المسلك السابع الشبه
ويسميه بعض الفقهاء " " وهو عام أريد به خاص ، إذ الشبه يطلق على جميع أنواع القياس ، لأن كل قياس لا بد فيه من كون الفرع شبيها بالأصل ، بجامع بينهما . إلا أن الاستدلال بالشيء على مثله الأصوليين اصطلحوا على تخصيص هذا الاسم بنوع من الأقيسة ، وهو من أهم ما يجب الاعتناء به . والفرق بينه وبين الطرد ، ولهذا قال الإبياري : لست أرى في مسائل الأصول مسألة أغمض من هذه .
وفيه مقامان :
[ المقام ] الأول : في وقد اختلفوا ، فقال تعريفه إمام الحرمين : لا يمكن تحديده . والصحيح إمكانه . [ ص: 294 ] واختلفوا فيه فقيل : هو الجمع بين الأصل والفرع بوصف يوهم اشتماله على الحكمة المفضية للحكم من غير تعيين . كقول في النية في الوضوء والتيمم : طهارتان فأنى تفترقان ؟ قال الشافعي الخوارزمي في الكافي . قال : ففي القياس المعنوي تعيين المعنى المؤثر المناسب لثبوت الحكم ، وفي قياس الشبه لا تعيين ، بل الجمع بينهما بوصف يوهم المناسب . وأما الطرد فهو الجمع بينهما بمجرد الطرد ، وهو السلامة عن النقض .
ونحوه قوله في المستصفى : الشبه لا بد أن يزيد على الطرد بمناسبة الوصف الجامع لعلة الحكم ، وإن لم يناسب الحكم بأن يقرر بأن لله في كل حكم سرا ، وهو مصلحة مناسبة للحكم لم نطلع على عين تلك العلة ولكن نطلع على وصف يوهم الاشتمال على تلك المصلحة قال : وإن لم يريدوا بقياس الشبه هذا فلا أدري ما أرادوا به وبماذا فصلوه من الطرد المحض . والحاصل أن الشبهي والطردي يجتمعان في عدم الظهور المناسب ، ويتخالفان في أن الطردي عهد من الشارع عدم الالتفات إليه ، وسمي شبها لأنه باعتبار عدم الوقوف على المناسبة يجزم المجتهد بعدم مناسبته ، ومن حيث اعتبار الشرع له في بعض الصور يشبه المناسب ، فهو بين المناسب والطردي . [ ص: 295 ] وقال إمام الحرمين : يتعذر بأن يقول هو يقرب الأصل من الفرع ويمتاز عن الطرد أنه يغلب على الظن الاشتراك في الحكمة ، والطرد لا يغلبه على الظن ، ومن خواص الطرد أنه يعلق نقيض الحكم عليه بقوله : طهارة بالماء فلا تفتقر إلى النية ، كإزالة النجاسة ، فيقال : طهارة ما تفتقر إلى النية . حد الشبه
وفيه نظر ، لأنه لا بد من مقيس عليه ، وهو التيمم ، وقوله : طهارة بالماء ليس بجامع بين الأصل والفرع . وهذا الذي قاله الإمام الغزالي أصله كلام ، فإنه فسر قياس الدلالة المورد على بعض تعريفات القياس ، وهو الجمع بين الفرع والأصل بما لا يناسب ، ولكن يستلزم المناسب ، فيقال : إنه الوصف المقارن للحكم الثابت له بالتبع وبالالتزام دون الذات ، كالطهارة لاشتراط النية ، فإن الطهارة من حيث هي لا تناسب اشتراط النية ، لكن تناسبها من حيث إنها عبادة والعبادة مناسبة لاشتراط النية ، أما ما يناسب بالذات فهو المناسب ، أو لا يناسب مطلقا فهو الطردي ، فالشبه حينئذ منزلة بين المناسبة والطردي ، فلهذا سمي " شبها " . هكذا قال القاضي أبي بكر الآمدي والرازي . وحكى الإبياري في شرح البرهان عن القاضي أنه ما يوهم الاشتمال على وصف مخيل . ثم قال : وفيه نظر من جهة أن الخصم قد ينازع في إيهام الاشتمال على مخيل إما حقا ، أو عنادا ، ولا يمكن التقرير عليه .
وقال بعد ذلك : إن ما اختاره الغزالي هو خلاصة كلام القاضي حيث قال : هو الذي يوهم الاشتراك في محل . قلت : وهو ظاهر كلام الغزالي في الشفاء وعليه اقتصر صاحب العنوان فيه . والذي في مختصر التقريب من كلام القاضي أن قياس الشبه هو إلحاق فرع بأصل لكثرة إشباهه بالأصل في الأوصاف من غير أن [ ص: 296 ] يعتقد أن الأوصاف التي شابه الفرع بها الأصل علة حكم الأصل . وقيل : الشبه هو الذي لا يكون مناسبا للحكم ، ولكن عرف اعتبار جنسه القريب في الجنس القريب ، وذلك لأنه يظن أنه لا يعتبر في ذلك الحكم لعدم مناسبته له ، فيظن أنه يمكن اعتباره في ذلك الحكم لتأثير جنسه في جنس ذلك الحكم . واختاره الرازي في الرسالة البهائية ، كإيجاب المهر بالخلوة ، فإنه لا يناسب وجوبه ، لأنه في مقابلة الوطء ، إلا أن جنس هذا الوصف ، وهو كون الخلوة مظنة الوطء ، يعتبر في جنس الوجوب ، وهو الحكم بتحريم الخلوة بالأجنبية . وقيل : هو الذي لا تثبت مناسبته إلا بدليل ، حكاه ، وجعله والذي قبله مفرعا على أن الشبه غير مستقل بالعلية ، بل يحتاج إلى مسلك آخر ، وأحسن ابن الحاجب ابن السمعاني فقال : قياس المعنى تحقيق ، والشبه تقريب ، والطرد تحكم ( ثم قال ) : قياس المعنى : ما يناسب الحكم ويستدعيه ويؤثر فيه ، والطرد عكسه ، والشبه أن يكون فرع يحاذيه أصلان فيلحق بأحدهما بنوع شبه مقرب ، أي يقرب الفرع من الأصل في الحكم المطلوب من غير تعرض لبيان المعنى ( انتهى ) .
وقيل : هو الذي يلائم الأوصاف التي عهد من الشارع إناطة الحكم بها . وقال إمام الحرمين : إن الناظر إذا فقد المعنى نظر في الأشباه ، وهو أوسع الأبواب ، وذلك لأن الشبه ينقدح عند إمكان المعنى وعند عدم فهمه ، ولا يتحتم الأشباه في التعبدات الجامدة . وفرق بين الشبه والطرد بأن الطرد نسبة ثبوت الحكم إليه ونفيه على السواء . والشبه نسبة الثبوت مترجحة على النفي فافترقا . وقال ابن المنير : اضطرب رأي الإمام في حده فقال مرة : هو المشير إلى معنى كلي لا يتحرر التعبير عنه . وقال مرة : هو الذي يناسب تشابه الفرع والأصل في أي حكم كان ، لا في حكم معين ، حتى لو نسبنا وجود الحكم المعين إليه لكان على حد نسبة عدمه إليه . وقال ابن رحال : فسره [ ص: 297 ] أكثر الأصوليين بما لا تثبت نسبته إلا بدليل منفصل عنه : وقيل : ما يوهم المناسبة من غير تحقيق ، وهما متقاربان . وقال القاضي : ما يوهم الاجتماع في مخيل ، وهذا التفسير أليق بالمظنة لا بالشبه ، لأنه مناسب في نفسه . وقال في أصوله : قد تسامح علماؤنا في جعل الشبه من مسالك العلة ، فإن البحث فيه نظر في تيقن العلة لا في ذاتها . وكذلك نفي الفارق . وقد اختلفت عباراتهم فيه . وحاصلها يرجع إلى عبارتين : القرطبي
إحداهما : أنه هو الذي يكون الفرع فيه دائرا بين أصلين فأكثر لتعارض الأشياء فيه ، فيلحق بأولاها ، كالعبد المتلف فإنه آدمي ومال ، ولا شك أنه مضمون بالقيمة ، لكن ، وهو مذهب هل تؤخذ قيمته بالغة ما بلغت ولو زادت على دية الحر الشافعي ، تغليبا لحكم المالية ، أو لا تؤخذ قيمة زيادة على دية الحر تغليبا لحكم الآدمية وهو مذهب ومالك . أبي حنيفة
وسمى هذا قياس غلبة الأشباه . قال : وهذا لا ينبغي أن يخص باسم الشبه ، لأنه قياس علة مناسب غير أنه تعارض فيه العلل ، فهو من باب المعارضة في الفرع ولا خلاف في هذا بعد ، ولا مشاحة في الاسم بعد فهم المعنى . الشافعي
الثانية : أنه الوصف الذي يظن به صلاحيته للمناسبة من جهة ذاته ، فخرج منه المناسب بأنه معلوم المناسبة ، والطردي لأنه معلوم نفيها . واحترزنا بقولنا " من جهة ذاته " عن المظنة ، فإنها لا تناسب بذاتها ، بل ما اشتملت عليه . وهذا معنى ما قاله وجرى عليه الجمهور ، وهو المفهوم من قول القاضي أبو بكر في الوضوء : طهارتان فكيف تفترقان ؟ يعني : في نفي اشتراط النية ، لكنا إذا تأملنا وجدنا لقول الشافعي طهارة حكمية من دون العلل ما لا نجد من قول الحنفي : طهارة بالماء . وذلك راجع إلى قوله " حكمية " يصلح للمناسبة ، ولم ينكشف لنا ، ولم نقدر على القطع بكونه عريا عنها ، وليس كذلك طهارة ما ، فإنه لا مناسب ولا صالح . ومثله أيضا قول الشافعية : طهارة موجبها في غير محل [ ص: 298 ] موجبها ، فشرط فيها النية كالتيمم . وهذا أصح ما قيل في الشبه . انتهى . هذا ما يتعلق بتعريفه . الشافعي