( فصل ) أما الحرم فهو ما أطاف بمكة من جوانبها . وحده من طريق المدينة دون التنعيم عند بيوت بني نفار على ثلاثة أميال ، ومن طريق العراق على ثنية جبل بالمنقطع على سبعة أميال ، ومن طريق الجعرانة بشعب آل عبد الله بن خالد على تسعة أميال ، ومن طريق الطائف على عرفة من بطن نمرة على سبعة أميال ، ومن طريق جدة منقطع العشائر على عشرة أميال ، فهذا حد ما جعله الله تعالى حرما لما اختص به من التحريم وباين بحكمه سائر البلاد . قال الله عز وجل : { وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا بلدا آمنا } . يعني مكة وحرمها . [ ص: 209 ] { وارزق أهله من الثمرات } لأنه كان واديا غير ذي زرع ، فسأل الله - تعالى - أن يجعل لأهله الأمن والخصب ليكونوا بهما في رغد من العيش ، فأجابه الله - تعالى - إلى ما سأل ، فجعله حرما آمنا يتخطف الناس من حوله ، وجبا إليه ثمرات كل بلد حتى جمعها فيه .
مكة وما حولها هل صارت حرما آمنا بسؤال إبراهيم عليه السلام أو كانت قبله كذلك على قولين . واختلف الناس في
أحدهما : أنها لم تزل حرما آمنا بسؤال إبراهيم عليه السلام من الجبابرة والمسلطين ومن الخسوف والزلازل ، وإنما سأل إبراهيم عليه السلام ربه سبحانه أن يجعله حرما آمنا من الجدب والقحط وأن يرزق أهله من الثمرات لرواية سعيد عن قال : سمعت أبي سعيد أبا شريح الخزاعي يقول : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما فتح مكة قام خطيبا فقال : { مكة يوم خلق السموات والأرض فهي حرام إلى يوم القيامة لا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك بها دما أو يعضد بها شجرا ، وإنها لا تحل لأحد بعدي ، ولم تحل لي إلا هذه الساعة غضبا على أهلها ، ألا وهي قد رجعت على حالها بالأمس ، ألا ليبلغ الشاهد الغائب ، فمن قال إن رسول الله قد قتل بها أحدا فقولوا إن الله تعالى قد أحلها لرسوله ولم يحلها لك } . أيها الناس إن الله سبحانه حرم
والقول الثاني : أن مكة كانت حلالا قبل دعوة إبراهيم عليه السلام كسائر البلاد وأنها صارت بدعوته حرما آمنا حين حرمها ، كما صارت المدينة بتحريم رسول الله صلى الله عليه وسلم حراما بعد أن كانت حلالا ، لرواية الأشعث عن عن نافع قال قال : رسول الله صلى الله عليه وسلم : [ ص: 210 ] والذي يختص به أبي هريرة الحرم من الأحكام التي تباين بها سائر البلاد خمسة أحكام : أحدها أن الحرم لا يدخله محل قدم إليه حتى يحرم لدخوله إما بحج أو بعمرة يتحلل بها من إحرامه .
وقال يجوز أن يدخلها المحل إذا لم يرد حجا أو عمرة ، وفي قول النبي عليه الصلاة والسلام حين دخل أبو حنيفة مكة عام الفتح حلالا { } مما يدل على وجوب الإحرام على داخلها ، إلا أن يكون ممن يكثر الدخول إليها لمنافع أهلها كالحطابين والسقايين الذين يخرجون منها غدوة ويعودون إليها عشية ، فيجوز لهم دخولها محلين لدخول المشقة عليهم في الإحرام كلما دخلوا فإن علماء أحلت لي ساعة من نهار لم تحل لأحد بعدي مكة أقروهم على دخولها محلين فخالفوا حكم من عداهم ، فإن دخل القادم إليها حلالا فقد أثم ولا قضاء عليه ولا دم ، لأن القضاء متعذر ، فإنه إذا خرج للقضاء كان إحرامه الذي يستأنفه مختصا بدخوله الثاني فلم يصح أن يكون قضاء عن دخوله الأول فتعذر القضاء وأعوز فسقط ، فأما الدم فلا يلزمه لأن الدم يلزم جبران النسك ولا يلزم جبرانا لأصل النسك .
والحكم الثاني أن . فإن بغوا على أهل العدل ، فقد ذهب بعض الفقهاء إلى تحريم قتالهم مع بغيهم ويضيق عليهم حتى يرجعوا عن بغيهم ويدخلوا في أحكام أهل العدل . والذي عليه أكثر الفقهاء أنهم يقاتلون على بغيهم إذا لم يمكن ردهم عن البغي إلا بقتال ; لأن قتال أهل البغي من حقوق الله تعالى التي لا يجوز أن تضاع ، ولأن تكون محفوظة في حرمه أولى من أن تكون مضاعة فيه . لا يحارب أهلها لتحريم رسول الله صلى الله عليه وسلم قتالهم
فأما الحرم فذهب إقامة الحدود في رحمه الله إلى أنها تقام فيه على من أتاها ولا يمنع الشافعي الحرم من إقامتها سواء أتاها في الحرم أو في الحل ثم لجأ إلى الحرم وقال : إن أتاها في أبو حنيفة الحرم أقيمت فيه .
وإن أتاها في الحل ثم لجأ إلى الحرم لم يقم عليه فيه ، وألجئ إلى الخروج معه فإذا خرج أقيمت عليه .
والحكم الثالث الحرم [ ص: 211 ] ومن طرأ إليه ، فإن أصاب في صيده وجب عليه إرساله . فإن تلف في يده ضمنه بالجزاء كالمحرم ، وهكذا لو تحريم صيده على المحرمين والمحلين من أهل الحرم صيدا في الحل ضمنه لأنه قاتل في رمى من الحرم . وهكذا لو الحرم ضمنه لأنه مقتول في رمى من الحل صيدا في الحرم .
ولا صيد في الحل ثم أدخل الحرم كان حلالا له عند رحمه الله ، وحراما عليه عند الشافعي أبي حنيفة . ولا يحرم قتل ما كان مؤذيا من السباع وحشرات الأرض
والحكم الرابع يحرم ، ولا يحرم قطع شجره الذي أنبته الله تعالى كما لا يحرم فيه قطع ما غرسه الآدميون ، ولا يحرم ذبح الأنيس من الحيوان ويضمن رعي خلاه ، ، فيضمن الشجرة الكبيرة ببقرة ، والشجرة الصغيرة بشاة ، والغصن من كل واحد منهما يسقطه من ضمان أصله ، ولا يكون ما استخلف بعد قطع الأصل مسقطا لضمان الأصل . ما قطعه من محظور شجره
الحكم الخامس : أن ليس لجميع من خالف دين الإسلام من ذمي أو معاهد أن يدخل الحرم لا مقيما فيه ولا مارا به ، وهذا مذهب رحمه الله وأكثر الفقهاء . وجوز الشافعي دخولهم إليه إذا لم يستوطنوه ، وفي قوله تعالى : { أبو حنيفة إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا } .
نص يمنع ما عداه ، فإن دخله مشرك عزر إن دخله بغير إذن ، ولم يستبح قتله ، وإن دخله بإذن لم يعزر ، وأنكر على الآذن له ، وعزر إن اقتضت حاله التعزير وأخرج منه المشرك آمنا ، وإذا الحرم ليسلم فيه منع منه حتى يسلم قبل دخوله ، وإذا أراد مشرك دخول الحرم حرم دفنه فيه ودفن في الحل ، فإن دفن في مات مشرك في الحرم نقل إلى الحل إلا أن يكون قد بلي فيترك فيه كما تركت أموات الجاهلية . وأما سائر المساجد فيجوز أن يؤذن لهم في دخولها ما لم يقصد بالدخول استبذالها بأكل أو نوم فيمنعوا . وقال لا يجوز أن [ ص: 212 ] يؤذن لهم في دخولها بحال . مالك