مسألة ثبوت الحكم في محل الأصل
فيه وجهان لأصحابنا حكاهما الحكم في محل النص هل ثبت بالعلة أو بالنص ؟ الأستاذ أبو إسحاق ، وحكى في " المستصفى " وجها ثالثا بالتفصيل بين أن تكون العلة منصوصة فيجوز إضافة الحكم إليها في محل النص كالسرقة مثلا ، وإلا فلا . وهو غريب . ويخرج من كلام ابن السمعاني رابع ، وهو أن الحكم ثبت في الأصل بالنص والعلة جميعا فقال : وقولهم : إنه لا يضاف إلى النص . قلنا : يضاف ، فيقال : النص يفيد هذا الحكم ، والعلة أيضا مفيدة له . ويجوز أن يتوالى دليلان على حكم واحد . وكذا قال ابن برهان : ثبوته بالنص لا يمنع من إضافته إلى العلة ، فنحن نجمع بينهما ونقول : الحكم ثابت بينهما جميعا ، ويجوز إضافة الحكم إلى دليلين بالاتفاق وإن اختلفوا في تعليله بعلتين .
ثم قال الأستاذ : وقال أهل التحقيق : إن حقيقة القول في موجب الحكم [ ص: 133 ] الكشف عن الدليل المبين له ، قالوا : وله في الأصل دليلان .
أحدهما : النص ، وله حكمان :
أحدهما : بيان الشريعة ، والثاني : بيان المعنى الذي تعلق به الحكم . وفي الفرع دليل واحد إذا كانت العلة واحدة قال : وهذا هو الصحيح . وقد يجوز أن تكون العلة مدرك حكمه بوجوه من الأدلة . ثم يعرف حكم غيره ببعض أدلته وقال الصيرفي : الحكم في الأصل ثبت بالعلة التي دل عليها النص ، وحظ النص فيها التنبيه عليها ، وهذا هو الراجح عند أصحابنا . قال الإبياري : وهو الصحيح من مذهب . وعن مالك العراقيين من الحنفية أنه ثابت بالنص . وعلى الأول فإذا استنبط من محل عموم علة خاصة تخصيص حكم الأصل وهو بمثابة استنباط الإسكار من آية تحريم الخمر ، فيقتضي أنه لا يحرم إلا القدر المسكر ، وهو قول في النبيذ بناء منه على أن حكم النبيذ هو المستند إلى العلة ، وأما حكم الخمر فيستند إلى اللفظ العام . أبي حنيفة
قال ابن النفيس في " الإيضاح " : وينبغي أن يكون مراد الشافعية ثبوته بالعلة فظن أن ثبوته بالنص لأجل العلة لا لأن العلة هي الموجبة له بدون النص . ولا أنها جزء الموجب ، وحينئذ يصير الخلاف لفظيا ، وكذا زعم الآمدي وغيره أن النزاع لفظي لا يرجع إلى معنى ، لأن النص لا شك أنه المعرف للحكم أي ثبت عندنا به الحكم . والمعنى عند من يفسده بالباعث هو الذي اقتضى الحكم ، فمن أراد بقوله أن الحكم ثابت بالنص أي عرف به فقوله صحيح ولا ينازع فيه ، ومن رأى أن المقتضى والباعث هو المعنى فلا ينازعه الآخر فيه . [ ص: 134 ] والتحقيق أن الخلاف معنوي وله أصل وفرع . أما أصله فيرجع إلى تفسير العلة : فعلى قول المعتزلة إنها مؤثرة ، فحكم الأصل ثابت بها ، وكذا على قول الغزالي إنها مؤثرة بجعل الله . وأما من يفسرها بالباعث فمعنى أنه شرع لأجل المصلحة التي اقتضت مشروعيته وبعثت عليه ففي القاصرة فائدة معرفة الباعث وأما من يفسرها بالمعرف فلا ريب أنها تعرف حكم الأصل بمجردها ، وقد تجتمع هي والنص فلا يمتنع اجتماع معرفين عند من يجعلهما في حالة الاجتماع معرفين . وبه يظهر أن حكم الأصل ثابت بالعلة ، وأن نسبة الأصل والفرع إلى العلة سواء لا فرق بينهما . وأما فرعه فالخلاف في جواز التعليل بالقاصرة ، فمن جوز التعليل بها قال : الحكم ثابت في المحل بالعلة ولم يكن لها فائدة ، ولهذا في التعدية لو لم يقدر ثبوت الحكم بالعلة لم يتحقق معنى المقايسة ، لأن الحكم حينئذ ثابت بالنص . وذكر الإبياري في " شرح البرهان " من فوائد الخلاف تحريم قليل النبيذ وكثيره كالخمر عندنا ، وعندهم لا يحرم إلا القدر المسكر ، بخلاف الخمر فإن حرمة الخمر ثابتة بالنص ، وهو عام يشمل قليله بعلة الإسكار وحرمة النبيذ ، والفرع ثابت بعلة الأصل وهي الإسكار ، فلا بد من وجودها فلا يحرم منه قدر لا يسكر .
تنبيهات
الأول : هذا الخلاف في النص ذي العلة . أما التعبدي فلا مدخل له في القياس لاستحالة أن يقال : إنه هناك ثابت بالعلة ، وظن الهندي أن كلام أصحابنا على إطلاقه فردد القول عليهم وليس كذلك .
الثاني : صواب العبارة أن يقال : " ثابت عند العلة " لا " بها " وكأن الشارع [ ص: 135 ]
قال : مهما وجد الوصف فاعلموا أن الحكم الفلاني حاصل في ذلك التمثيل . وقد قال في مسألة العلة المركبة : التحقيق أن معنى العلة ما قضى الشارع بالحكم عند الحكمة ، لا أنها صفة زائدة . الثالث : ابن الحاجب
بهذه المسألة ينحل إشكال أورده نفاة القياس وهو : وذلك لأن حكم الأصل ثابت بالنص . كتحريم الخمر ، وحكم الفرع ثابت بالإلحاق كتحريم النبيذ ، فالحكم واحد ، والطريق مختلف ، فكيف يصح هذا ؟ وجوابه : أن من قال : إن الحكم في محل النص بالعلة ، لم يرد عليه هذا السؤال ، لأنه إنما ثبت الحكم في الفرع والأصل بطريق واحد وهو معنى الإسكار في الخمر والنبيذ . ومن أثبت في الأصل بالنص قال : المقصود ثبوت الحكم لا تعيين طريقه بكونه نصا أو قياسا ، أو نصا في الأصل قياسا في الفرع ، لأن الطريق وسيلة والحكم مقصد ، ومع حصول المقصد لو قدر عدم الوسائل لم يضر ، فضلا عن اختلافها ، وهذا كمن قصد كيف ثبت حكم الفرع بغير ثبوته في الأصل ؟ مكة أو غيرها من البلاد لا حرج عليه من أي جهة دخلها .