المثال الثالث : مفسدة مكروهة ، فإن لم يجد غيره وجب استعماله لأن تحصيل مصلحة الواجب ، أولى من دفع مفسدة المكروه ، لأن تحمل مشقة المكروه ، أولى من تحمل مفسدة تفويت الواجب . فإن قيل هلا حرمتم استعمال الماء المشمس لما فيه من الأضرار بإفساد الأجساد ، والرب سبحانه وتعالى لا يحب الفساد ولا أهل الفساد ؟ قلنا أسباب الضرر أقسام : - أحدها استعمال الماء المشمس ، إلا أن يقع معجزة لنبي أو كرامة لولي ; كالإلقاء في النار وشرب السموم المذففة ، والأسباب الموجبة ، فهذا ما لا يجوز الإقدام عليه في حال اختيار ولا في حال إكراه ; إذ لا يجوز للإنسان قتل نفسه بالإكراه ، ولو أصابه مرض لا يطيقه لفرط ألمه لم يجز قتل نفسه ، كما لا يجوز الإقدام على الزنا واللواط بشيء من أسباب الإكراه ، ولو ما لا يختلف مسببه عنه ; فالأصح أنه لا يلزمهم الصبر على ذلك ، إذ استوت مدتا الحياة في الإحراق والإغراق ، لأن إقامتهم في النار سبب مهلك لا انفكاك عنه . وقع بركبان السفينة نار لا يرجى الخلاص منها فعجزوا عن الصبر على تحملها مع العلم بأنه لا نجاة لهم من آلامها إلا بالإلقاء في الماء المغرق
وكذلك إغراق أنفسهم في الماء لا انفكاك عنه ، وإنما يجب الصبر على شدة الآلام إذا تضمن الصبر على شدتها بقاء الحياة ، [ ص: 100 ] وههنا لا يفيد الصبر على ألم النار شيئا من الحياة فتبقى مفسدة لا فائدة لها .