المسألة الثانية: تعريف الهبة في الاصطلاح
للعلماء في تعريف الهبة اصطلاحا تعاريف متعددة، وإن اختلفت في بعض ألفاظها تبعا لما يشترطه علماء كل مذهب في عقد الهبة من شروط، وما يرجحونه من أحكام، إلا أنها متقاربة المعنى.
فمن تعاريف الحنفية: "تمليك المال بلا عوض".
كذا في عامة متون وشروح الحنفية.
واعترض عليه: بالهبة بشرط العوض.
وأجيب: بأن المراد بقولهم: بلا عوض في تعريف الهبة: بلا اكتساب عوض، فالمعنى أن الهبة هي تمليك المال بشرط عدم اكتساب العوض فلا ينتقض بالهبة بشرط العوض، فإنها وإن كانت بشرط العوض إلا أنها ليست [ ص: 32 ] بشرط الاكتساب، ألا ترى أنهم فسروا البيع بمبادلة المال بالمال بطريق الاكتساب، وقالوا: خرج بقولنا بطريق الاكتساب: الهبة بشرط العوض.
واعترض عليه أيضا: أنه يصدق على الوصية بالمال، فإنها أيضا تمليك المال بلا اكتساب عوض، فلم يكن مانعا عن دخول الأغيار، فلو زادوا قيد في الحال، فقالوا: هي تمليك المال بلا عوض في الحال لخرج ذلك، فإن الوصية تمليك بعد الموت لا في الحال.
ومن تعاريف المالكية: قال ابن عرفة: "الهبة أحد أنواع العطية، وهي - أي: العطية - : تمليك متمول بغير عوض إنشاء".
ومن تعاريفهم: قول خليل: "تمليك بلا عوض".
قوله: "تمليك" جنس يشمل كل تمليك.
أي: تمليك ذات، وأما تمليك المنفعة فإما وقف، وإما عارية إن قيد بزمن ولو عرفا، وإما عمرى إن قيد بحياة المعطى بالفتح في دار ونحوها.
وخرج بقوله: "بلا عوض" هبة الثواب، فالتعريف لهبة غير الثواب وتسمى هدية، وفي كلامه حذف تقديره لوجه المعطى بالفتح يدل عليه قوله: (ولثواب الآخرة صدقة ) وهو متعلق بمحذوف، أي: والتمليك لثواب الآخرة صدقة سواء قصد المعطي أيضا أم لا، ولو قال المصنف: تمليك ذات بلا عوض لوجه المعطى فقط هبة، ولثواب الآخرة صدقة كان أبين; لأن كلامه يوهم أن الهبة مقسم وليس كذلك، وإنما هي قسم من التمليك أو الإعطاء، والحاصل أن التمليك كالجنس لهما، ويفترقان بالقصد والنية.
[ ص: 33 ] ومن تعاريف الشافعية: "التمليك لعين بلا عوض في الحياة تطوعا".
قوله: "التمليك" أي: لعين، أو دين، أو منفعة.
وخرج بقوله: "بالتمليك": الضيافة والعارية فإنهما إباحة، والملك يحصل بعده، والوقف فإنه تمليك منفعة لا عين على ما قيل، والأوجه أنه لا تمليك فيه، وإنما هو بمنزلة الإباحة كما صرح بذلك السبكي، فقال: لا حاجة للاحتراز عن الوقف، فإن المنافع لم يملكها الموقوف عليه بتمليك الواقف، بل بتسليمه من جهة الله تعالى.
وخرج بقوله: "العين": الدين، والمنفعة.
قوله: "بلا عوض" بالمعنى الأعم الشامل للهدية والصدقة وقسيمهما، ومن ثم قدم الحد على خلاف الغالب، وخرج ما فيه عوض كالبيع ولو بلفظ الهبة.
قوله: "في الحياة" لإخراج نحو: الوصية، فإن التمليك فيها إنما يتم بالقبول وهو بعد الموت.
قوله: "تطوعا "لإخراج الواجب، نحو: الكفارة والنذر والزكاة. واعترض على هذا التعريف: عدم شموله هبة الثواب، وسيأتي أن لها أحكام الهبة على الصحيح.
وأيضا: ما لو أهدى إلى غني لحم أضحية، أو هدي، أو عقيقة، فإنه هبة ولا تمليك فيه.
وأجيب: بأنه لا يسلم أنه لا تمليك فيه، بل فيه تمليك.
ومن تعاريف الحنابلة:
قال "وهي تمليك في حياته بغير عوض". ابن قدامة:
[ ص: 34 ] ومن تعاريفهم: "تمليك جائز التصرف مالا معلوما، أو مجهولا تعذر علمه موجودا، مقدور على تسليمه، غير واجب في الحياة، بلا عوض".
قوله: "تمليك" خرج به العارية.
قوله: "جائز التصرف" وهو الحر المكلف الرشيد.
قوله: "ما" خرج به الكلب، ونحوه.
قوله: "معلوما" يصح بيعه منقولا أو عقارا.
قوله: "أو" مالا "مجهولا تعذر علمه" كدقيق اختلط بدقيق لآخر، فوهب أحدهما للآخر ملكه منه; فيصح مع الجهالة للحاجة.
قوله: "موجودا" خرج المعدوم كعبد في ذمته.
قوله: "مقدورا على تسليمه" خرج الحمل.
قوله: "غير واجب" خرج الديون والنفقات، ونحوها.
قوله: "في الحياة" خرج به الوصية، وهو متعلق بتمليك.
قوله: "بلا عوض" متعلق أيضا به، فإن كانت بعوض فبيع، ويأتي. واعترض على هذا التعريف بما يلي:
أولا: قوله: "جائز التصرف" هذا من إدخال الشروط في التعريف.
ثانيا: عدم شموله لهبة الثواب.
والأقرب في تعريف الهبة اصطلاحا بعد دراسة أحكامها أن يقال:
"التبرع بتمليك ما فيه منفعة في الحياة".
فقولنا: "التبرع" لإخراج الواجب نحو الزكاة، والكفارة، وما فيه تمليك كالبيع.
وقولنا: "بتمليك" لإخراج العارية، فهي إباحة للمنفعة.
[ ص: 35 ] وقولنا: "ما فيه منفعة" ليشمل الأموال والمختصات.
وقولنا: "في حال الحياة" ليخرج الوصية.