القول في الدور    : مسائل الدور هي : التي يدور تصحيح القول فيها إلى إفساده ، وإثباته إلى نفيه . وهي : حكمي ، ولفظي ، فالأول : ما نشأ الدور فيه من حكم الشرع والثاني : ما نشأ من لفظة يذكرها الشخص . وأكثر ما يقع الدور في مسائل الوصايا والعتق ونحوها . وقد أفرد فيها  الأستاذ أبو منصور البغدادي  كتابا حافلا ، وأفرد كتابا فيما وقع منه في سائر الأبواب . 
وها أنا أورد لك منه نظائر ، مفتتحا بمسألة الطلاق المشهورة ، مسألة : قال لها : إن ، أو إذا ، أو متى ، أو مهما طلقتك ، فأنت طالق قبله ثلاثا ، ثم طلقها .  فثلاثة أوجه : أحدها : لا يقع عليها طلاق أصلا ، عملا بالدور وتصحيحا له ; لأنه لو وقع المنجز لوقع قبله ثلاث ، وحينئذ فلا يقع المنجز للبينونة . وحينئذ : لا يقع الثلاث لعدم شرطه ، وهو التطليق . 
والثاني : يقع المنجز فقط . 
والثالث : يقع ثلاث تطليقات : المنجزة ، وطلقتان من المعتق إن كانت مدخولا بها . 
 [ ص: 381 ] واختلف الأصحاب في الراجح من الأوجه ، فالمعروف عن ابن سريج    : الوجه الأول وهو أنه لا يقع الطلاق ، وبه اشتهرت المسألة " بالسريجية " ، وبه قال ابن الحداد   والقفالان  ، والشيخ  أبو حامد   والقاضي أبو الطيب  ، والروياني  ، والشيخ أبو علي  ، والشيخ  أبو إسحاق الشيرازي  ، والغزالي  وعن  المزني  أنه قال به في كتاب المنثور ، وحكاه صاحب الإفصاح عن نص  الشافعي  وأنه مذهب  زيد بن ثابت  ورجح الثاني ابن القاص  ، وأبو زيد  وابن الصباغ  ، والمتولي  ، والشريف ناصر العمري  ، ورجع إليه الغزالي  آخرا قال الرافعي    : ويشبه أن تكون الفتوى به أولى ، وصححه في المحرر ، وتابعه النووي  في المنهاج ، وتصحيح التنبيه . 
وقال الإسنوي  في التنقيح ، والمهمات في الوجه الأول : إذا كان صاحب مذهبنا قد نص عليه ، وقال به أكثر الأصحاب ، خصوصا : الشيخ أبو حامد  شيخ العراقيين  والقفال    : شيخ المراوزة ، كان هو الصحيح ونقله أيضا في النهاية عن معظم الأصحاب ونصره السبكي  أولا ، وصنف فيه تصنيفين ، ثم رجع عنه وأكثر ما رد به : أن فيه باب الطلاق ، وليس بصحيح ، فإن الحيلة فيه حينئذ : أن يوكل وكيلا يطلقها ، فإنه يقع ، ولا يعارضه المعلق ، بلا خلاف ; لأنه لم يطلقها وإنما وقع عليها طلاقه ، فإن عبر بقوله : إن وقع عليك طلاقي ،  استوت الصورتان ، وذكر ابن دقيق العيد    : أن الحيلة في حل الدور : أن يعكس ، فيقول : كلما لم يقع عليك طلاقي ، فأنت طالق قبله ثلاثا  ، فإذا طلقها وجب أن يقع الثلاث ; لأن الطلاق القبلي - والحالة هذه - معلق على النقيضين ، وهو الوقوع وعدمه وكل ما كان لازما للنقيضين ، فهو واقع ضرورة . ويشبهه قولهم في الوكالة : كلما عزلتك ، فأنت وكيلي .  نفاذ العزل : أن يقول : كلما عدت وكيلي ، فأنت معزول  ، ثم يعزله . ذكر نظائر هذه المسألة : قال : إن آليت منك ، أو ظاهرت منك ، أو فسخت بعيبك ; أو لاعنتك ، أو راجعتك فأنت طالق قبله ثلاثا  ، ثم وجد المعلق به : لم يقع الطلاق وفي صحته الأوجه . 
 [ ص: 382 ] قال : إن فسخت بعيني أو إعساري ، أو استحقيت المهر بالوطء ، أو النفقة ، أو القسم ، فأنت طالق قبله ثلاثا  ، ثم وجد نفذ الفسخ ، وثبت الاستحقاق ، وإن ألغينا الطلاق المنجز ; لأن هذه فسوخ وحقوق تثبت قهرا ، ولا تتعلق بمباشرته واختياره فلا يصلح تصرفه دافعا لها ، ومبطلا لحق غيره قال : إن وطئتك وطئا مباحا فأنت طالق قبله  ، ثم وطئ لم تطلق قطعا إذ لو طلقت : لم يكن الوطء مباحا ، وليس هنا سد باب الطلاق قال : متى وقع طلاقي على حفصة فعمرة طالق قبله ثلاثا ، ومتى وقع طلاقي على عمرة فحفصة طالق قبله ثلاثا ثم طلق إحداهما  لم تطلق هي ولا صاحبتها ، فلو ماتت عمرة ثم طلق حفصة طلقت ; لأنه لا يلزم حينئذ من إثبات الطلاق نفيه . 
قال زيد لعمرو : متى وقع طلاقك على امرأتك فزوجتي طالق قبله ثلاثا وقال عمرو لزيد مثل ذلك  ، لم يقع طلاق كل واحد على امرأته مادام زوجة الآخر في نكاحه . 
قال لها : متى دخلت وأنت زوجتي فعبدي حر قبله وقال لعبده : متى دخلت وأنت عبدي ، فامرأتي طالق قبله ثلاثا ، ثم دخلا معا  لم يعتق ولم تطلق . 
قال الإمام    : ولا يخالف أبو زيد  في هذه الصورة ; لأنه ليس فيه سد باب التصرف قال له : متى أعتقتك فأنت حر قبله ثم أعتقه  فعلى الثاني : يعتق وعلى الأول لا قال : إن بعتك ، أو رهنتك فأنت حر قبله ، فباعه  فعلى الثاني : يصح ، ولا عتق ، وعلى الأول : لا قال لغير مدخول بها : إن استقر مهرك علي فأنت طالق قبله ثلاثا ، ثم وطئ    . 
فعلى الأول : لا يستقر المهر بهذا الوطء ; لأنه لو استقر بطل النكاح قبله ، وإذا بطل النكاح سقط نصف المهر ، وعلى الثاني يستقر ولا تطلق قال : أنت طالق ثلاثا قبل أن أخالعك بيوم على ألف تصح لي ثم خالعها على ألف    . 
فعلى الأول : لا يصح الخلع ، وعلى الثاني يصح ، ويقع ولا يقع الطلاق المعلق ، قال : إن وجبت علي زكاة فطرك ، فأنت حر وطالق قبل وجوبها  فعلى الأول : لا تجب زكاة فطره وفطرها وعلى الثاني : تجب ; ولا يعتق ولا تطلق ذكره  الأستاذ أبو منصور    . 
				
						
						
