المسلك الثامن ويعبر عنه الأقدمون ب " الجريان " وب " الطرد والعكس " وهو : أن يوجد الحكم عند وجود وصف ويرتفع عند ارتفاعه في صورة واحدة ، كالتحريم مع السكر في العصير ، فإنه لما لم يكن مسكرا لم يكن حراما ، فلما حدث السكر فيه وجدت الحرمة ثم لما زال السكر بصيرورته خلا زال التحريم ، فدل على أن العلة " السكر " . الدوران
وأما في صورتين ، كوجوب الزكاة مع ملك نصاب قام في صورة أحد النقدين ، وعدمه مع عدم شيء منها ، كما في ثياب البذلة حيث لا تجب فيها [ ص: 309 ] الزكاة لفقد شيء مما ذكرناه . ومن أمثلته قوله عليه الصلاة والسلام في حديث ابن اللتبية حين استعمله النبي صلى الله عليه وسلم { } وهذا إثبات العلة بالدوران ، وهو ثبوت الحكم عند ثبوت الوصف وانتفاؤه عند انتفائه . واختلف الأصوليون في إفادة الدوران العلية على مذاهب : وقال : ما بالنا نستعمل أقواما فيجيء أحدهم فيقول : هذا لكم وهذا لي ، ألا جلس في بيت أبيه وأمه حتى تأتيه هديته إن كان صادقا
أحدها : أنه يفيد القطع بالعلية ، ونقل عن بعض المعتزلة وربما قيل : لا دليل فوقه ، حكاه ابن السمعاني عن بعض أصحابنا .
والثاني : أنه يفيد ظن العلية بشرط عدم المزاحم ، لأن العلة الشرعية لا توجب الحكم بذاتها وإنما هي علامة منصوبة ، فإذا دار الوصف مع الحكم غلب على الظن كونه معرفا له وينزل بمنزلة الوصف المومأ إليه بأن يكون علة وإن خلا عن المناسبة . وهو قول الجمهور ، منهم ( إمام الحرمين ) ، ونقله عن القاضي . وممن حكاه عن الأكثرين إلكيا .
وقال ابن السمعاني : وإليه ذهب كثير من أصحابنا . قال : ولأصحابنا العراقيين شغف به ، وقال الهندي : إنه المختار ، وحكاه عن الأستاذ أبو منصور ، وحكاه أبي علي بن أبي هريرة الشيخ أبو إسحاق عن . قال أبي بكر الصيرفي إمام الحرمين : ذهب كل من يعزى إلى الجدل إلى أنه [ ص: 310 ] أقوى ما تثبت به العلل . وذكر أن هذا المسلك من أقوى المسالك وكاد يدعي إفضاءه إلى القطع . وإنما سميت هذا الشيخ لغشيانه مجلس القاضي مدة وإعلاقه طرفا من كلامه ، ومن عداه حياله . القاضي أبو الطيب الطبري
قلت : والذي رأيته في " شرح الكفاية " ما لفظه : وأما الطرد فإنه شرط في صحتها ، وليس بدليل على صحتها ، ولا يجوز إذا اطرد معنى أن يحكم بصحته حتى يدل التأثير أو شهادة الأصول عليه . وكذا قال للقاضي أبي الطيب في " التبصرة " : الطرد والجريان شرط في صحة العلة ، وليس بدليل صحتها . وقيل : دليل على الصحة ، وبه قال الشيخ أبو إسحاق الصيرفي ، وقال : إذا لم يرد بها نص ولا أصل دل على صحتها ، وكذا قال ابن الصباغ : هو يدل على صحة العلة . وقال ابن برهان : الطرد عندنا شرط صحة العلة وليس دليلا على صحتها . وذهب بعض القدماء منا ومن الحنفية إلى أنه دليل على صحتها . وقال ابن السمعاني : الاطراد ليس بدليل لصحة العلة ولكن شرط لصحتها . وأما الانعكاس فليس بشرط لصحة العلة في قول أكثر الأصحاب ، وهو قول جمهور الأصوليين من الفقهاء ، وبه قال بعض المتكلمين قال : وذهب بعض أصحابنا إلى أن الانعكاس شرط ، فإذا ثبت الحكم بوجود العلة ولم يرتفع بارتفاعها بطلت العلة ، وهو قول بعض المعتزلة تعلقا بالعلل العقلية ، فإنه يجب انعكاسها ، فكذلك السمعية . ولنا أن العلة منصوبة للإثبات فلا تدل على النفي .
والثالث : أنه لا يدل بمجرده لا قطعا ولا ظنا . وهو اختيار الأستاذ أبي منصور وابن السمعاني والغزالي واختاره والشيخ أبي إسحاق الآمدي . وقال وابن الحاجب في كتاب " الحدود " إنه قول المحصلين . قال الشيخ أبو إسحاق إلكيا : وهو الذي يميل إليه القاضي ، ونقله ابن برهان عنه أيضا . واحتجوا بأنه قد وجد مع عدم العلية فلا يكون دليلا عليها . ألا ترى أن المعلول دائر مع العلة وجودا وعدما ، مع أن المعلول ليس بعلة لعلته [ ص: 311 ] قطعا ، والجوهر والعرض متلازمان مع أن أحدهما ليس بعلة في الآخر اتفاقا ، والمتضايفان - كالأبوة والبنوة - متلازمان وجودا وعدما ، مع أن أحدهما ليس بعلة في الآخر لوجوب تقدم العلة على المعلول ووجوب مصاحبة المتضايفين وإلا لما كانا متضايفين .
وقد ضعف هذا القول ، أعني تجويز أن تكون العلة أمرا وراء المذكور ، فإن هذا لو صح لجرى في غيره من المسائل ، كالإيماء ونحوه . ومن العجيب أن جماعة من القائلين بهذا المذهب اعترفوا بصحة السبر والتقسيم وإن لم تقترن به مناسبة ، وهو راجع للطرد ، فإن غايته أن الأوصاف المقارنة للحكم قام الدليل على خروج بعضها عن صلاحية التعليل ، فعلم صحة التعليل بالباقي ، ولا تجد النصف الباقي سوى مقارنته الحكم في الوجود مع انتقاء الظفر بدليل انتفاء صلاحيته للتعليل ، وذلك مجرد طرد لا عكس فيه ، واذا كان السبر والتقسيم لا يدل إلا على اقتران الحكم بالوصف وجودا علم أن من أخذ به وأنكر الطرد والعكس كمن أخذ بالمقدمة الواحدة وأنكر دلالة المقدمتين ، وكمن أخذ بالكثرة في الألف وأنكرها في الألفين .
التفريع :
إن اعتبرناه فشرط ابن القطان في صحته أن يصح اقتضاؤه من الأصل ، كالشدة المطربة في الخمر . قال : وكان بعض أصحابنا إذا لم تقم الدلالة على أن التحريم والتحليل كان لأجله لم يكن دالا على صحة العلية ، لأن العلية هي الموجبة للحكم ، فلا يجوز أن يكون الفرع دالا على الأصل . قال : وكان يقول : اختلف أصحابنا في أبو بكر الصيرفي ؟ على مذاهب : الجريان هل هو دال على صحة العلية أم لا
أحدها : أنه دال عليها .
والثاني : أنه بانفراده لا يكون علة حتى لا تدفعه الأصول ، فإن دفعته لم يكن علة .
والثالث : أنه علة حتى يقوم دليل على صحته . قال : ولا فرق بين الأول والثاني . [ ص: 312 ] وقال غيره : إنه يفيد ظن علية المدار للدائر بشروط ثلاثة :
الأول : أن لا يكون المدار مقطوعا بعدم عليته ، كالرائحة الفائحة للخمر ، فإنا نقطع بأنها ليست علة للحرمة .
الثاني : أن يكون المدار متقدما على الدائر ، بحيث أن يقال : وجد الدائر فحينئذ لا يرد دوران المتضايفين ولا دوران الوصف مع الحكم ، لأن أحد المتضايفين ليس مقدما على الآخر ، ولا الحكم على الوصف .
الثالث : أن لا يقطع بوجود مزاحم يلزم من كون المدار علة إلغاؤه بالكلية ، فحينئذ لا يرد أجزاء العلة ، لأنه وإن كان المعلول كما دار مع العلة دار مع كل جزء من أجزائها لكن الحكم بأي جزء كان يوجب إلغاء سائر الأجزاء ، أو إلغاء المجموع بالكلية فيوجد لكل جزء مزاحم يمنع من الحكم بعليته ، وهذا بخلاف المجموع ، فإن كون المجموع علة ليس بموجب إلغاء الجزء بالكلية عن اعتبار الثاني ، بل لكل جزء مدخل في التأثير . وأما القائلون بعدم اعتباره فشرطوا شرطين :
أحدهما : أن يكون الوصف غير مناسب ، فإنه متى كان مناسبا كانت العلة صحيحة من جهة المناسبة ، صرح به الغزالي في " شفاء العليل " وإلكيا وابن برهان وغيرهم . قلت : وأما من يدعي القطع فيه فالظاهر أنه يشترط ظهور المناسبة ، ولا يكتفي بالدوران بمجرده ، فإذا انضم المناسبة ارتقى إلى القطع . ثم قال إلكيا : والحق أن الأمارة لا تطرد ولا تنعكس إلا إذا كانت اجتماع الفرع والأصل في مقصود خاص في حكم خاص ، فإن الأحكام إذا تباعد ما حدها لا يتصور أن تكون الأمارة الواحدة جارية فيها على نسق الإطراد والانعكاس ، كقول القائل في الطهارة : إنها وظيفة تشطر في وقت فافتقرت إلى النية ، كالصلاة ، فهذا لا يتصور انعكاسه ، وقد تطرد وتنعكس بعض الأمارات فإنها مجرى الحدود العقلية .
[ ص: 313 ] فالحاصل أن الاطراد والانعكاس من باب الأشباه الظاهرة ومن قبيل تنبيه الشرع على نصبه ضابطا لخاصة فعلقت به . ومما يتنبه له أن ما يوجد الحكم بوجودها وينعدم بعدمها ، كالإحصان ، فليس بتعليل اتفاقا من حيث إن الطرد والعكس إنما كان تعليلا للإشعار باجتماع الفرع والأصل في معنى مؤثر أو مصلحة لا يعلمها إلا الله ، فكان الاطراد من الشارع تنبيها على وجود معنى جملي اقتضى الاجتماع ولا يتحقق ذلك مع وجود المعنى الظاهر ، فإن الإيهام لا ميزان له مع وجود المعنى المصرح به .
الثاني : أن يتجرد الوصف ، فأما إذا انضم إليه سبر وتقسيم قال في " المستصفى " : يكون حينئذ حجة ، كما لو قال : هذا الحكم لا بد [ له ] من علة ، لأنه حدث بحدوث حادث ، ولا حادث يمكن أن يعلل به إلا كذا وكذا ، وقد بطل الكل إلا هذا فهو العلة . ومثل هذا السبر حجة في الطرد المحض ، وإن لم ينضم إليه العكس .
فائدة :
الدور يستلزم المدار والدائر ، فالمدار هو المدعى عليته ، كالقتل الموصوف ، والدائر هو المدعى معلوليته كوجوب القصاص .