِنَّ التَّضَادَّ إنَّمَا يَكُونُ بِالْإِضَافَةِ إلَى وَاحِدٍ وَلَا وَحْدَةَ مَعَ الْمُغَايَرَةِ
[ ص: 62 ]
مَسْأَلَةٌ : مَا ذَكَرْنَاهُ فِي الْوَاحِدِ بِالنَّوْعِ ظَاهِرٌ ،
أَمَّا
nindex.php?page=treesubj&link=20559_24348_20557الْوَاحِدُ بِالتَّعْيِينِ كَصَلَاةِ زَيْدٍ فِي دَارٍ مَغْصُوبَةٍ مِنْ عَمْرٍو فَحَرَكَتُهُ فِي الصَّلَاةِ فِعْلُ وَاحِدٍ بِعَيْنِهِ هُوَ مُكْتَسِبُهُ وَمُتَعَلَّقُ قُدْرَتِهِ ; فَاَلَّذِينَ سَلَّمُوا فِي النَّوْعِ الْوَاحِدِ نَازَعُوا هَهُنَا فَقَالُوا : لَا تَصِحُّ هَذِهِ الصَّلَاةُ ، إذْ يُؤَدِّي الْقَوْلُ بِصِحَّتِهَا إلَى أَنْ تَكُونَ الْعَيْنُ الْوَاحِدَةُ مِنْ الْأَفْعَالِ حَرَامًا وَاجِبًا ، وَهُوَ مُتَنَاقِضٌ فَقِيلَ لَهُمْ : هَذَا خِلَافُ إجْمَاعِ السَّلَفِ ، فَإِنَّهُمْ مَا أَمَرُوا الظَّلَمَة عِنْدَ التَّوْبَةِ بِقَضَاءِ الصَّلَوَاتِ الْمُؤَدَّاةِ فِي الدُّورِ الْمَغْصُوبَةِ مَعَ كَثْرَةِ وُقُوعِهَا ، وَلَا نَهُوا الظَّالِمِينَ عَنْ الصَّلَاةِ فِي الْأَرَاضِي الْمَغْصُوبَةِ ، فَأَشْكَلَ الْجَوَابُ عَلَى
nindex.php?page=showalam&ids=12604الْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ فَقَالَ : يَسْقُطُ الْوُجُوبُ عِنْدهَا لَا بِهَا بِدَلِيلِ الْإِجْمَاع وَلَا يَقَعُ وَاجِبًا ; لِأَنَّ الْوَاجِبَ مَا يُثَابُ عَلَيْهِ .
وَكَيْفَ يُثَابُ عَلَى مَا يُعَاقَبُ عَلَيْهِ وَفِعْلُهُ وَاحِدٌ هُوَ كَوْنٌ فِي الدَّارِ الْمَغْصُوبَةِ وَسُجُودُهُ وَرُكُوعُهُ أَكْوَانٌ اخْتِيَارِيَّةٌ هُوَ مُعَاقَبٌ عَلَيْهَا وَمَنْهِيٌّ عَنْهَا ؟ وَكُلُّ مَنْ غَلَبَ عَلَيْهِ الْكَلَامُ قَطَعَ بِهَذَا نَظَرًا إلَى اتِّحَادِ أَكْوَانِهِ فِي حَالَةٍ مِنْ أَحْوَالِهِ وَأَنَّ الْحَادِثَ مِنْهُ الْأَكْوَانُ لَا غَيْرُهَا وَهُوَ مُعَاقَبٌ عَلَيْهَا عَاصٍ بِهَا ، فَكَيْفَ يَكُونُ مُتَقَرِّبًا بِمَا هُوَ مُعَاقَبٌ عَلَيْهِ وَمُطِيعًا بِمَا هُوَ بِهِ عَاصٍ ؟ وَهَذَا غَيْرُ مَرْضِيِّ عِنْدَنَا ، بَلْ نَقُولُ : الْفِعْلُ وَإِنْ كَانَ وَاحِدًا فِي نَفْسِهِ فَإِذَا كَانَ لَهُ وَجْهَانِ مُتَغَايِرَانِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَطْلُوبًا مِنْ أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ مَكْرُوهًا مِنْ الْوَجْهِ الْآخَرِ ، وَإِنَّمَا الْمُحَالُ أَنْ يُطْلَبَ مِنْ الْوَجْهِ الَّذِي يُكْرَهُ بِعَيْنِهِ ، وَفِعْلُهُ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ صَلَاةٌ مَطْلُوبٌ وَمِنْ حَيْثُ إنَّهُ غَصْبٌ مَكْرُوهٌ ، وَالْغَصْبُ مَعْقُولٌ دُونَ الصَّلَاةِ وَالصَّلَاةُ مَعْقُولَةٌ دُون الْغَصْبِ ، وَقَدْ اجْتَمَعَ الْوَجْهَانِ فِي فِعْلٍ وَاحِدٍ وَمُتَعَلَّقُ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ الْوَجْهَانِ الْمُتَغَايِرَانِ .
وَكَذَلِكَ يُعْقَلُ مِنْ السَّيِّدِ أَنْ يَقُولَ لِعَبْدِهِ : " صَلِّ الْيَوْمَ أَلْف رَكْعَةٍ وَخِطْ هَذَا الثَّوْبَ وَلَا تَدْخُلْ هَذِهِ الدَّارَ ، فَإِنْ ارْتَكَبْتَ النَّهْيَ ضَرَبْتُك وَإِنْ امْتَثَلْتَ الْأَمْرَ أَعْتَقْتُكَ " . فَخَاطَ الثَّوْبَ فِي الدَّارِ وَصَلَّى أَلْفَ رَكْعَةٍ فِي تِلْكَ الدَّارِ ، فَيَحْسُنُ مِنْ السَّيِّدِ أَنْ يَضْرِبَهُ وَيُعْتِقَهُ وَيَقُولَ أَطَاعَ بِالْخِيَاطَةِ وَالصَّلَاةِ وَعَصَى بِدُخُولِ الدَّارِ ، فَكَذَلِكَ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ مِنْ غَيْرِ فَرْقٍ . فَالْفِعْلُ وَإِنْ كَانَ وَاحِدًا فَقَدْ تَضَمَّنَ تَحْصِيلَ أَمْرَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ يَطْلُبُ أَحَدَهُمَا وَيَكْرَهُ الْآخَرَ .
nindex.php?page=treesubj&link=20557_20559وَلَوْ رَمَى سَهْمًا وَاحِدًا إلَى مُسْلِمٍ بِحَيْثُ يَمْرُقُ إلَى كَافِرٍ أَوْ إلَى كَافِرٍ بِحَيْثُ يَمْرُقُ إلَى مُسْلِمٍ ، فَإِنَّهُ يُثَابُ وَيُعَاقَبُ وَيَمْلِكُ سَلَبَ الْكَافِرِ وَيُقْتَلُ بِالْمُسْلِمِ قِصَاصًا لِتَضَمُّنِ فِعْلِهِ الْوَاحِدِ أَمْرَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ .
فَإِنْ قِيلَ : ارْتِكَاب الْمَنْهِيِّ عَنْهُ إذَا أَخَلَّ بِشَرْطِ الْعِبَادَةِ أَفْسَدَهَا بِالِاتِّفَاقِ ، وَنِيَّةُ التَّقَرُّبِ بِالصَّلَاةِ شَرْطٌ ، وَالتَّقَرُّبُ بِالْمَعْصِيَةِ مُحَالٌ ، فَكَيْفَ يَنْوِي التَّقَرُّبَ ؟ فَالْجَوَابُ مِنْ أَوْجُهٍ : الْأَوَّلِ : أَنَّ الْإِجْمَاعَ إذَا انْعَقَدَ عَلَى صِحَّةِ هَذِهِ الصَّلَاةِ فَلْيَعْلَمْ بِهِ بِالضَّرُورَةِ أَنَّ نِيَّةَ التَّقَرُّبِ لَيْسَ بِشَرْطٍ أَوْ نِيَّةَ التَّقَرُّبِ بِهَذِهِ الصَّلَاةِ مُمْكِنٌ ،
nindex.php?page=showalam&ids=12187وَأَبُو هَاشِمٍ الْجُبَّائِيُّ وَمَنْ خَالَفَ فِي صِحَّةِ الصَّلَاةِ مَسْبُوقٌ بِإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ عَلَى تَرْكِ تَكْلِيفِ الظَّلَمَةِ قَضَاءَ الصَّلَوَاتِ مَعَ كَثْرَتِهِمْ ، وَكَيْفَ يُنْكِرُ سُقُوطَ نِيَّةِ التَّقَرُّبِ ؟ وَقَدْ اخْتَلَفُوا فِي اشْتِرَاطِ نِيَّةِ الْفَرْضِيَّةِ وَنِيَّةِ الْإِضَافَةِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى ، فَقَالَ قَوْمٌ : لَا يَجِبُ إلَّا أَنْ يَنْوِيَ الظُّهْرَ أَوْ الْعَصْرَ فَهُوَ فِي مَحَلِّ الِاجْتِهَادِ .
وَقَدْ ذَهَبَ قَوْمٌ إلَى أَنَّ الصَّلَاةَ تَجِبُ فِي آخِرِ الْوَقْتِ
nindex.php?page=treesubj&link=20500_1413_20499وَالصَّبِيُّ إذَا صَلَّى فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ ثُمَّ بَلَغَ آخِرَهُ أَجْزَأَهُ ، وَلَوْ بَلَغَ فِي وَسَطِ الْوَقْتِ مَعَ أَنَّهُ لَا تَتَحَقَّقُ الْفَرْضِيَّةُ فِي حَقِّهِ .
فَإِنْ قِيلَ مَنْ نَوَى الصَّلَاةَ فَقَدْ تَضَمَّنَتْ نِيَّتُهُ الْقُرْبَةَ قُلْنَا : إذَا صَحَّتْ الصَّلَاةُ بِالْإِجْمَاعِ وَاسْتَحَالَ نِيَّةُ التَّقَرُّبُ فَتُلْغَى تِلْكَ النِّيَّة . وَيَصِحُّ أَنْ يُقَالَ تَعَلَّقَتْ نِيَّةُ التَّقَرُّبِ بِبَعْضِ أَجْزَاءِ
[ ص: 63 ] الصَّلَاةِ مِنْ الذِّكْرِ وَالْقِرَاءَةِ وَمَا لَا يُزَاحِمُ حَقَّ الْمَغْصُوبِ مِنْهُ ، فَإِنَّ الْأَكْوَانَ هِيَ الَّتِي تَتَنَاوَلُ مَنَافِعَ الدَّارِ .
ثُمَّ كَيْفَ يَسْتَقِيمُ مِنْ
الْمُعْتَزِلَةِ هَذَا وَعِنْدَهُمْ لَا يُعْلَمُ الْمَأْمُورُ كَوْنُهُ مَأْمُورًا وَلَا كَوْنُ الْعِبَادَةِ وَاجِبَةً قَبْلَ الْفَرَاغِ مِنْ الِامْتِثَالِ كَمَا سَيَأْتِي ؟
nindex.php?page=treesubj&link=20746_20559فَكَيْفَ يَنْوِي التَّقَرُّبَ بِالْوَاجِبِ وَهُوَ لَا يَعْرِفُ وُجُوبَهُ ؟ الْجَوَابُ الثَّانِي ، وَهُوَ الْأَصَحُّ أَنَّهُ يَنْوِي التَّقَرُّبَ بِالصَّلَاةِ وَيَعْصِي بِالْغَصْبِ .
وَقَدْ بَيَّنَّا انْفِصَالَ أَحَدِهِمَا عَنْ الْآخَرِ ; وَلِذَلِكَ يَجِدُ الْمُصَلِّي مِنْ نَفْسِهِ نِيَّةَ التَّقَرُّبِ بِالصَّلَاةِ وَإِنْ كَانَ فِي دَارٍ مَغْصُوبَةٍ ; لِأَنَّهُ لَوْ سَكَنَ وَلَمْ يَفْعَلْ لَكَانَ غَاصِبًا فِي حَالَةِ النَّوْمِ وَعَدَمِ اسْتِعْمَالِ الْقُدْرَةِ ، وَإِنَّمَا يَتَقَرَّبُ بِأَفْعَالِهِ وَلَيْسَتْ تِلْكَ الْأَفْعَالُ شَرْطًا لِكَوْنِهِ غَاصِبًا فَإِنْ قِيلَ : هُوَ فِي حَالَةِ الْقُعُودِ وَالْقِيَامِ غَاصِبٌ بِفِعْلِهِ ، وَلَا فِعْلَ لَهُ إلَّا قِيَامُهُ وَقُعُودُهُ ، وَهُوَ مُتَقَرِّبٌ بِفِعْلِهِ فَيَكُونُ مُتَقَرِّبًا بِعَيْنِ مَا هُوَ عَاصٍ بِهِ .
قُلْنَا : هُوَ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ مُسْتَوْفٍ مَنَافِعَ الدَّارِ غَاصِبٌ وَمِنْ حَيْثُ إنَّهُ أَتَى بِصُورَةِ الصَّلَاةِ مُتَقَرِّبٌ كَمَا ذَكَرْنَاهُ فِي صُورَةِ الْخِيَاطَةِ ، إذْ قَدْ يُعْقَلُ كَوْنُهُ غَاصِبًا وَلَا يُعْلَمُ كَوْنُهُ مُصَلِّيًا ، وَيُعْلَمُ كَوْنُهُ مُصَلِّيًا وَلَا يُعْلَمُ كَوْنُهُ غَاصِبًا .
فَهُمَا وَجْهَانِ مُخْتَلِفَانِ وَإِنْ كَانَ ذَاتُ الْفِعْلِ وَاحِدًا . الْجَوَابُ الثَّالِثُ : هُوَ أَنَّا نَقُولُ : تُنْكِرُونَ عَلَى
nindex.php?page=showalam&ids=12604الْقَاضِي رَحِمَهُ اللَّهُ حَيْثُ حَكَمَ بِأَنَّ الْفَرْضَ يَسْقُطُ عِنْدهَا لَا بِهَا بِدَلِيلِ الْإِجْمَاعِ ؟ فَسَلِمَ أَنَّهُ مَعْصِيَةٌ ; وَلَكِنَّ الْأَمْرَ لَا يَدُلَّ عَلَى الْإِجْزَاءِ إذَا أَتَى بِالْمَأْمُورِ وَلَا النَّهْيَ يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ الْإِجْزَاءِ ، بَلْ يُؤْخَذُ الْإِجْزَاءُ مَنْ دَلِيلٍ آخَرَ كَمَا سَيَأْتِي .
فَإِنْ قِيلَ : هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ اجْتِهَادِيَّةٌ أَمْ قَطْعِيَّةٌ ؟
قُلْنَا : هِيَ قَطْعِيَّةٌ وَالْمُصِيبُ فِيهَا وَاحِدٌ ; لِأَنَّ مَنْ صَحَّحَ أَخَذَ مِنْ الْإِجْمَاعِ وَهُوَ قَاطِعٌ ، وَمَنْ أَبْطَلَ أَخَذَ مِنْ التَّضَادِّ الَّذِي بَيْنَ الْقُرْبَةِ وَالْمَعْصِيَةِ ، وَيُدَّعَى كَوْنُ ذَلِكَ مُحَالًا بِدَلِيلِ الْعَقْلِ فَالْمَسْأَلَةُ قَطْعِيَّةٌ .
فَإِنْ قِيلَ : ادَّعَيْتُمْ الْإِجْمَاعَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَقَدْ ذَهَبَ
nindex.php?page=showalam&ids=12251أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ إلَى بُطْلَانِ هَذِهِ الصَّلَاةِ وَبُطْلَانِ كُلِّ عَقْدٍ مَنْهِيٍّ عَنْهُ حَتَّى الْبَيْعَ فِي وَقْتِ النِّدَاءِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ ، فَكَيْفَ تَحْتَجُّونَ عَلَيْهِ بِالْإِجْمَاعِ ؟ قُلْنَا : الْإِجْمَاعُ حُجَّةٌ عَلَيْهِ ، إذْ عَلِمْنَا أَنَّ الظَّلَمَةَ لَمْ يُؤْمَرُوا بِقَضَاءِ الصَّلَوَاتِ مَعَ كَثْرَةِ وُقُوعِهَا مَعَ أَنَّهُمْ لَوْ أُمِرُوا بِهِ لَانْتَشَرَ ، وَإِذَا أُنْكِرَ هَذَا فَيَلْزَمُهُ أَظْهَرُ مِنْهُ وَهُوَ أَنْ لَا تَحِلُّ امْرَأَةٌ لِزَوْجِهَا وَفِي ذِمَّتِهِ دَانِقٌ ظَلَمَ بِهِ ، وَلَا يَصِحُّ بَيْعُهُ وَلَا صَلَاتُهُ وَلَا تَصَرُّفَاتُهُ ، وَإِنَّهُ لَا يَحْصُلُ التَّحْلِيلُ بِوَطْءِ مَنْ هَذِهِ حَالُهُ ; لِأَنَّهُ عَصَى بِتَرْكِ رَدِّ الْمَظْلِمَةِ وَلَمْ يَتْرُكْهَا إلَّا بِتَزْوِيجِهِ وَبَيْعِهِ وَصَلَاتِهِ وَتَصَرُّفَاتِهِ ، فَيُؤَدِّي إلَى تَحْرِيمِ أَكْثَرِ النِّسَاءِ وَفَوَاتِ أَكْثَرِ الْأَمْلَاكِ ، وَهُوَ خَرْقٌ لِلْإِجْمَاعِ قَطْعًا وَذَلِكَ لَا سَبِيلَ إلَيْهِ