فإن قيل ؟ فالجواب أن الناس أقسام : أيما أفضل حال الأغنياء أم حال الفقراء
أحدها : من يستقيم على الغنى وتفسد أحواله بالفقر ، فلا خلاف أن غنى هذا خير له من فقره .
القسم الثاني : من يستقيم على الفقر ويفسده الغنى ويحمله على الطغيان فلا خلاف أن هذا فقره خير من غناه .
القسم الثالث : من إذا افتقر قام بجميع وظائف الفقر كالرضا والصبر ، وإن استغنى قام بجميع وظائف الغنى من البذل والإحسان وشكر الملك الديان ، فقد اختلف في أي حالي هذا أفضل فذهب قوم : إلى أن الفقر لهذا أفضل .
وقال [ ص: 224 ] آخرون : غناه أفضل وهو المختار ، لاستعاذته صلى الله عليه وسلم ، من الفقر ، ولا يجوز حمله على فقر النفس لأنه خلاف للظاهر بغير دليل ، وقد يستدل لهؤلاء لأن الرسول عليه السلام كان أغلب أحواله الفقر إلى أن أغناه الله عز وجل بحصون خيبر وفدك والعوالي وأموال بني النضير .
والجواب عن ذلك أن الأنبياء والأولياء لا يأتي عليهم يوم إلا كان أفضل من الذي قبله ، فإن من استوى يوماه فهو مغبون ومن كان أمسه خيرا من يومه فهو ملعون أي مطرود مغبون ، وقد ختم آخر أمر الرسول صلى الله عليه وسلم ، بالغنى ولم يخرجه غناه عما كان يتعاطاه في أيام فقره من البذل والإيثار والتقلل حتى أنه مات ودرعه مرهونة عند يهودي على آصع من شعير ، وكيف لا يكون كذلك وهو عليه السلام يقول : { آدم إنك إن تبذل الفضل خير لك وإن تمسكه شر لك } أراد بالفضل ما فضل عن الحاجة الماسة كما فعل صلى الله عليه وسلم ، فمن سلك من الأغنياء هذا الطريق فبذل الفضل كله مقتصرا على عيش مثل عيش رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا امتراء بأن غنى هذا خير من فقره . ابن
ويدل على ذلك ما جاء في الحديث عن أنه قال { أبي هريرة } . أتى فقراء المسلمين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا يا رسول الله ذهب ذوو الأموال بالدرجات العلا والنعيم المقيم يعتقون ولا نجد ما نعتق ، ويتصدقون ولا نجد ما نتصدق ، وينفقون ولا نجد ما ننفق ؟ فقال ألا أدلكم على أمر إذا فعلتموه أدركتم به من كان قبلكم وفتم به من بعدكم ؟ قالوا بلى ، قال : تسبحون الله تعالى وتحمدونه وتكبرونه على إثر كل صلاة ثلاثا وثلاثين مرة فلما صنعوا ذلك سمع الأغنياء بذلك فقالوا مثل ما قالوا ، فذهب الفقراء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبروه أنهم قد قالوا مثل [ ص: 225 ] ما قلنا ؟ فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : فذلك فضل الله يؤتيه من يشاء
وأما قوله صلى الله عليه وسلم : { } وقوله عليه السلام : { يدخل فقراء المسلمين الجنة قبل الأغنياء بنصف يوم وهو خمسمائة عام } فإن ذلك محمول على الغالب من أحوال الأغنياء والفقراء ، إذ لا يتصف من الأغنياء بما ذكرناه من أن يعيش عيش الفقراء ويتقرب إلى الله تعالى بما فضل من عيشه مقدما فضل البذل فأفضله ، إلا الشذوذ النادرون الذين لا يكادون يوجدون ، الصابرون على الفقر وقليل ما هم ، والراضون أقل من ذلك القليل . اطلعت على الجنة فرأيت أكثرها الفقراء واطلعت على النار فرأيت أكثرها النساء
ويحقق هذا أنه عليه السلام كان قبل الغنى قائما بوظائف الفقراء فلما أغناه الله قام بوظائف الفقراء والأغنياء ، فكان غنيا فقيرا صبورا شكورا راضيا بعيش الفقراء جوادا بأفضل جود الأغنياء .