مسألة باتفاق ، كذا قالوا ، لكن منعه غير المجتهد يجوز له تقليد المجتهد الحي ، وروى بسنده إلى ابن حزم الظاهري رضي الله عنه النهي عن تقليد الأحياء لأنه لا يؤمن عليه الفتنة ، قال : وإن كان [ لا ] محالة مقلدا فليقلد الميت . انتهى . فإن قلد ميتا ففيه مذاهب : أحدها : وهو الأصح وعليه أكثر أصحابنا كما قاله ابن مسعود الروياني ، الجواز ، وقد قال : المذاهب لا تموت بموت أربابها ، ولا بفقد أصحابها ، وربما حكي فيه الإجماع ، وأيده الشافعي الرافعي بموت الشاهد بعدما يؤدي شهادته عند الحاكم ، فإن شهادته لا تبطل .
قلت : ولقوله صلى الله عليه وسلم : { أبي بكر وعمر } وقوله : { اقتدوا باللذين [ ص: 349 ] من بعدي بأيهم اقتديتم اهتديتم } ، ولهذا يعتد بأقوالهم بعد موتهم في الإجماع والخلاف . واحتج الأصوليون عليه بانعقاد الإجماع في زماننا ، على جواز العمل بفتاوى الموتى ، والإجماع حجة . قال الهندي : وهذا فيه نظر ، لأن الإجماع إنما يعتبر من أهل الحل والعقد ، وهم المجتهدون ، والمجمعون ليسوا مجتهدين فلا يعتبر إجماعهم بحال ، أو نقول بعبارة أخرى ، إنما يعتبر اتفاقهم على جواز إفتاء غير المجتهد ، فلو أثبت جواز إفتائه بهذا لزم الدور . انتهى . والظاهر أن المراد إجماع المجتهدين قاطبة . ثم قال : والأولى في ذلك التمسك بالضرورة ، فإنا لو لم نجوز ذلك ، لأدى إلى فساد أحوال الناس ، وهذا شيء سبقه إليه الرافعي وغيره ، فقالوا : لو منعنا من تقليد الماضين ، لتركنا الناس حيارى ، وقضيته أن الخلاف يجري وإن لم يكن في العصر مجتهد ، وذلك هو صريح قول المحصول " : " إنه لا يجتهد اليوم " ، مع قوله قبله " لا يقلد الميت " .
وهذا بعيد جدا ، وإنما الخلاف ، فيما إذا كان في القطر مجتهد ومجتهدون : فمن قائل موت المجتهد لا يميت قوله ، فكأنه أحد الأحياء ، فيقلد ، ولا ينعقد الإجماع بخلاف قوله ، ومن قائل ، بل يبطل قوله ، ويتعين الأخذ بقول الحي ، وقد كان يمكن أن يفصل بين أن يكون الميت أرجح من الحي ، فلا يترك قوله ، لا سيما إذا أوجبنا تقليد الأعلم ، أو يفصل بين أن يطلع المجتهد الحي على مأخذ الميت ثم يخالفه ، فلا يقلد الميت حينئذ ، أو لا يطلع فيقلد ، فيه نظر واحتمال . والثاني : المنع المطلق ، إما لأنه ليس من أهل الاجتهاد ، كمن تجدد فسقه بعد عدالته لا يبقى حكم عدالته ، وإما لأن قوله وصفه ، وبقاء الوصف مع زوال الأصل محال ، وإما لأنه لو كان حيا لوجب عليه تجديد الاجتهاد ، وعلى تقدير تجديده ، لا يتحقق بقاؤه على القول الأول ، فتقليده بناء على [ ص: 350 ] وهم أو تردد ، والقول بذلك غير جائز . وهذا الوجه نقله عن ابن حزم القاضي . قال : ولا نعلم أحدا قاله قبله . ونصره المعتزلي في كتاب النكت " وحكى ابن الفارض الغزالي في المنخول " فيه إجماع الأصوليين . وقال الروياني في البحر " : إنه القياس ، واختاره صاحب المحصول " فيه فقال : اختلفوا في ؟ فنقول : لا يخلو إما أن يحكي عن ميت أو عن حي ، فإن حكى عن ميت ، لم يجز له الأخذ بقوله ، لأنه لا قول للميت ، بدليل أن الإجماع لا ينعقد مع خلافه حيا ، وينعقد مع موته ، وهذا يدل على أنه لم يبق له قول بعد موته . فإن قلت : لم صنفت كتب الفقه مع فناء أصحابها ؟ غير المجتهد ، هل يجوز له الفتوى بما يحكيه عن المفتين قلت : لفائدتين : ( إحداهما ) : استبانة طرق الاجتهاد من تصرفهم في الحوادث ، وكيف بني بعضها على بعض .
( والثانية ) : معرفة المتفق عليه من المختلف ، فلا يفتى بغير المتفق عليه . ثم قال : ولقائل أن يقول : إذا كان الراوي عدلا ثقة متمكنا من فهم كلام المجتهد الذي مات ، ثم روى للعامي قوله حصل للعامي ظن صدقه ، ثم إذا كان المجتهد عدلا ثقة عالما ، فذلك يوجب ظن صدقه في تلك الفتوى ، فحينئذ يتولد من هاتين الطبقتين للعامي أن حكم الله نفس ما روى له هذا الراوي الحي عن ذلك المجتهد الميت ، والعمل بالظن واجب ، فوجب أن يجب على العامي العمل بذلك ، وأيضا فقد انعقد الإجماع في زماننا هذا على جواز العمل بهذا النوع من الفتوى ، لأنه ليس في هذا الزمان مجتهد ، والإجماع حجة .
[ ص: 351 ] قال النقشواني : في قول الإمام : " ليس في الزمان مجتهد " مع قوله : " انعقد الإجماع " مناقضة ، وقد سلم في المنتخب " منها ، ولم يقل فيه أنه لا يجتهد في زمننا . واختصره صاحب التحصيل " ، إلا أنه لم يقل : والإجماع حجة ، ولكن قال : وانعقد الإجماع في زماننا ، وكل ذلك سعي في دفع التناقض ، والذي فعله في المنتخب " ، هو الذي فعله صاحب الحاصل " تلميذ الإمام ، وهو أعرف أصحابه بكلامه . فقال : وأيضا فقد انعقد الإجماع في زماننا على جواز ، والإجماع حجة ، وتبعه العمل بفتاوى الموتى فقال في المنهاج " : واختلف في تقليد الميت ، والمختار جوازه للإجماع عليه في زماننا . فهؤلاء الذين تصرفوا في كلام البيضاوي الإمام بالزيادة والنقصان ، والذين نقلوا كلامه ، اعترضوا عليه بالمناقضة كالنقشواني ، والذي يدفع التناقض ، أن قول الإمام : لا مجتهد في الزمان لا يعارضه قوله " انعقد الإجماع في زماننا " ، لأن المعنى به إجماع السابقين على حكم أهل هذا الزمان فيه ، كما أنا نحكم الآن على أهل الزمان الذي تندرس فيه أعلام الشريعة ، وقد عقد إمام الحرمين في الغياثي " بابا عظيما في ذلك ، وفيه وجه آخر سيأتي . والثالث : الجواز بشرط فقد الحي ، وجزم إلكيا وابن برهان . والرابع : التفصيل بين أن يكون الناقل له أهل للمناظرة ، مجتهدا في ذلك المجتهد الذي يحكى عنه ، فيجوز ، وإلا فلا قاله الآمدي والهندي ، ويمكن أن يكون هذا مأخوذا من وجه حكاه الرافعي في مسألة ما إذا عرف العامي مسألة ، أو مسائل بدلائلها ، أنه إن كان الدليل نقليا جاز ، أو قياسيا فلا ، وعلى هذا فينبغي للهندي أن يقيد تفصيله بما إذا كان المنقول قياسيا ، وأن لا يجوزه إذا كان نقليا ، لكنه مخالف للمذهب الصحيح ، فإن الصحيح أنه لا يجوز تقليده ولا فتياه مطلقا ، لأنه بهذا القدر من المعرفة لا يخرج عن كونه عاما ، والظاهر أن الهندي إنما أخذ تفصيله ، من بناء الأصحاب جواز .
[ ص: 352 ] فتيا متبحر المذهب بمذهب الميت على جواز تقليد الميت ، فإن فرض أن الناقل بحيث لا يوثق بنقله فهما ، وإن وثق به نقلا تطرق عدم الوثوق بفهمه إلى عدم الوثوق بنقله ، وصار عدم قبوله لعدم حجة المذهب المنقول إليه ، لا لأن الميت لا يقلد ، فليس التفصيل واقفا ، غير أن عذر الهندي أنه لم يعقد المسألة لتقليد الميت ، كما فعل الإمام . تنبيهان الأول قيل : الخلاف هنا مخرج من الخلاف في إعادة الاجتهاد عند حدوث الحادثة مرة أخرى .
الثاني قيد بعضهم الخلاف في هذه المسألة ، بما إذا كان في العصر مجتهد أو مجتهدون ، فإن لم يكن فلا خلاف في تقليد الميت ، لئلا تضيع الشريعة ، قال : وإطلاق من أطلق محمول عليه . إنما النظر في شيئين : أحدهما : إذا لم يخل عن مجتهد ، ففي ظن كثير من الناس أنه يقلد الميت حينئذ ، والمنقول عن الغزالي ، وابن عبد السلام ، أنه يجب تقليد مجتهد العصر ، ولا يجوز تقليد الميت ، وبهذا تبين أنه لا يمكن الإجماع على تقليد الموتى إلا من غير المجتهدين ، فاجتمع قول الإمام : " انعقد الإجماع " وقوله : " لا مجتهد في الزمان " ، إذا تبينا أنه لو كان في الزمان مجتهد ، لم ينعقد الإجماع على تقليد ، بل إما أن تختلف في ذلك إن كان في تقليد الميت عند [ ص: 353 ] وجود مجتهد حي خلاف ، وإما أن يتفق على أن الميت لا يقلد حينئذ للاستغناء عنه بالمجتهد الحي ، وهذه طريقة الغزالي ، وابن عبد السلام . وثانيهما : إذا خلا عن مجتهد ، ونقل عن المجتهدين ناقلون ، هل يؤخذ بنقل كل عدل ، أم لا يؤخذ إلا بنقل عارف مجتهد في مذهب من ينقل عنه ؟ هذا موضع الخلاف .
وقول الإمام : " فتيا غير المجتهد بقول الميت لا يجوز " ، إن أراد روايته ، فهي مقبولة قطعا إذا كان عدلا ، وأما العمل بالمروي ، فإن كان حيا فلا شك في جوازه ، وإن كان ميتا فهي مسألة تقليد الميت . ولا يخفى أن محل هذا إذا كان ناقلا محضا عن نص ، أما إذا كان مخرجا فليس مما نحن فيه ، لأن العامي الصرف لا قدرة له على التخريج ، فلا يمكنه ، فعلى هذا فالخلاف في الناقل المحض ، والذي رجحه الهندي أنه لا يؤخذ إلا بنقل مجتهد في المذهب ، قادر على النظر في المناظرة ، ورجح غيره أنه يؤخذ بنقل كل عدل ، ولا يخفى في أن ذلك عند التعارض في النقل . .