فصل
قال المحرمون للعينة: الدليل على تحريمها من وجوه.
أحدها: أن بل هي من [ ص: 459 ] أقرب وسائله، والوسيلة إلى الحرام حرام، فهنا مقامان. الله تعالى حرم الربا، والعينة وسيلة إلى الربا،
أحدهما: بيان كونها وسيلة.
والثاني: بيان أن الوسيلة إلى الحرام حرام.
فأما الأول: فيشهد له به النقل والعرف والنية والقصد، وحال المتعاقدين.
فأما النقل: فبما ثبت عن " أنه سئل عن رجل باع من رجل حريرة بمائة، ثم اشتراها بخمسين ؟ فقال: دراهم بدراهم متفاضلة، دخلت بينها حريرة ". ابن عباس
وفي كتاب محمد بن عبد الله الحافظ المعروف بمطين، عن أنه قال " اتقوا هذه العينة، لا تبيعوا دراهم بدراهم بينهما حريرة ". ابن عباس:
وفي كتاب أبي محمد النخشبي الحافظ عن " أنه [ ص: 460 ] سئل عن العينة يعني بيع الحريرة ؟ فقال: إن الله لا يخدع، هذا مما حرم الله ورسوله ". ابن عباس
وفي كتاب الحافظ مطين عن " أنه سئل عن العينة - يعني بيع الحريرة - فقال: إن الله لا يخدع، هذا مما حرم الله ورسوله ". أنس
وقول الصحابي " حرم رسول الله كذا، أو أمر بكذا، وقضى بكذا، وأوجب كذا " في حكم المرفوع اتفاقا عند أهل العلم، إلا خلافا شاذا لا يعتد به، ولا يؤبه له.
وشبهة المخالف: أنه لعله رواه بالمعنى، فظن ما ليس بأمر، ولا تحريم كذلك، وهذا فاسد جدا.
فإن الصحابة أعلم بمعاني النصوص، وقد تلقوها من في رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا يظن بأحد منهم أن يقدم على قوله " أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو حرم أو فرض " إلا بعد جزمه بذلك، ودلالة اللفظ عليه، واحتمال خلاف هذا كاحتمال الغلط والسهو في الرواية، بل دونه، فإن رد قوله " أمر " ونحوه بهذا الاحتمال وجب رد روايته لاحتمال السهو والغلط، وإن قبلت روايته: وجب قبول الآخر.
وأما شهادة العرف بذلك: فأظهر من أن تحتاج إلى تقرير، بل قد علم رسول الله صلى الله عليه وسلم وعباده من ذلك من قصدهما أنهما لم يعقدا على السلعة عقدا يقصد به [ ص: 461 ] تملكها، ولا غرض لهما فيها بحال.
وإنما الغرض والمقصود بالقصد الأول: مائة بمائة وعشرين، وإدخال تلك السلعة في الوسط تلبيس وعبث، وهي بمنزلة الحرف الذي لا معنى له في نفسه، بل جيء به لمعنى في غيره، حتى لو كانت تلك السلعة تساوي أضعاف ذلك الثمن، أو تساوي أقل جزء من أجزائه لم يبالوا بجعلها موردا للعقد؛ لأنهم لا غرض لهم فيها، وأهل العرف لا يكابرون أنفسهم في هذا.
وأما النية والقصد: فالأجنبي المشاهد لهما يقطع بأنه لا غرض لهما في السلعة، وإنما القصد الأول مائة بمائة وثلاثين، فضلا عن علم المتعاقدين ونيتهما، ولهذا يتواطأ كثير منهم على ذلك قبل العقد، ثم يحضران تلك السلعة محللا لما حرم الله ورسوله.
وأما المقام الثاني: وهو أن الوسيلة إلى الحرام حرام، فثابت بالكتاب والسنة والفطرة والمعقول.
فإن الله سبحانه مسخ اليهود قردة وخنازير لما توسلوا إلى الصيد الحرام بالوسيلة التي ظنوها مباحة.
وسمى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والتابعون مثل ذلك مخادعة، كما تقدم.
وقال " يخادعون الله كما يخادعون الصبيان، لو أتوا الأمر على وجهه كان أسهل ". أيوب السختياني
والرجوع إلى الصحابة في معاني الألفاظ متعين، سواء كانت لغوية، أو شرعية، والخداع حرام.
[ ص: 462 ] وأيضا: فإن هذا العقد يتضمن إظهار صورة مباحة، وإضمار ما هو من أكبر الكبائر، فلا تنقلب الكبيرة مباحة بإخراجها في صورة البيع الذي لم يقصد نقل الملك فيه أصلا، وإنما قصد حقيقة الربا.
وأيضا فإن الطريق متى أفضت إلى الحرام، فإن الشريعة لا تأتي بإباحتها أصلا؛ لأن إباحتها وتحريم الغاية جمع بين النقيضين، فلا يتصور أن يباح شيء، ويحرم ما تفضي إليه، بل لا بد من تحريمهما، أو إباحتهما، والثاني باطل قطعا فيتعين الأول.
وأيضا: فإن فكيف يتصور مع هذا - أن يبيح هذا الفساد العظيم بأيسر شيء يكون من الحيل ؟ فيالله العجب، أترى هذه الحيلة أزالت تلك المفسدة العظيمة، وقلبتها مصلحة، بعد أن كانت مفسدة ؟ الشارع إنما حرم الربا، وجعله من الكبائر، وتوعد آكله بمحاربة الله ورسوله، لما فيه من أعظم الفساد والضرر،
وأيضا: فإن الله سبحانه عاقب أهل الجنة الذين أقسموا ليصرمنها مصبحين، وكان مقصودهم منع حق الفقراء من المتساقط وقت الجذاذ، فلما قصدوا منع حقهم منعهم الله الثمرة جملة.
ولا يقال: فالعقوبة إنما كانت على رد الاستثناء وحده لوجهين.
[ ص: 463 ] أحدهما: أن وترك الاستثناء عقوبته أن يعوق وينسى، لا إهلاك ماله، بخلاف عقوبة ذنب الحرمان، فإنها حرمان كالذنب. العقوبة من جنس العمل،
الثاني: أن الله تعالى أخبر عنهم أنهم قالوا أن لا يدخلنها اليوم عليكم مسكين .
ورتب العقوبة على ذلك، فلو لم يكن لهذا الوصف مدخل في العقوبة لم يكن لذكره فائدة، فإن لم يكن هو العلة التامة كان جزءا من العلة.
وعلى التقديرين يحصل المقصود.
وأيضا فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " الأعمال بالنيات"، والمتوسل بالوسيلة التي صورتها مباحة إلى المحرم إنما نيته المحرم، ونيته أولى به من ظاهر عمله ".
وأيضا: فقد روى ابن بطة وغيره بإسناد حسن عن أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " أبي هريرة لا ترتكبوا ما ارتكب اليهود، فتستحلوا محارم الله بأدنى الحيل "، وإسناده مما يصححه الترمذي.
وأيضا: فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال " " [ ص: 464 ] و"جملوها" يعني أذابوها وخلطوها، وإنما فعلوا ذلك ليزول عنها اسم الشحم، ويحدث لها اسم آخر، وهو الودك، وذلك لا يفيد الحل، فإن التحريم تابع للحقيقة وهي لم تتبدل بتبدل الاسم. لعن الله اليهود حرمت عليهم الشحوم فجملوها وباعوها وأكلوا أثمانها
وهذا الربا تحريمه تابع لمعناه وحقيقته، فلا يزول بتبدل الاسم بصورة البيع، كما لم يزل تحريم الشحم بتبديل الاسم بصورة الجمل والإذابة، وهذا واضح بحمد الله.
وأيضا: فإن القوم لم ينتفعوا بعين الشحم، إنما انتفعوا بثمنه، فيلزم من وقف مع صور العقود والألفاظ، دون مقاصدها وحقائقها أن يحرم ذلك؛ لأن الله تعالى لم ينص على تحريم الثمن وإنما حرم عليهم نفس الشحم، ولما لعنهم على استحلالهم الثمن، وإن لم ينص على تحريمه دل على أن الواجب النظر إلى المقصود، وإن اختلفت الوسائل إليه، وأن ذلك يوجب أن لا يقصد الانتفاع بالعين ولا ببدلها.
ونظير هذا أن يقال: لا تقرب مال اليتيم فتبيعه، وتأكل عوضه، وأن يقال: لا تشرب الخمر، فتغير اسمه وتشربه، وأن يقال: لا تزن بهذه المرأة، فتعقد عليها عقد إجارة وتقول: إنما أستوفي منافعها وأمثال ذلك.
قالوا: ولهذا الأصل - وهو أو إسقاط ما أوجبه الله عليه - أكثر من مائة دليل، تحريم الحيل المتضمنة إباحة ما حرم الله،
وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم " لعن المحلل والمحلل له "، مع أنه أتى بصورة [ ص: 465 ] عقد النكاح الصحيح، لما كان مقصوده التحليل، لا حقيقة النكاح.
وقد ثبت عن الصحابة أنهم سموه زانيا ولم ينظروا إلى صورة العقد.