المطلب الثالث
الضمان في غصب منافع الوقف
حكم غصب منافع الوقف محرم كحكم غصب عينه ; لعموم الأدلة السابقة في بيان تحريم غصب الوقف، وكذا عموم قوله تعالى : ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل . (272) ولما روى البخاري من طريق ومسلم يحيى بن سعيد، حدثنا [ ص: 203 ] حدثنا فضيل بن غزوان، عكرمة، عن رضي الله عنهما ، وفيه قوله صلى الله عليه وسلم : ابن عباس "إن دماءكم، وأموالكم، وأعراضكم عليكم حرام".
أما حكم الضمان في غصب منافع الوقف ويسميه المالكية بـ "التعدي"، فقد اتفقت المذاهب الأربعة : الحنفية، والمالكية، والشافعية، والحنابلة على أن على أنه وإن كان غاصب منفعة الوقف يضمن مطلقا سواء استعمل أو عطل، المالكية لم يصرحوا بحكم غصب منافع الوقف، وإنما يؤخذ ذلك من حكمهم على غصب المنافع عموما .
قال الطرابلسي في معرض كلامه على أحكام غصب الأوقاف: "لو كانت الغلة موجودة وقت الغصب، ثم تلفت ضمنها لغصبه إياها مع الأصل".
وقال الصعيدي العدوي : "وأما لو غصب المنفعة، ويقال له التعدي ، فإنه يضمن قيمة المنفعة ولو لم يستعمل ذات المنفعة بل عطله".
وكذا ضمن المناوي ناظر الوقف ما نقص من ريع الوقف، إذا منعه من مستحقيه، وقال: "إذ هو كالغاصب بوضع يده وحبسه عن مستحقيه".
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في عين أقر رجل بوقفيتها قبل موته ، قال : [ ص: 204 ]
وأما العين المقر بها إذا انتفع بها الورثة أو وضعوا أيديهم عليها، بحيث يمنع الانتفاع المستحق بها : فعليهم أجرة المنفعة".
فتحصل من مجموع هذه النقول أن المذاهب الأربعة متفقة على أن غاصب منفعة الوقف ضامن لما غصبه; لما تقدم من أدلة وجوب رد الغصب ، وهذا يشمل رد المنفعة بضمانها .
واختلف العلماء - رحمهم الله تعالى - في ضمان منافع الوقف المغصوب على ثلاثة أقوال:
القول الأول: أن منافع الوقف المغصوب مضمونة مطلقا .
وهذا قول متأخري الحنفية، وهو المفتى به عندهم، وقال به أيضا الشافعية، والحنابلة، لكن الشافعية قالوا: إن كان المغصوب نحو مسجد فلا يضمن بالفوات بل بالتفويت، وكذا نص الحنفية : أنه تجب أجرة المثل في مسجد سكن فيه. [ ص: 205 ]
وعند الحنابلة: إذا كانت تصح إجارة المغصوب فعلى الغاصب أجرة المثل.
وعليه لا ضمان في غصب منافع المسجد ونحوه.
القول الثاني: أن منافع المغصوب من الرباع والحيوان غير مضمونة .
وهو قول متقدمي الحنفية في منافع عقار الوقف دون الحيوان، وبه قال بعض المالكية.
القول الثالث: أن منافع الغصب مطلقا مضمونة بالتفويت لا بالفوات.
فإذا عطله دون استعمال أو استغلال، فلا ضمان للمغصوب منه كالدار يغلقها، والدابة يحبسها، والأرض يبورها، والعبد لا يستخدمه، لكن للمالكية في ضمان الغلة الناشئة عن تحريك الغاصب روايتان.
وبه قال المالكية.
الأدلة
أدلة القول الأول:
1- قوله تعالى : وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله إلا أن يصدقوا فإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن فتحرير .
دلت الآية على وجوب الضمان حال الخطأ، ففي العمد من باب أولى .
2- قوله تعالى : إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها . [ ص: 206 ]
وجه الدلالة : أن الله عز وجل أمر برد الأمانة، وهذا يقتضي ضمان المنفعة ; إذ هو من تمام الرد.
(273) 3- ما رواه الإمام : حدثنا أحمد محمد بن جعفر، ومحمد بن بشر، قالا: حدثنا سعيد، عن قتادة، عن الحسن، عن رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: سمرة بن جندب وقال "على اليد ما أخذت حتى تؤديه"، ابن بشر: "حتى تؤدي".
وجه الدلالة : دل هذا الحديث على وجوب رد حقوق الآخرين، ولا شك أن منفعة الوقف حق للمستحق، فلا يحل للغاصب أخذها فهي ثابتة عليه حتى يؤديها، أو يؤدي بدلها إذا لم يمكن ردها ; لعموم الحديث السابق : "من أعتق [ ص: 207 ] شركا له في عبد، فكان له مال يبلغ ثمن العبد، قوم عليه قيمة العدل، فأعطى حصصه وعتق عليه العبد، وإلا عتق منه ما عتق".
4- ولأن كل ما ضمنه بالإتلاف في العقد الفاسد، جاز أن يضمنه بمجرد الإتلاف كالأعيان.
أدلة القول الثاني:
استدل أصحاب هذا القول بما يلي :
1- عموم حديث رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : عائشة . "الخراج بالضمان"
وجه الدلالة: أن الغاصب ضامن لقيمة الشيء المغصوب يوم الغصب يدل عليه أنه يضمنه بالتعدي ، وذلك إنما حصل وقت الغصب، فإذا كان كذلك لم يكن لمنافعها حكم في الضمان; لأنها تابعة للعين.
ونوقش هذا الاستدلال: بأن النبي صلى الله عليه وسلم قضى بذلك في ضمان الملك ، وجعل الخراج لمن هو مالكه، إذا تلف تلف على ملكه وهو المشتري، والغاصب لا يملك المغصوب بلا خلاف.
2- أن الحكم إذا ثبت في الرقبة لم يكن في المنافع حكم، وكانت تابعة له اعتبارا بمن تزوج أمة ثم ابتاعها، والعقد ينفسخ لثبوت الحكم في الرقبة.
ونوقش: بأن انفساخ نكاح الأمة إذا ابتاعها زوجها الحر ليس لثبوت الحكم في ملك الرقبة، وإنما لوجود المنافاة بين ملك الرقبة وعقد الزوجية ; [ ص: 208 ] وذلك أن النكاح ما شرع إلا مثمرا ثمرات مشتركة في الملك بين المتناكحين والمملوكية تنافي المالكية .
ومن هذه الثمرات: ما تختص الزوجة بملكه ، كالنفقة والسكنى والقسم والمنع من العزل إلا بإذنها .
ومنها: ما يختص الزوج بملكه، كوجوب التمكين والقرار في المنزل والتحصن عن غيره .
ومنها: ما يكون الملك في كل منهما مشتركا كالاستمتاع مجامعة ومباشرة والولد.
وكما قلنا : إن المملوكية تنافي المالكية فقد نافت لازم عقد النكاح، وهو المالكية لتلك الأشياء السابقة الذكر، ومنافي اللازم مناف للملزوم.
هذا بالإضافة إلى أنه لا ينبغي اعتبار فسخ نكاح الأمة إذا ابتاعها زوجها في إثبات ذلك الحكم; لأن الفسوخ مبنية على المسامحة للقاعدة المشهورة : يغتفر في الفسوخ ما لا يغتفر في العقود.
واستدلوا على عدم ضمان منافع الحيوان المغصوب بما يلي:
1- القياس على منافع الحر والحرة.
ونوقش هذا الاستدلال: بأنه قياس مع الفارق لا يؤخذ به ، وذلك أن الحر لا يدخل تحت اليد بخلاف غيره، ولذلك لو حبس حرا لا يضمن منافعه ما دام في حبسه إذا لم يستوفها، ويضمن منافع العبد. [ ص: 209 ] على أنه وقع خلاف في ضمان منافع الحر.
2- أن للأمة منفعة الاستخدام ومنفعة البضع، والسيد يملك المعاوضة عليهما جميعا، ثم إحدى المنفعتين - وهي منفعة الاستمتاع - لا تضمن بالغصب ، كذلك المنفعة الأخرى.
ونوقش هذا الاستدلال: بأن حمل منفعة الاستخدام على منفعة البضع غير متجه ، وذلك أنه إنما امتنع ضمان منفعة البضع بالغصب ; لأن اليد لا تثبت عليه، بل اليد على منفعته للمرأة بخلاف منفعة الاستخدام بدليل أن السيد يزوج أمته المغصوبة، ولا يؤجرها; لأن يد الغاصب حائلة عن إجارها.
دليل القول الثالث: (مضمون مطلقا) :
عموم قوله صلى الله عليه وسلم : وذلك أن من لم يستفد من العين المغصوبة شيئا، فلا يقال إن يده آخذة شيئا من المنافع. "على اليد ما أخذت حتى تؤدي"،
ونوقش هذا الاستدلال: بأن من ضيع المنفعة على صاحبها يعتبر في حكم من أخذها; إذ لا فرق بينهما في جانب صاحب العين المغصوبة، فقد ضاعت عليه المنفعة بسبب الغاصب على كل حال.
الترجيح :
الراجح - والله أعلم - هو القول الأول; لقوة دليله، بالإضافة إلى أن [ ص: 210 ] الغاصب يعتبر متلفا لشيء متقوم، فوجب ضمانه الأعيان، فالمنفعة أو الغلة مال متقوم مغصوب، فوجب ضمانه كالعين.