التفريع [ على أن قول الصحابي حجة ] إن قلنا أنه حجة فلا يجوز للتابعي مخالفته  ، وللمستدل أن يحتج به  كما يحتج بأخبار الآحاد والأقيسة ، لكنه متأخر عنها في الرتبة . فلا يتمسك بشيء منها إلا عند عدمها ، وفي تقديم القياس عليه  الخلاف السابق . وكذلك القول في " شرع من قبلنا " لا يرجع إليه إلا عند عدم أدلة شرعنا    . وهل يجوز أن يخص به عموم كتاب أو سنة ؟  فيه وجهان لأصحابنا حكاهما الماوردي  والروياني  والشيخ أبو إسحاق  والرافعي  وغيرهم . فلو اختلفوا  قال  الشيخ أبو إسحاق  كان قول المخالفين قبلهم بحجتين تعارضتا ، وبه جزم الرافعي    . قال الشيخ  فيرجح أحد القولين على الآخر بكثرة العدد ، فإن استويا  قدم بالأئمة ، فإن كان في أحدهما الأكثر ، وفي الآخر الأقل ، لكن مع الأقل أحد الأئمة الأربعة تساويا ، فإن استويا في العدد والأئمة ، ومع أحدهما قول الشيخين ففيه وجهان : ( أحدهما ) : أنهما سواء . و ( الثاني ) : ترجيح القول الذي معه أحد العمرين ، لحديث : { اقتدوا باللذين من بعدي   } . ثم ذكر أن الفرق بين اختلاف أقوال الصحابة واختلاف الحديث  في أنه لا يجمع بين أقوال الصحابة بتنزيل المطلق على المقيد ، وتخصيص العام بالخاص ، وتأويل ما يحتمل ، ونحو ذلك ، مما يجمع به بين الأخبار المختلفة . 
 [ ص: 71 ] عن النبي صلى الله عليه وسلم أن جميع الأخبار صادر عن واحد وهو معصوم عليه السلام ، فلا يجوز فيها الاختلاف والتضاد من كل وجه ، فيجمع بينهما مهما أمكن ، حتى لا يكون أحدهما مخالفا للآخر . وإذا لم يمكن ذلك كان الثاني ناسخا للأول . وأما أقوال الصحابة إذا اختلفت  فليست كذلك ، لاختلاف مقاصدهم ، وأن ذلك ليس صادرا عن متكلم واحد . وقال  ابن فورك    : ذهب  الشافعي  في القديم إلى قول الأئمة منهم أو أكثرهم ما لم يكن فيه واحد من الأئمة . ومن قال من أصحابنا بتقليد العالم لمن هو أعلم منه قال به . وهو قول ابن سريج    . وقال الروياني  في أول البحر " : إذا اختلفوا على قولين ، فإن لم يكن فيهم إمام نظر : فإن كانوا في العدد سواء فهما سواء ، وإن اختلف العدد فهل يرجح بكثرة العدد ؟ فعلى قوله في الجديد : لا يرجح ، ويقول ما يوجبه الدليل ، وعلى القديم : يرجح كما في الأخبار . 
وإن كان منهم إمام ، فإن كانوا في العدد سواء فالتي فيها الإمام هل هي أولى ؟ قولان : قال في القديم : نعم ، وقال في الجديد : لا ، وإن اختلف العدد والإمام مع الأقل فهما سواء على كلا القولين ولو اتفقا في العدد ، وفي أحدهما أبو بكر   وعمر  ، فعلى القديم فيه وجهان : ( أحدهما ) : يرجح قول أبي بكر   وعمر  على غيرهما . قال الرافعي    : وينبغي جريان الوجهين فيما لو تعارض الصديق   وعمر  حتى يستويا على وجه ، ويرجح طرف أبي بكر  على غيره . وقال الماوردي    : إذا اختلفوا أخذنا بقول الأكثر ، فإن استويا أخذنا بقول من معه أحد الخلفاء الأربعة ، فإن لم يكن رجعنا إلى الترجيح . 
وقال ابن القطان  من أصحابنا في كتابه : إذا اختلف الصحابة  اختلف قول  الشافعي  في هذه المسألة ، فكان يقول في موضع من اختلاف  علي   وابن مسعود    : إنهما سواء ، وقال في موضع آخر من الجديد : أنه يصير إلى قول  [ ص: 72 ] أبي بكر   وعمر  وعثمان   وعلي  ، لأن النص ورد فيهم : { عليكم بسنتي وسنة الخلفاء   } فدل على مزية قولهم على أهل الفتوى . ثم مثل المسألة بالبيع بشرط البراءة من العيوب فقال : قول الأئمة أولى ، لأن  ابن عمر  باع عبدا بالبراءة فقال المشتري : كان فيه عيب علمته ولم تسمه لي ، فكان عنده أنه يبرأ من ذلك إذا وقف عليه ولم يسمعه ، فقال  عثمان    : إن لم تحلف بالله على هذا لزمك . وإذا كان هذا هكذا فقد صار إلى قول  عثمان  ، وإنما صار إلى القول بالقياس . وعلى هذه القاعدة إذا اختلفت الصحابة أخذنا بقول الأكثر . وذكر في كتاب " اختلاف  علي   وابن مسعود "  أن  عليا  صلى في زلزلة ركعتين ، في كل ركعة ست سجدات . قال ابن القطان    : وإنما سلك في هذين كسلوكه في الأخبار بالترجيح بالكثرة ، ولهذا خرجه على قولين . 
قال  ابن قدامة  في " الروضة " : إذا اختلفت الصحابة على قولين لم يجز للمجتهد الأخذ بقول بعضهم من غير دليل ، خلافا لبعض الحنفية وبعض المتكلمين  أنه يجوز ذلك ما لم ينكر على القائل قوله ، لأن اختلافهم دليل على تسويغ الخلاف والأخذ بكل واحد من القولين ، ولهذا يرجع إلى  معاذ  في ترك رجم المرأة قال : وهذا فاسد ، فإن قول الصحابي لا يزيد على الكتاب والسنة ، ولو تعارض دليلان من كتاب أو سنة  لم يجز الأخذ بواحد منهما بدون الترجيح ، ولا نعلم أن أحد القولين صواب والآخر خطأ ،  [ ص: 73 ] ولا نعلمه إلا بدليل . وإنما يدل اختلافهم على تسويغ الاجتهاد في كلا القولين ، أما على الأخذ بدون مرجح فكلا . وأما رجوعهم إلى قول  معاذ  فلأنه بان له الحق بدليله فيرجع إليه . 
انتهى . تنبيه قال  الشافعي    : أقول بقول الأئمة أبي بكر   وعمر  وعثمان  ، وسكت عن  علي  ، فرد عليه  داود  وقال : ما باله ترك  عليا  ، وليس بدون من رضيه في هذا ، قال ابن القطان    : ولا نظن  بالشافعي  الإعراض عن أمير المؤمنين علي  ، وله في هذا مقاصد : منها : أنه ترك ذكره اكتفاء ، لأنهم معلومون ببعضهم ، فنبه على البعض : ولهذا قال في بعض المواضع : أبو بكر   وعمر    . ومنها : أنه قصد بذلك الرد على  مالك  ، لأنه يخالفه في هذه المسألة ، فقال أقول بقول الأئمة . . . إلى آخره ، لأن كلامه على من كان بالمدينة    . ويشهد لهذا التأويل قول  الشافعي  في اختلاف الحديث " : أقول بقول الأئمة أبي بكر   وعمر  وعثمان   وعلي    . 
فدل على ما سبق . ومنها : أن الكلام على ظاهره ، وأراد الثلاثة في صورة ، وهي ما إذا انفردوا وكان علي حاضرا وسائر أصحابه ، وسكتوا عما حكموا به وأفتوا صار إجماعا . وحينئذ فيصار إلى قولهم ، لأن  عليا  موافق في المعنى . وليس كذلك أمر  علي  بالكوفة  ، إنما كان بحضرته من يأخذ عنه ، فلم يكن في سكوتهم له حجة . قال ابن القطان    : والأشبه الوجه الأول ، وهو أن يكون ترك ذلك اكتفاء . وكذلك قال ابن القاص  في التلخيص " . وقال  [ ص: 74 ] السنجي  في شرحه " : إنه الأصح أنه ذكر المعظم وأراد الكل قال : ومن أصحابنا من [ قال ] لا يرجح بقول  علي  كما لا يرجح بقول غيره من الخلفاء . 
والفرق بينهما بذكر ما سبق ، إذا لم يكن قوله صادرا عن رأي الكافة ، بخلاف من قبله . تنبيه آخر حاصل الخلاف في اختلاف الصحابة ثلاثه أقوال : - سقوط الحجة وأنه لا يعتمد قول منها . - التخيير فيأخذ بقول من شاء منهم ، وحكاه  ابن عبد البر  عن القاسم بن محمد   وعمر بن عبد العزيز  ، وعزاه بعضهم  لأبي حنيفة    . والثالث : أنه يعدل إلى الترجيح ، ونص عليه  الشافعي  في " الرسالة " فقال : نصير منها إلى ما وافق الكتاب أو السنة أو الإجماع ، أو كان أصح في القياس ، وهو الأصح وقول الجمهور . واحتج  ابن عبد البر  باتفاق الصحابة على تخطئة بعضهم بعضا ، ورجوع بعضهم إلى قول غيره عند مخالفته إياه ، وهو دليل على أن اختلافهم عندهم خطأ وصواب . وقال  أبو سعيد الإصطخري  في كتاب أدب القضاء " : وإذا كان من الصحابة خلاف في المسألة لم يجز لمن بعدهم الخروج عن أقاويلهم ، لأنه محال أن يخرج الحق عن جميعهم ، أو يشمل الخطأ كلهم . وقيل : يجوز الخروج عن أقوالهم . وقيل : يتخير من غير دليل . انتهى . 
ولعله فرعه على القول بأنه حجة ثم قال : وإذا حكى القول في حادثة عن واحد من الصحابة وتظاهر واشتهر ولم يخالف  فحكمه حكم الإجماع ، لعدم النكير منهم . وإذا  [ ص: 75 ] نقل الثقات عن واحد منهم قولا غير منتشر في جميعهم ولم يرو عن واحد منهم وفاقه لا خلافه فقد اختلف فيه . والواجب عندنا المصير إليه ، لأنه في المعنى راجع إلى أن العصر قد انخرم والحق معدوم ، وهذا مع اختصاص الصحابة بمشاهدة الرسول ومعرفة الخطاب منه ، إذ الشاهد يعرف بالحال ما يخفى على من بعده . انتهى . فائدة : قال ابن عبد السلام  في فتاويه الموصلية : إذا صح عن بعض الصحابة مذهب في حكم من الأحكام لم يجز مخالفته إلا بدليل أوضح من دليله ، ولا يجب على المجتهدين تقليد الصحابة في مسائل الخلاف  ، ولا يحل لهم ذلك مع ظهور أدلتهم على أدلة الصحابة ، لأن الله تعالى أمرنا باتباع الأدلة ولم يوجب تقليد العلماء إلا على العامة الذين لا يعرفون أدلة الأحكام . 
فائدة أخرى : ذكر  الخطيب البغدادي  في كتاب الفقيه والمتفقه " عن  الشافعي  أنه قال : إذا جاء اختلاف عن الصحابة نظر أتبعهم للقياس إذا لم يوجد أصل يخالفه . فقد خالف  علي   عمر  في ثلاث مسائل القياس فيها مع  علي  ، وبقوله أخذ . - منها : المفقود ، قال  عمر    : يضرب له أجل أربع سنين ثم تعتد ، ثم تنكح . وقال  علي    : لا تنكح أبدا . وقد اختلف فيه عن  علي  حتى يصح موت أو فراق . - وقال  عمر  في الرجل يطلق امرأته في سفره ثم يرتجعها فيبلغها الطلاق ، ولا تبلغها الرجعة حتى تحل وتنكح    : أن زوجها الآخر أولى إذا دخل بها  [ ص: 76 ] وقال  علي    : هي للأول أبدا ، وهو أحق بها . - وقال  عمر  في الذي ينكح المرأة في العدة ويدخل بها    : أنه يفرق بينهما ثم لا ينكحها أبدا . وقال  علي    : ينكحها بعده . 
				
						
						
