المبحث الثامن
قسمة عين الوقف بين الموقوف عليهم
إذا وقف شخص داره على أولاده - زيد، وبكر، وعمرو - ، ثم على أولادهم، فأراد أولاده الانتفاع به، فلا يخلو الانتفاع به من حالات ثلاث:
الحال الأولى: أن يبقى على شيوعه بينهم، وينتفعوا به جميعا، وهذا ظاهر.
الحال الثانية : أن ينتفعوا به عن طريق المهايأة الزمانية .
وهي : التناوب على الانتفاع بالوقف مدة معلومة .
التهايؤ لغة : يطلق على معاني منها التمالؤ.
وأما في الاصطلاح، فقيل : بأنها قسمة المنافع، وقيل : بأنها اختصاص كل شريك بمشترك فيه عن شريكه فيه زمنا معينا من متحد، أو متعدد يجوز في نفس منفعته لا في غلته .
أو المكانية، وهي: أن يستقل كل واحد من الموقوف عليهم بالانتفاع ببعض معلوم من الوقف، بأن ينتفع به كل واحد سنة، أو يأخذ كل واحد منهم قطعة معينة من البستان الموقوف يزرعها لنفسه، ويقوم على ما فيها من شجر، ثم في السنة الأخرى إن شاؤوا بقوا على ما هم عليه. [ ص: 261 ]
وقد دل على مشروعية المهايأة: قوله تعالى : لها شرب ولكم شرب يوم معلوم
أنواع المهايأة:
المهايأة على المنافع قسمان:
الأول: مهايأة زمانية، وهي أن ينتفع كل من الشريكين على التعاقب بجميع الشيء المشترك مدة معينة بنسبة حصته، كأرض مشتركة أثلاثا بين شخصين إذا اتفقا على أن يزرعها هذا سنة والآخر سنتين.
الثاني: المهايأة المكانية، وهي التهايؤ بالأجزاء، فيخصص لكل من الشركاء بعض من المال المشترك بنسبة حصته ينتفعون معا في وقت واحد، كدار يسكن كل من الشريكين فيها قسما يعادل حصته .
محل المهايأة : تجري المهايأة المكانية في الوقف المشترك الذي يقبل القسمة كالدار الكبيرة، وأما ما لا يقبل القسمة كالحيوان والسيارة، ونحو ذلك فلا يمكن فيه المهايأة المكانية، وإنما تتعين فيه المهايأة الزمانية .
قسمة الوقف المشترك بين الموقوف عليهم بالتهايؤ:
اختلف الفقهاء في قسمة الوقف المشترك على الموقوف عليهم بالتهايؤ فيما بينهم على قولين مشهورين، هما:
القول الأول : جواز قسمة الوقف المشترك بالتهايؤ.
وعليه جمهور أهل العلم من المالكية، والشافعية ، والحنابلة .
قال الهيثمي رحمه الله - : "تقسم المنافع بين الشريكين كما تقسم الأعيان مهايأة". [ ص: 262 ]
وقال المرداوي رحمه الله - : "إذا اقتسما المنافع بالزمان، أو المكان صح، وكان ذلك جائزا على الصحيح من المذهب".
دليلهم:
1- حديث رضي الله عنه ، وفيه : قوله صلى الله عليه وسلم : عمر "تصدق بأصلها..."،
ففي الحديث إطلاق الانتفاع بالوقف للموقوف عليهم من غير تقييد; لأن الحق لهم، فلهم الاتفاق على ما يرونه من الانتفاع; إذ الأصل الحل.
2- أن التهايؤ طريق من طرق الانتفاع بالوقف من غير ضرر، وذلك بالعدل بين الموقوف عليهم.
القول الثاني: عدم جواز التهايؤ في القسمة .
قاله جمهور الحنفية، وبعض المالكية .
قال ابن الهمام . - رحمه الله- : "وأجمعوا أن الكل لو كان وقفا على الأرباب وأرادوا القسمة لا تجوز، وكذا التهايؤ".
دليلهم:
1- أن التهايؤ مع طول الزمان قد يؤدي إلى دعوى الملكية، أو أن يدعي كل واحد منهم أو بعضهم أن ما في يده موقوف عليه بعينه، ولا يخفى ما في ذلك من الضرر.
ونوقش: بعدم التسليم، ولو سلم فإنه يزال هذا المحظور بكتابة الوثيقة. [ ص: 263 ]
2- أن فيه مخاطرة وغررا; لجواز أن تكون غلته في يوم أحدهم أكثر منها في يوم الآخر.
ونوقش : بعدم تسليم الغرر; إذ إنه ملك الانتفاع في هذه النوبة .
وعلى هذا فالأقرب القول الأول.
وهل يجبر على قسمة المهايأة؟.
جمهور أهل العلم: على أنه لا يجبر عليها ; لأن كل واحد منهما ينتفع بنصيب صاحبه لقاء انتفاع الآخر بنصيبه، فلا يجبر عليها كالبيع.
ولأنها تعجل حق أحدهما وتؤجل حق الآخر، ولا يجوز تأخير حق أحدهما بغير رضاه.
ولأن المنفعة معدومة لا يدرى ما يحصل منها وما لا يحصل .
القول الثاني : أنه يجبر على المهايأة المكانية دون الزمانية .
وهو وجه عند الحنابلة .
وحجته : أن التهايؤ في المكان أعدل في زمان الانتفاع، وعدم تقدم أحدهما على الآخر.
القول الثالث: أنه يجبر على المهايأة مطلقا .
وهو قول عند المالكية، ووجه عند الشافعية، ورواية عن أحمد.
إذ في الامتناع منها ضرر على الآخر.
ونوقش : بأن رفع الضرر ممكن بطريق آخر غير القسمة . [ ص: 264 ]
الترجيح:
الراجح - والله أعلم - عدم الإجبار; لإمكان القسمة بطريق آخر.
فرع: إذا وقع الاتفاق على المهايأة :
فاختلف العلماء في لزومها على قولين : القول الأول : أنها لازمة.
وهو قول المالكية، ووجه عند الشافعية، ووجه الحنابلة.
ودليلهم : أدلة الوفاء بالعقود والشروط.
وعند جمهور أهل العلم: لا يجب الوفاء ; لإمكان القسمة بطريق آخر.
ونوقش: بأنه إذا وقع العقد وجب الوفاء به.
والأقرب: قول المالكية; لقوة دليله.
لكن ليس لهم استدامة هذه القسمة، بل يجب عليهم نقضها; إذ لو استديمت لصارت قسمة حقيقية، وإن شاؤوا تناقلوا المنافع ليأخذ زيد ما بيد بكر ، ويأخذ بكر ما بيد عمرو وهكذا .... وهذه المهايأة ليست بلازمة، فلهم إبطالها متى شاؤوا; لأنها ليست بقسمة; إذ القسمة اختصاص كل واحد ببعض العين على الدوام.
الحال الثالثة : أن ينتفعوا به عن طريق قسمة لازمة، ويختص كل واحد منهم بجزء يقوم عليه وينتفع به .
وقد اختلف في جواز القسمة على قولين : [ ص: 265 ]
القول الأول: أن هذه القسمة لا تجوز .
وبه قال الحنفية، والمالكية، وهو المذهب عند الشافعية ، وهو قول الحنابلة، وجزم به شيخ الإسلام ابن تيمية.
جاء في حاشية ابن عابدين: "قال في الفتاوى ابن الشلبي: القسمة بطريقة التهايؤ وهو التناوب في العين الموقوفة فذلك سائغ ... ومقتضاه : أنه ليس لهم استدامة هذه القسمة، بل يجب عليهم نقضها، واستبدال الأماكن بعضها ببعض; إذ لو استديمت صارت القسمة الممنوعة بالإجماع " .
جاء في فتح العلي المالك: "ما قولهم في قسمة العقار المحبس ...
فأجبت بما نصه : الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا محمد رسول الله تسوغ قسمته قسمة اغتلال وانتفاع ... وأما قسمته بتا بحيث من نابه شيء يتصرف تصرف المالك.... فلا يجوز اتفاقا ".
وجاء في شرح الروض: "ولأهل الوقف المهايأة في الموقوف لا قسمته ...".
وجاء في مجموع فتاوى شيخ الإسلام: "إذا كان الوقف على جهة واحدة فإن عينه لا تقسم قسمة لازمة لا في مذهب أحمد ولا غيره، وإنما في المختصرات لما أرادوا بيان فروع قولنا: القسمة إفراز أو بيع، فإذا قلنا هي بيع لم يجز; لأن الوقف لا يباع، وإذا قلنا هي إفراز جاز قسمته في الجملة [ ص: 266 ] ولم يذكروا شروط القسمة... وصرح الأصحاب بأن الوقف إنما تجوز قسمته إذا كان على جهتين، فأما الوقف على جهة واحدة فلا تقسم عينه اتفاقا" .
القول الثاني: أن هذه القسمة جائزة.
وبه قال وهو وجه أبو الحسين ابن القطان، للحنابلة، جزم به صاحب المحرر"، وصاحب المنتهى ، واستظهره صاحب الفروع.
وقال النووي: "لا يجوز قسمة العقار الموقوف بين أرباب الوقف.
وقال ابن القطان: إن قلنا القسمة إفراز جاز فإذا انقرض البطن الأول، انقضت القسمة، ويجوز المهايأة، قاله ابن كج".
وقال السبكي: "بستان أو دار وقف على جماعة ليس لهم أن يقتسموه، وعن أبي الحسن : إذا جعلنا القسمة إفرازا جاز، فإذا انقرض البطن الأول انتقضت" .
وقال ابن النجار: "ويصح قسم موقوف - ولو على جهة - بلا رد ".
وقال الرحيباني: "ويصح قسم موقوف - ولو كان موقوفا على جهة واحدة، قال في الفروع: وظاهر كلامهم، أي: الأصحاب، لا فرق بين أن يكون الوقف على جهة أو جهتين. قال : هو أظهر، وفي المبهج لزومها إذا اقتسموا بأنفسهم". [ ص: 267 ]
الأدلة:
أدلة القول الأول: (عدم جواز قسمة عين الواقف) :
استدل أصحاب هذا القول بما يلي : 1
- حديث رضي الله عنه السابق. عمر
دل الحديث على أن الوقف يراد للدوام مع إمكان ذلك، وقسمة الموقوف قسمة تملك لازمة تذهب بعين الوقف، وتقطع دوامه.
2- أن قسمة عين الوقف يتعلق به حق الطبقة الثانية والثالثة ، فلا يجوز أن تستقل به الطبقة الأولى .
3- أن من شرط الوقف عدم البيع ; لقوله صلى الله عليه وسلم رضي الله عنه : " لعمر "، وعلى القول بأن القسمة بيع لا إفراز، فإن فيها تغييرا لشرط الواقف، وتغييرا لما فيه مضرة غير جائزة. تصدق بأصله لا يباع، ولا يوهب، ولا يورث
4- أن الموقوف عليهم ليس لهم حق إلا في الغلة، فلهم اقتسامها، وأما العين فليست ملكا لهم، فليس لهم حق اقتسامها.
دليل القول الثاني: (جواز قسمة الوقف قسمة لازمة) :
استدل لهذا القول بما يلي:
أن في القسمة رعاية لجانب الوقف ليرغبوا في عمارته، ولا يتواكلوا.
ونوقش هذا الاستدلال: أن ما ذكروه ليس مبررا لقسمة الوقف وهضم حق من يأتي من البطون، وليس هو الطريق للمحافظة على الوقف، وإنما [ ص: 268 ] الطريق هو تعيين ناظر صالح على الوقف، فإذا احتاجت العين إلى العمارة قدمها على المستحقين كما سبق بيانه .
الترجيح:
الراجح - والله أعلم - هو قول عامة أهل العلم القائل بعدم جواز قسمة عين الوقف; لأن قسمة الوقف تؤدي إلى ضياعه مع مرور الزمن واشتهاره بمن هو تحت يده، وبالتالي دعوى ملكيته، ولذلك قال المناوي: "قال في الأنوار : لو طال مقام رجل في بقعة وخيف من مقامه اشتهارها به ، واندراس الوقف فللإمام نقله منها".
ويتذرع بعض الناس بأن في قسمة الأوقاف قضاء على ما يمكن أن يحدث من الشحناء بين أرباب الوقف، وهذه مغالطة، فلو طبقت الأحكام الشرعية على أوقاف الناس، وعين لكل وقف ناظر ما حصل من ذلك شيء; إذ يكون الناظر هو المسؤول عن عين الوقف والمحافظة عليها ومتابعة المنتفعين بها إذا كانت معدة للاستغلال، أما الموقوف عليهم فإنما حقهم في الغلة أو المنفعة على أن لهم الحق في المطالبة بتغيير الناظر عند خيانته أو تقصيره.
بل المشاحنات إنما تحدث بسبب مخالفة الشرع، كما في قسمة الوقف . [ ص: 269 ]