المبحث الثاني: أدلة مشروعية الوصية
الوصية مشروعة بالكتاب، والسنة، والإجماع، والنظر الصحيح.
فمن الكتاب: قوله تعالى: كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف حقا على المتقين
قال بعد ذكر هذه الآية: "هذه آية الوصية، وليس في القرآن ذكر للوصية إلا في هذه الآية، وفي النساء: القرطبي من بعد وصية ، وفي المائدة: حين الوصية ، والتي في البقرة أتمها وأكملها، ونزلت قبل نزول الفرائض والمواريث".
وجه الدلالة: من قوله تعالى: كتب عليكم... الآية، من وجهين: الأول: أن معنى كتب: فرض وألزم، ولا بد أن يكون ما فرضه الله سبحانه وتعالى مشروعا.
الثاني: أن الآية دلت على حرمة التغيير والتبديل في الوصية، بدليل ترتيب الإثم على ذلك، فدل ذلك على مشروعيتها; لأنها لو لم تشرع لما حرم تبديلها.
ووجه الدلالة من قوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية اثنان ذوا عدل منكم أو آخران من غيركم إن أنتم ضربتم في الأرض [ ص: 60 ] من وجهين:
الأول: أنه تعالى حث المؤمنين على فدل ذلك على مشروعيتها; إذ الحث على شيء له متعلق يدل على مشروعية متعلقه، كما يدل على مشروعيته. الإشهاد على الوصية،
الثاني: أنه سبحانه نزل الإشهاد من الوصية منزلة الحكم على موضوعه، ولما كان الإشهاد مندوبا إليه كان مشروعا، فعلم بذلك أن موضوعه كذلك، وإلا فليس بمعقول جعل ما ليس بمشروع موضوعا لما هو مشروع.
ويدل لذلك أيضا قوله تعالى في سياق آيتي المواريث من سورة النساء: من بعد وصية يوصى بها أو دين .
ووجه الاستدلال بهذه الآية: أنه سبحانه وتعالى قرن الوصية بالدين الواجب الأداء، فدل ذلك على جوازها بالمعنى الأعم، وقدمت الوصية على الدين; للاهتمام بشأنها، ولأن النفس قد لا تسمح بها; لكونها تبرعا، أو لأنها كانت على وجه البر والصلة، والدين يقع بعد الميت بنوع تفريط، فبدأ بالوصية لكونها أفضل، أو لأنها حظ الفقير غالبا، والدين حظ الغريم، ويطلبه بالقوة، أو لأجل ذلك كله، وإلا فإن الدين مقدم عليها شرعا بعد مؤنة التجهيز بلا نزاع.
ومن السنة:
(1) فقد روى البخاري من طريق ومسلم ، عن نافع رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: عبد الله بن عمر . "ما حق امرئ مسلم له شيء يوصي فيه، يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده"
[ ص: 61 ] أي: ما الحزم أو المعروف من الأخلاق إلا هذا، فقد يفجؤه الموت.
(2) وروى البخاري من طريق ومسلم ، عن أبيه عنه قال: عامر بن سعد بن أبي وقاص . "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعودني عام حجة الوداع من وجع اشتد بي، فقلت: إني قد بلغ بي من الوجع وأنا ذو مال، ولا يرثني إلا ابنة، أفأتصدق بثلثي مالي؟ قال: "لا"، فقلت: بالشطر؟ فقال: "لا"، ثم قال: "الثلث والثلث كبير أو كثير"
(3) ما رواه من طريق ابن ماجه طلحة بن عمرو ، عن عطاء ، عن رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أبي هريرة . "إن الله تصدق عليكم عند وفاتكم بثلث أموالكم؛ زيادة لكم في أعمالكم"
[ ص: 62 ] وأما الإجماع: فقد نقل الإجماع ، ابن المنذر ، وغيرهما. وابن حزم
قال : "وأجمعوا على أن ابن المنذر وأجمعوا على أنه لا وصية لوارث إلا أن يجيز ذلك، وأجمعوا على أن الوصايا مقصورة بها على ثلث مال العبد". الوصية لوالدين لا يرثان المرء، والأقرباء الذين لا يرثون جائزة،
قال في تبيين الحقائق: "إن عليه إجماع الأمة".
وقال : "وأجمع العلماء في جميع الأمصار والأعصار على جواز الوصية". ابن قدامة
وأما النظر الصحيح: فقد أجازها الشارع لحاجة الناس إليها; لأن الإنسان مغرور بأمله، مقصر في عمله، فإذا عرض له عارض، وخاف الهلاك، يحتاج إلى تلافي ما فاته من التقصير بماله على وجه لو تحقق ما كان يخافه يحصل مقصوده المآلي، ولو اتسع الوقت وأحوجه إلى الانتفاع به صرفه إلى حاجته الحالي، فشرعها الشارع؛ تمكينا منه جل وعلا من العمل الصالح وقضاء لحاجته عند احتياجه إلى تحصيل المصالح، ومثله الإجارة لا تجوز قياسا لما فيها من إضافة تمليك المنافع إلى ما يستقبل من الزمان، [ ص: 63 ] وأجازها الشارع للضرورة، وقد يبقى الملك بعد الموت باعتبار الحاجة كما بقي في قدر التجهيز والدين.
وقال : "من أوصى بوصية، فلم يجر، ولم يحف، كان له من الأجر مثل ما لو أعطاها وهو صحيح". الشعبي