واعلم أن . السماع يختلف باختلاف السامعين والمسموع منهم ، وهم أقسام
[ ص: 217 ] أحدها العارفون بالله ، ويختلف سماعهم باختلاف أحوالهم فمن غلب ، عليه الخوف أثر فيه السماع عند ذكر المخلوقات وظهرت آثاره عليه من الحزن والبكاء وتغيير اللون .
أحدها : خوف العقاب ، والثاني خوف فوات الثواب ، والثالث خوف فوات الحظ من الأنس والقرب بالملك الوهاب ، وهذا من أفضل الخائفين وأفضل السامعين ، فمثل هذا لا يتصنع في السماع ، ولا يصدر عنه إلا ما غلب عليه من آثار الخوف لأن الخوف وازع عن التصنع والرياء ، وهذا إذا سمع القرآن كان تأثيره فيه أشد من تأثير النشيد والغناء . والخوف على أقسام
والقسم الثاني : من غلب عليه الرجاء فهذا يؤثر فيه السماع عند ذكر المطمعات والمرجيات ; فإن كان رجاؤه للأنس والقرب كان سماعه أفضل سماع الراجين ، وإن كان رجاؤه للثواب فهذا في الرتبة الثانية ، وتأثير السماع في الأول أشد من تأثيره في الثاني .
القسم الثالث : من غلب عليه الحب وهو قسمان : أحدهما من أحب الله لإنعامه عليه وإحسانه إليه فهذا يؤثر فيه سماع الإنعام والإفضال والإحسان والإكرام .
والقسم الثاني : من غلب عليه حب الله لشرف ذاته وكمال صفاته فهذا يؤثر فيه ذكر شرف الذات وكمال الصفات ، ويشتد تأثيره فيه عند ذكر الإقصاء والإبعاد ، وهو أفضل من الذي قبله ، لأن سبب حبه أفضل الأسباب .
القسم الرابع : من غلب عليه التعظيم والإجلال فهذا أفضل من الأقسام الثلاثة إذ لا حظ له في سماعه لنفسه ، فإن النفس تتضاءل وتتصاغر للتعظيم والإجلال ، فلا حظ لنفسه في هذا السماع بخلاف من تقدم ذكره من الأقسام [ ص: 218 ] فإنهم واقفون مع ربهم من وجه ، ومع أنفسهم من وجه أو وجوه وشتان بين ما خلص لله ، وبين ما شاركته فيه النفوس ، فإن المحب ملتذ بجمال محبوبه وهو حظ نفسه ، والهائب ليس كذلك .
وتختلف أحوال هؤلاء في المسموع منه ، فالسماع من الأولياء ، أشد تأثيرا من السماع من الجهلة الأغبياء ، والسماع من الأنبياء أشد تأثيرا من السماع من الأولياء والسماع من رب الأرض والسماء أشد تأثيرا من السماع من الأنبياء لأن كلام المهيب أشد تأثيرا في الهائب من كلام غيره ، كما أن كلام الحبيب أشد تأثيرا في المحب من كلام غيره . ولهذا لم يشتغل الأنبياء والصديقون وأصحابهم بسماع الملاهي والغناء واقتصروا على كلام ربهم لشدة تأثيره في أحوالهم ، ولقد غلط كثير من الناس في سماع النشيد وطيب نغمات الغناء من جهة أن أصوات الملاهي وطيب النشيد وطيب نغمات الغناء فيها حظ للنفوس ، وإذا سمع أحدهم شيئا مما يحرك التذت نفسه بأصوات الملاهي ونغمات الغناء وذكره النشيد والغناء بما يقتضيه حاله : من الحب والخوف والرجاء فتثور فيه تلك الأحوال فتلتذ النفوس من وجه مؤثره ، ويؤثر السماع ما يشتمل عليه الغناء من الحب والخوف والرجاء فيحصل الأمران : لذة نفسه ، والتعلق بأوصاف ربه فيظن أن الكل متعلق بالله وهو غالط .
القسم الخامس : من يغلب عليه هوى مباح ، كمن يعشق زوجته وأسريته فهذا يهيجه السماع ويؤثر فيه آثار الشوق وخوف الفراق ورجاء التلاق فيطرب لذلك ، فسماع هذا لا بأس به .
القسم السادس : من يغلب عليه هوى محرم ، كهوى المرد ومن لا تحل له من النساء ، فهذا يهيجه السماع إلى السعي في الحرام وما أدى إلى الحرام فهو حرام .
القسم السابع : من قال لأحد : في نفسي شيء مما ذكرتموه في الأقسام الستة فما حكم السماع في حقي ؟ قلنا هو مكروه ، من وجه أن الغالب على [ ص: 219 ] العامة إنما هو الأهواء الفاسدة ، فربما هاجه السماع على صورة محرمة فيتعلق بها ويميل إليها ولا يحرم عليه ذلك لأنا لا نتحقق السبب المحرم ، وقد بأن سماعهم للأسباب المذكورة في الأقسام الستة وهذا جمع بين المعصية وبين إيهام كونه من الأولياء ، وقد يحضر السماع قوم من الفجرة فيبكون وينزعجون لأسباب خبيثة انطووا عليها ويراءون الحاضرين ، وهذا مراء بأمر غير محرم . يحضر السماع قوم قد فقدوا أهاليهم ومن يعز عليهم ويذكر المنشد فراق الأحبة وعدم الأنس بهم فيبكي أحدهم ويوهم الحاضرين أن بكاءه لأجل رب العالمين
واعلم أنه ليس من أن يشبه غلب المحبة بالسكر من الخمر فإنه سوء أدب ، لأن الخمر أم الخبائث فلا يشبه ما أحبه الله بما أبغضه وقضى بخبثه ونجاسته ، لأن تشبيه النفيس بالخسيس سوء أدب لا شك فيه ، وكذلك التشبيه بالخصر والردف ونحو ذلك من التشبيهات المستقبحات . أدب السماع
ولقد كره بعضهم : أنتم روحي ومعكم راحتي ، وبعضهم : فأنت السمع والبصر ، لأنه شبه ما لا شبيه له بروحه الخسيسة وسمعه وبصره اللذين لا قدر لهما .
ولهم ألفاظ يطلقونها يستعظمها سامعها منها : التجلي وهو عبارة عن العلم والعرفان ، وكذلك المشاهدة ، ومنها الذوق وهو عبارة عن وجدان لذة الأحوال ووقع التعظيم والإجلال ، ومنها : الحجاب وهو عبارة عن الجهل والغفلة والنسيان ، ومنها : قولهم قال لي ربي ، وإنما ذلك عبارة عن القول بلسان الحال دون لسان المقال .
كما قالت العرب : امتلأ الحوض ، وقال قطني ، كذلك قوله : إذا قالت الإشباع للبطن ألحق . ومنها قولهم القلب بيت الرب ، ومعناه القلب بيت معرفة الرب ، شبهوا حلول المعارف بالقلوب بحلول الأشخاص في البيوت ، [ ص: 220 ] ومنها : البيتوتة عند الرب سبحانه في قوله عليه السلام : { } تجوز بالمبيت عن التقرب ، وبالإطعام والسقي عن التقوية بما يقوم مقام الطعام والشراب من السرور والتقريب ، ومنها القرب وهو عبارة عن الأسباب الموجبة لتقريب الإله ، ومنها البعد وهو عبارة عن الأسباب الموجبة للإبعاد ، ومنها المجالسة وهو عبارة عن لذة يخلقها الرب سبحانه وتعالى مجانسة للذة الأنس وبمجالسة الأكابر . إني أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني