المسألة السابعة: الشرط السابع: أن لا تتضمن الهبة ترك واجب:
وفيها أمران:
الأمر الأول: ونحوها: هبة ما يجب من نفقة
من وهب ما يضر بمن تلزمه نفقته من الزوجات، والأقارب، فإنه يأثم لتقديمه النفل على الواجب.
قال ابن عابدين: "الصدقة تستحب بفاضل عن كفايته، وكفاية من يمونه، وإن تصدق بما ينقص مؤنة من يمونه أثم"، والهبة من باب أولى.
ويقول الشيرازي: "لا يجوز أن يتصدق بصدقة التطوع وهو محتاج إلى ما يتصدق به لنفقته، أو نفقة عياله".
وقال: "ولا يجوز لمن عليه دين وهو محتاج إلى ما يتصدق به لقضاء دينه; لأنه حق واجب، فلم يجز تركه بصدقة التطوع كنفقة عياله".
وللشافعية وجهان آخران في المسألة غير هذا، ذكرهما النووي: [ ص: 295 ] الأول: أن الصدقة لا تستحب، ولا يقال إنها مكروهة، وحكاه عن الماوردي وجماعة من والغزالي الخراسانيين.
الثاني: أن الصدقة مكروهة في هذه الحالة.
وقال "فإن تصدق بما ينقص من كفاية من تلزمه مؤنته ولا كسب له أثم". ابن قدامة:
وقال "أما الماوردي: صدقة التطوع قبل أداء الواجبات من الزكوات والكفارات، وقبل الإنفاق على من تجب نفقتهم من الأقارب والزوجات، فغير مستحبة ولا مختارة".
وقال المرداوي: "وإن تصدق بما ينقص مؤنة من تلزمه مؤنته أثم، وكذا لو أضر ذلك بنفسه أو بغريمه أو بكفالته، قاله الأصحاب"، والهبة من باب أولى.
أما إن كانت الصدقة تنقص من كفاية المتصدق نفسه، ولا صبر له على الضيق، فإنه يكره له الصدقة في هذه الحالة، فإن أضر بنفسه حرم عليه التصدق.
صرح بهذا فقهاء الحنفية، والشافعية، والحنابلة.
وقال "ولا تنفذ هبة ولا صدقة لأحد إلا فيما أبقى له ولعياله غنى، فإن أعطى ما لا يبقى لنفسه وعياله بعده فسخ كله". ابن حزم:
[ ص: 296 ] الدليل:
1 - قوله تعالى: وآت ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل ولا تبذر تبذيرا إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين 2 - قول تعالى: ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك .
(133 ) 3 - ما رواه من طريق مسلم خيثمة، عن رضي الله عنهما.... قال: قال رسول الله: عبد الله بن عمر "كفى بالمرء إثما أن يحبس عمن يملك قوته".
(134 ) 4 - وما رواه من طريق مسلم عن أبي الزبير، رضي الله عنهما قال: جابر بني عذرة عبدا له عن دبر، فبلغ ذلك الرسول صلى الله عليه وسلم فقال: "ألك مال غيره؟" فقال: لا، فقال: "من يشتريه مني؟" فاشتراه بثمانمئة درهم، فجاء بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فدفعها إليه، ثم قال: "ابدأ بنفسك فتصدق عليها، فإن فضل شيء فلأهلك، فإن فضل عن أهلك شيء فلذي قرابتك، فإن فضل عن ذي قرابتك شيء، فهكذا وهكذا". نعيم بن عبد الله أعتق رجل من
(135 ) 5 - ما رواه من طريق البخاري أبي صالح قال: حدثني رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: أبو هريرة فقالوا: يا "أفضل الصدقة ما ترك غنى، واليد العليا خير من اليد السفلى، وابدأ بمن تعول. تقول المرأة: إما أن تطعمني وإما أن تطلقني، ويقول العبد: أطعمني واستعملني، ويقول الابن: أطعمني، إلى من تدعني، سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: لا هذا من كيس أبا هريرة ". أبي هريرة
[ ص: 297 ] (136 ) 6 - ما رواه من طريق البخاري عروة، من طريق ومسلم يحدث أن موسى بن طلحة حدثه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: حكيم بن حزام "أفضل الصدقة، أو خير الصدقة عن ظهر غنى، واليد العليا خير من اليد السفلى، وابدأ بمن تعول".
قال الخطابي: أي: لا تضيع عيالك، وتفضل على غيرك. "وابدأ بمن تعول"
وقال ابن حجر: أي: بمن يجب عليك نفقته... وهو أمر بتقديم ما يجب على ما لا يجب، وقد بوب "وابدأ بمن تعول" على هذا الحديث وغيره: "باب لا صدقة إلا عن ظهر غنى، ومن تصدق وهو محتاج أو أهله محتاج أو عليه دين، فالدين أحق أن يقضى من الصدقة والعتق والهبة، وهو رد عليه، ليس له أن يتلف أموال الناس". البخاري
فإذا أمن الإنسان لمن يعوله كفايتهم، أو كان وحده ليس له من يعوله، فهل يشرع له الصدقة بجميع ماله؟.
اتفق الأئمة الأربعة في الجملة على جواز ذلك، ولكن بشرط أن يعلم من نفسه حسن التوكل واليقين، وأن يكون عنده القناعة والصبر على الفقر وعن المسألة، أو يكون ذا كسب.
وقال ابن عابدين: "ومن أراد الصدقة بماله كله وهو يعلم من نفسه حسن التوكل، والصبر عن المسألة فله ذلك، وإلا فلا يجوز".
[ ص: 298 ] وقال "وجائز أن يتصدق الرجل في صحته بماله كله في سبيل البر والخير". ابن عبد البر:
وقال "إن كان حسن اليقين قنوعا لا يقنطه الفقر، ولا يسأل عند العدم فالأولى أن يتصدق بجميع ماله". الماوردي:
وقال "فإن كان الرجل وحده، أو كان لمن يمون كفايتهم، فأراد الصدقة بجميع ماله، وكان ذا مكسب، أو كان واثقا من نفسه، ويحسن التوكل والصبر على الفقر، والتعفف عن المسألة، فحسن". ابن قدامة:
وقال "جوز جمهور العلماء وأئمة الأمصار الصدقة بجميع ماله". القاضي عياض:
وجزم جمهور الشافعية، وهو الأصح في مذهبهم، وبعض الحنابلة باستحباب ذلك وأفضليته عند تحقق الشرط المذكور.
وفي وجه عند الشافعية، والحنابلة: بالجواز.
واستدل الفقهاء - القائلون بالجواز والقائلون بالاستحباب - بما يلي:
(137 ) 1 - ما رواه من طريق أبو داود ثنا الفضل بن دكين، هشام بن سعد، عن عن أبيه قال: سمعت زيد بن أسلم، رضي الله عنه يقول: عمر بن الخطاب إن سبقته يوما فجئت بنصف مالي، فقال رسول الله: "ما أبقيت لأهلك؟" قلت: مثله، قال: وأتى أبا بكر رضي الله عنه بكل ما عنده، فقال له [ ص: 299 ] رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما أبقيت لأهلك؟ قال: أبقيت لهم الله ورسوله، قلت: لا أسابقك إلى شيء أبدا". أبو بكر أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما أن نتصدق، فوافق ذلك ما عندي، فقلت: اليوم أسبق
[ ص: 300 ] وقال - وهو من القائلين بالاستحباب - : "فرسول الله صلى الله عليه وسلم إنما أقر الماوردي رضي الله عنه على ذلك واستحسنه; لما علم من قوة إيمانه، وصحة يقينه". أبا بكر
(138 ) 2 - ما رواه قال: حدثنا أحمد حجين، حدثنا عن الليث بن سعد، عن أبي الزبير، يحيى بن جعدة، عن رضي الله عنه أنه أبي هريرة قال: يا رسول الله أي الصدقة أفضل؟ قال: "جهد المقل، وابدأ بمن تعول".
[ ص: 301 ] فالجهد بالضم: الوسع والطاقة، والمقل: الفقير وقليل المال، والمعنى: أفضل الصدقة قدر الصدقة قدر ما يحتمله حال القليل المال.
وقليل المال إذا تصدق بما يحتمله وسعه وطاقته، بعد أن يبقي كفاية من يعوله، ويكون متصدقا بجميع ماله.
قال الفقهاء: فإن لم يتوفر فيمن يريد الصدقة بجميع ماله، الشرط المذكور، كره له ذلك.
(139 ) 3 - ما رواه من طريق أبو داود عن محمد بن عجلان، عياض ابن عبد الله بن سعد سمع رضي الله عنه يقول: أبا سعيد الخدري دخل رجل المسجد، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم الناس أن يطرحوا ثيابا، فطرحوا، فأمر له منها بثوبين، ثم حث على الصدقة، فجاء فطرح أحد الثوبين، فصاح به، وقال: "خذ ثوبك".
[ ص: 302 ] قال السندي: "عن ظهر غنى: أي: ما بقي خلفها غنى لصاحبه قلبيا، كما كان للصديق، أو قالبيا فيصير الغنى للصدقة كالظهر للإنسان وراء الإنسان، فإضافة الظهر إلى الغنى بيانية; لبيان أن الصدقة إذا كانت بحيث يبقى لصاحبها الغنى بعدها إما لقوة قلبه، أو لوجود شيء بعدها إلى ما أعطى ويضطر إليه، فلا ينبغي لصاحبها التصدق به".
(140 ) 4 - ما رواه البخاري من طريق ومسلم قال: أخبرني ابن شهاب عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب أن عبد الله بن كعب، قال: رضي الله عنه يقول: يا رسول الله إن من توبتي أن أنخلع من مالي صدقة إلى الله وإلى رسوله صلى الله عليه وسلم قال: "أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك، قلت: فإني أمسك سهمي الذي كعب بن مالك بخيبر". سمعت
(141 ) 5 - ما رواه من طريق أبو داود عن محمد بن عجلان، عن المقبري، رضي الله عنه قال: أبي هريرة أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالصدقة، فقال رجل: يا رسول الله عندي دينار، فقال: "تصدق به على نفسك"، قال: عندي آخر، قال: "تصدق: [ ص: 303 ] به على ولدك" قال: عندي آخر، قال: "تصدق به على زوجتك أو قال زوجك"، قال: عندي آخر، قال: "تصدق به على خادمك"، قال: عندي آخر قال: "أنت أبصر".
6 - ولأن الإنسان إذا أخرج جميع ماله لا يأمن فتنة الفقر، وشدة نزاع النفس إلى ما خرج منه فيندم، فيذهب ماله ويبطل أجره، ويصير كلا على الناس.
[ ص: 304 ] فرع: لكن عند توفر شرط الجواز، ما هو الأرجح: القول بالاستحباب أم القول بالجواز؟.
يقوي القول بالاستحباب:
قول الله تعالى: ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ، لا خلاف في أن المقصود بهذه الآية هم الأنصار، فقد أثنى الله تبارك وتعالى على الأنصار بأنهم ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة أي: يقدمون المحاويج على حاجة أنفسهم، ويبدؤون بالناس قبلهم في حال احتياجهم إلى ذلك، قاله ابن كثير.
ويؤيد القول بالجواز دون الاستحباب:
قول الله تعالى: ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوما محسورا ، فمعنى قوله تعالى: ولا تبسطها كل البسط أي: لا تبسطها بالعطاء كل البسط فتعطي جميع ما عندك، فتقعد محسورا، أي: منقطعا بك لا شيء عندك تنفقه، يقال:... دابة حسيرة إذا كانت كالة.
ففي الآية نهي عن الإسراف في إنفاق المال في وجوه الخير.
وقد جاء مثل هذا عن بعض السلف، كعطاء بن أبي رباح، وسعيد بن المسيب، وابن شهاب الزهري أنهم رأوا الاقتصار على الثلث.
ويبدو أنهم أخذوا ذلك من رواية لحديث أبي داود رضي الله عنه. كعب بن مالك
[ ص: 305 ]