المسألة الرابعة [ إجماع أهل المدينة ] المدينة على الانفراد لا يكون حجة ، وقال إجماع أهل : إذا أجمعوا لم يعتد بخلاف غيرهم . قال مالك في كتاب " اختلاف الحديث " : قال بعض أصحابنا : إنه حجة ، وما سمعت أحدا ذكر قوله إلا عابه ، وإن ذلك عندي معيب . انتهى . وقال الشافعي الحارث المحاسبي [ ص: 441 ] في كتاب " فهم السنن " : قال : إذا كان الأمر مالك بالمدينة ظاهرا معمولا به لم أر لأحد خلافه ، ولا يجوز لأحد مخالفته . ا هـ . ونقل عنه الصيرفي في الأعلام " والروياني في البحر " والغزالي في المستصفى " أن الإجماع إنما هو إجماعهم دون غيرهم ، وهو بعيد . ونقل في كتاب " الرد على الأستاذ أبو منصور الجرجاني " أنه أراد الفقهاء السبعة وحدهم ، وقال : إنهم إذا أجمعوا على مسألة انعقد بهم الإجماع ، ولم يجز لغيرهم مخالفتهم ، والمشهور عنه الأول . لكن يشكل على ذلك أنه في " الموطأ " في باب العيب في الرقيق نقل المدينة على أن البيع بشرط البراءة لا يجوز ، ولا يبرأ من العيب أصلا ، علمه أو جهله . ثم خالفهم ، فلو كان يرى أن إجماعهم حجة لم تسع مخالفته . إجماع أهل
وعلى المشهور فاختلف أصحابه فقال الباجي : إنما أراد فيما طريقه النقل المستفيض ، كالصاع والمد والأذان ، والإمامة ، وعدم الزكوات في الخضراوات مما تقضي العادة بأن يكون في زمن النبي صلى الله عليه وسلم ، فإنه لو تغير عما كان عليه لعلم ، فأما مسائل الاجتهاد فهم وغيرهم سواء . وحكاه القاضي في " التقريب " عن شيخه الأبهري . وقيل : يرجح نقلهم على نقل غيرهم ، وقد أشار - رضي الله عنه - إلى هذا في القديم ، ورجح رواية أهل الدين على غيرهم . وقيل : أراد بذلك الصحابة ، وقيل : أراد به في زمن الصحابة والتابعين وتابعي [ ص: 442 ] التابعين . حكاه الشافعي القاضي في " التقريب " ، وابن السمعاني ، وعليه . ابن الحاجب
وادعى ابن تيمية أنه مذهب ، الشافعي بناء على قولهما : إن اجتهادهم في ذلك الزمن مرجح على اجتهاد غيرهم ، فيرجح أحد الدليلين لموافقة أهل وأحمد المدينة . وقال مرة : إنه محمول على إجماع المتقدمين من أهل المدينة ، وحكي عن يونس بن عبد الأعلى قال : قال لي - رضي الله عنه - : إذا وجدت متقدمي أهل الشافعي المدينة على شيء ، فلا يدخل قلبك شك أنه الحق ، وكلما جاءك شيء غير ذلك ، فلا تلتفت إليه ، ولا تعبأ به ، فقد وقعت في البحار ، ووقعت في اللجج . وفي لفظ له : إذا رأيت أوائل أهل المدينة على شيء فلا تشكن أنه الحق ، والله إني لك ناصح ، والقرآن لك ناصح ، وإذا رأيت قول في حكم أو سنة ، فلا تعدل عنه إلى غيره . سعيد بن المسيب
وقال : قدم علينا مالك قدمة ، فقلت له : طلبت العلم حتى إذا كنت وعاء من أوعيته تركت ابن شهاب المدينة فقال : كنت أسكن المدينة ، والناس ناس ، فلما تغيرت الناس تركتهم . رواه عنه . ا هـ . وقيل محمول على المنقولات المستمرة كما سبق ، وإليه ذهب عبد الرزاق القرافي في شرح المنتخب " وصحح في مكان آخر التعميم في مسائل الاجتهاد ، [ ص: 443 ] وفيما طريقه النقل ، والصحيح الأول . ولا فرق في مسائل الاجتهاد بينهم وبين غيرهم من العلماء ، إذا لم يقم دليل على عصمة بعض الأمة . نعم ، ما طريقه النقل إذا علم اتصاله ، وعدم تغيره ، واقتضته العادة من صاحب الشرع ، ولو بالتقرير عليه فالاستدلال به قوي يرجع إلى أمر عادي ، قاله ابن دقيق العيد رحمه الله . وقال : القاضي عبد الوهاب المدينة على ضربين : نقلي ، واستدلالي . فالأول على ثلاثة أضرب : منه نقل شرع مبتدأ من جهة النبي صلى الله عليه وسلم . إما من قول أو فعل أو إقرار . فالأول : كنقلهم الصاع ، والمد والأذان ، والإقامة والأوقات ، والأحباس ونحوه . والثاني : نقلهم المتصل كعهدة الرقيق ، وغير ذلك . والثالث : كتركهم أخذ الزكاة من الخضراوات مع أنها كانت تزرع إجماع أهل بالمدينة ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء بعده لا يأخذونها منها . قال : وهذا النوع من إجماعهم حجة يلزم عندنا المصير إليه ، وترك الأخبار والمقاييس له ، لا اختلاف بين أصحابنا فيه .
قال : والثاني : وهو إجماعهم من طريق الاستدلال ، فاختلف أصحابنا فيه على ثلاثة أوجه . أحدها : أنه ليس بإجماع ، ولا مرجح ، وهو قول ، أبي بكر وأبي يعقوب الرازي ، ، والقاضي أبي بكر وابن السمعاني ، والطيالسي ، وأبي الفرج ، والأبهري ، وأنكروا كونه مذهبا [ ص: 444 ] ثانيها : أنه مرجح ، وبه قال بعض أصحاب لمالك . ثالثها : أنه حجة ، وإن لم يحرم خلافه ، وإليه ذهب قاضي القضاة الشافعي أبو الحسين بن عمر . انتهى .
وقال أبو العباس القرطبي : أما الضرب الأول فينبغي أن لا يختلف فيه ; لأنه من باب النقل المتواتر ، ولا فرق بين القول والفعل والإقرار إذ كل ذلك نقل محصل للعمل القطعي ، وأنهم عدد كثير ، وجم غفير ، تحيل العادة عليهم التواطؤ على خلاف الصدق ، ولا شك أن ما كان هذا سبيله أولى من أخبار الآحاد والأقيسة والظواهر ، وأما الثاني : فالأول منه أنه حجة إذا انفرد ، ومرجح لأحد المتعارضين ، ودليلنا على ذلك أن المدينة مفرز الإيمان ، ومنزل الأحكام ، والصحابة هم المشافهون لأسبابها ، الفاهمون لمقاصدها ، ثم التابعون نقلوها وضبطوها ، وعلى هذا المدينة ليس بحجة من حيث إجماعهم ، بل إما هو من جهة نقلهم المتواتر ، وإما من جهة شهادتهم لقرائن الأحوال الدالة على مقاصد الشرع ، قال : وهذا النوع الاستدلالي إن عارضه خبر ، فالخبر أولى عند جمهور أصحابنا ; لأنه مظنون من جهة واحدة ، وهو الطريق ، وعملهم الاجتهادي مظنون من جهة مستند اجتهادهم ، ومن جهة الخبر ، وكان الخبر أولى ، وقد صار كثير من أصحابنا إلى أنه أولى من الخبر بناء منهم على أنه إجماع ، وليس بصحيح ; لأن المشهود له بالعصمة كل الأمة لا بعضها . ا هـ . وقد تحرر بهذا موضع النزاع ، والصحيح من مذهبه ، وهؤلاء أعرف بذلك . فإجماع أهل