المبحث الخامس
ثبوت الوقف عن طريق شهادة الحسبة
معنى شهادة الحسبة : أنها شهادة احتسب أجرها على الله، قصد بها حفظ حقوق الشرع; لأن المسلم مكلف بأدائها، وعلى هذا المبدأ قام الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
والمواضع التي تقبل فيها الشهادة حسبة أربعة عشر ذكرت في حاشية ابن عابدين ، ومنها الوقف.
وللعلماء في ثبوت الوقف عن طريق شهادة الحسبة أقوال:
القول الأول: أن شهادة الحسبة على أصل الوقف وثبوته أمام القضاء أمر مقبول مطلقا .
وبه قال الحنفية، وبعض المالكية .
قال ابن وهبان رحمه الله : "الوقف وإن كان على قوم بأعيانهم فآخره لا بد وأن يكون لجهة بر لا تنقطع، كالفقراء وغيرهم، فالشهادة تقبل بحقهم إما حالا أو مآلا".
وحجته:
(300) ما رواه من طريق مسلم أبي عمرة الأنصاري، عن زيد بن خالد الجهني أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: . [ ص: 462 ] "ألا أخبركم بخير الشهداء : الذي يأتي بشهادته قبل أن يسألها "
قال في فتح الباري: "المراد بحديث زيد: من عنده شهادة لإنسان بحق لا يعلم بها صاحبها، فيأتي إليه فيخبره بها، أو يموت صاحبها العالم بها ويخلف ورثة فيأتي الشاهد إليهم، أو إلى من يتحدث عنهم; فيعلمهم بذلك، وهذا أحسن الأجوبة .
ثانيها : أن المراد به شهادة الحسبة وهي ما لا يتعلق بحقوق الآدميين المختصة بهم محضا، ويدخل في الحسبة مما يتعلق بحق الله أو فيه شائبة منه العتاق والوقف والوصية العامة والعدة والطلاق والحدود، ونحو ذلك.
ثالثها: أنه محمول على المبالغة في الإجابة إلى الأداء، فيكون لشدة استعداده لها كالذي أداها قبل أن يسألها ".
القول الثاني: إن كانت على جهة عامة قبلت، وإن كانت على جهة خاصة لم تقبل .
وبه قال المالكية، والشافعية.
وحجته : أنه إذا كان على جهة خاصة، فهو حق آدمي .
وفي حاشية القليوبي: "تقبل الشهادة حسبة في الوقف، ويمنعها الرملي إن كان على جهة خاصة"، وهي كغيرها من الشهادات في شروطها السابقة في حقوق الله تعالى المتمحضة كصلاة وزكاة وصوم بأن يشهد بتركها ، وفيما لله تعالى فيه حق مؤكد كطلاق وعتق وعفو عن قصاص وبقاء عدة وانقضائها وحد الله تعالي... وثبوت نسب ووصية، ووقف إذا عمت جهتهما، ولو أخرت الجهة العامة فيدخل نحو ما أفتى به البغوي من أنه لو وقف دارا على [ ص: 463 ] أولاده ثم الفقراء فاستولى عليها ورثته وتملكوها، فشهد شاهدان حسبة قبل انقراض أولاده بوقفيتها قبلت شهادتهما ; لأن آخره وقف على الفقراء لا إن خصت جهتهما، فلا تقبل شهادتهما لتعلقهما بحقوق خاصة".
القول الثاني: أنه لا تقبل الشهادة حسبة في الوقف.
وبه قال الحنابلة .
(301) لما رواه البخاري من طريق ومسلم زهدم بن مضرب قال: سمعت يحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: عمران بن حصين عمران : "لا أدري ذكر ثنتين، أو ثلاثا بعد قرنه - ، ثم يجيء قوم ينذرون ولا يفون، ويخونون ولا يؤتمنون، ويشهدون ولا يستشهدون، ويظهر فيهم السمن". "خيركم قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم" - قال
وفي فتح الباري: "وتأولوا حديث عمران بتأويلات :
أحدها : أنه محمول على شهادة الزور، أي: يؤدون شهادة لم يسبق لهم تحملها ، وهذا حكاه عن بعض أهل العلم. الترمذي
ثانيها : المراد بها الشهادة في الحلف يدل عليه قول إبراهيم في آخر حديث "كانوا يضربوننا على الشهادة" أي: قول الرجل أشهد بالله ما كان إلا كذا على معنى الحلف، فكره ذلك كما كره الإكثار من الحلف، واليمين قد تسمى شهادة، وهذا جواب ابن مسعود: الطحاوي.
ثالثها : المراد بها الشهادة على المغيب من أمر الناس، فيشهد على قوم [ ص: 464 ] أنهم في النار، وعلى قوم أنهم في الجنة بغير دليل كما يصنع ذلك أهل الأهواء، حكاه الخطابي.
رابعها : المراد به من ينتصب شاهدا وليس من أهل الشهادة .
خامسها : المراد به التسارع إلى الشهادة وصاحبها بها عالم من قبل أن يسأله ".
والأقرب: هو القول الأول; لما فيه من تحقيق المصلحة، وثبوت الحق. [ ص: 465 ]