3322 كتاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى هرقل يدعوه إلى الإسلام

وقال النووي : ( باب كتب النبي صلى الله عليه) وآله (وسلم إلى هرقل ملك الشام، يدعوه إلى الإسلام) .

حديث الباب

وهو بصحيح مسلم \ النووي ص 103 - 111 جـ 12 المطبعة المصرية

[ عن ابن عباس ؛ أن أبا سفيان أخبره، من فيه إلى فيه، قال: انطلقت في المدة التي كانت بيني وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم . قال: فبينا أنا بالشأم إذ جيء بكتاب من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى هرقل (يعني عظيم الروم ) قال: وكان دحية الكلبي جاء به. فدفعه إلى عظيم بصرى . فدفعه عظيم بصرى إلى هرقل فقال هرقل : هل هاهنا أحد من قوم هذا الرجل، الذي يزعم أنه نبي؟ قالوا: نعم . قال: فدعيت في نفر من قريش ، فدخلنا على هرقل ، فأجلسنا بين يديه. فقال: أيكم أقرب نسبا من هذا الرجل، الذي يزعم أنه نبي؟ فقال أبو سفيان : فقلت: أنا . فأجلسوني بين يديه، وأجلسوا أصحابي خلفي.

[ ص: 580 ] ثم دعا بترجمانه، فقال له: قل لهم: إني سائل هذا، عن الرجل الذي يزعم: أنه نبي. فإن كذبني فكذبوه . قال: فقال أبو سفيان : وايم الله! لولا مخافة أن يؤثر علي الكذب لكذبت. ثم قال لترجمانه: سله: كيف حسبه فيكم؟ قال: قلت: هو فينا ذو حسب. قال: فهل كان من آبائه ملك؟ قلت: لا. قال: فهل كنتم تتهمونه بالكذب، قبل أن يقول ما قال؟ قلت: لا. قال: ومن يتبعه؟ أشراف الناس أم ضعفاؤهم؟ قال: قلت: بل ضعفاؤهم. قال: أيزيدون أم ينقصون؟ قال: قلت: لا. بل يزيدون. قال: هل يرتد أحد منهم عن دينه، بعد أن يدخل فيه، سخطة له؟ قال: قلت: لا. قال: فهل قاتلتموه؟ قلت: نعم . قال: فكيف كان قتالكم إياه؟ قال: قلت: تكون الحرب بيننا وبينه سجالا، يصيب منا ونصيب منه . قال: فهل يغدر؟ قلت: لا. ونحن منه في مدة، لا ندري ما هو صانع فيها؟

قال: فوالله! ما أمكنني من كلمة أدخل فيها شيئا، غير هذه.

قال: فهل قال هذا القول أحد قبله؟ قال: قلت: لا. قال لترجمانه: قل له: إني سألتك عن حسبه، فزعمت: أنه فيكم ذو حسب . وكذلك الرسل، تبعث في أحساب قومها . وسألتك: هل كان في آبائه ملك؟ فزعمت: أن لا . فقلت: لو كان من آبائه ملك، قلت: رجل يطلب ملك آبائه . وسألتك عن أتباعه أضعفاؤهم أم أشرافهم ؟ فقلت: بل ضعفاؤهم . وهم أتباع الرسل . وسألتك [ ص: 581 ] هل كنتم تتهمونه بالكذب، قبل أن يقول ما قال؟ فزعمت: أن لا. فقد عرفت: أنه لم يكن ليدع الكذب على الناس، ثم يذهب فيكذب على الله . وسألتك: هل يرتد أحد منهم عن دينه، بعد أن يدخله، سخطة له؟ فزعمت: أن لا. وكذلك الإيمان، إذا خالط بشاشة القلوب . وسألتك: هل يزيدون أو ينقصون؟ فزعمت: أنهم يزيدون. وكذلك الإيمان حتى يتم . وسألتك: هل قاتلتموه؟ فزعمت: أنكم قد قاتلتموه، فتكون الحرب بينكم وبينه سجالا، ينال منكم وتنالون منه . وكذلك الرسل، تبتلى، ثم تكون لهم العاقبة.

وسألتك: هل يغدر؟ فزعمت: أنه لا يغدر. وكذلك الرسل لا تغدر. وسألتك: هل قال هذا القول أحد قبله؟ فزعمت: أن لا. فقلت: لو قال هذا القول أحد قبله، قلت: رجل ائتم بقول قيل قبله .

قال: ثم قال: بم يأمركم؟ قلت: يأمرنا بالصلاة، والزكاة، والصلة، والعفاف. قال: إن يكن ما تقول فيه حقا: فإنه نبي. وقد كنت أعلم أنه خارج . ولم أكن أظنه منكم . ولو أني أعلم أني أخلص إليه: لأحببت لقاءه . ولو كنت عنده، لغسلت عن قدميه . وليبلغن ملكه ما تحت قدمي .

قال: ثم دعا بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقرأه، فإذا فيه: بسم الله الرحمن الرحيم من محمد رسول الله، إلى هرقل عظيم الروم سلام على من اتبع الهدى . أما بعد . فإني أدعوك بدعاية الإسلام . أسلم تسلم، وأسلم يؤتك الله أجرك مرتين . وإن توليت، فإن عليك [ ص: 582 ] إثم الأريسيين و يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون .

فلما فرغ من قراءة الكتاب، ارتفعت الأصوات عنده وكثر اللغط . وأمر بنا، فأخرجنا .

قال: فقلت لأصحابي حين خرجنا: لقد أمر أمر ابن أبي كبشة إنه ليخافه ملك بني الأصفر . قال: فما زلت موقنا بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه سيظهر، حتى أدخل الله علي الإسلام ].

3322 كِتَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ إِلَى هِرَقْلَ يَدْعُوهُ إِلَى الْإِسْلَامِ

وَقَالَ النَّوَوِيُّ : ( بَابُ كُتِبَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ) وَآلِهِ (وَسَلَّمَ إِلَى هِرَقْلَ مَلِكِ الشَّامِ، يَدْعُوهُ إِلَى الْإِسْلَامِ) .

حَدِيثُ الْبَابِ

وَهُوَ بِصَحِيحِ مُسْلِمٍ \ النَّوَوِيُّ ص 103 - 111 جـ 12 الْمَطْبَعَةُ الْمِصْرِيَّةُ

[ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ؛ أَنَّ أَبَا سُفْيَانَ أَخْبَرَهُ، مِنْ فِيهِ إِلَى فِيهِ، قَالَ: انْطَلَقْتُ فِي الْمُدَّةِ الَّتِي كَانَتْ بَيْنِي وَبَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . قَالَ: فَبَيْنَا أَنَا بِالشَّأْمِ إِذْ جِيءَ بِكِتَابٍ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى هِرَقْلَ (يَعْنِي عَظِيمَ الرُّومِ ) قَالَ: وَكَانَ دَحْيَةُ الْكَلْبِيُّ جَاءَ بِهِ. فَدَفَعَهُ إِلَى عَظِيمِ بُصْرَى . فَدَفَعَهُ عَظِيمُ بُصْرَى إِلَى هِرَقْلَ فَقَالَ هِرَقْلُ : هَلْ هَاهُنَا أَحَدٌ مِنْ قَوْمِ هَذَا الرَّجُلِ، الَّذِي يَزْعُمُ أَنَّهُ نَبِيٌّ؟ قَالُوا: نَعَمْ . قَالَ: فَدُعِيتُ فِي نَفَرٍ مِنْ قُرَيْشٍ ، فَدَخَلْنَا عَلَى هِرَقْلَ ، فَأَجْلَسَنَا بَيْنَ يَدَيْهِ. فَقَالَ: أَيُّكُمْ أَقْرَبُ نَسَبًا مِنْ هَذَا الرَّجُلِ، الَّذِي يَزْعُمُ أَنَّهُ نَبِيٌّ؟ فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ : فَقُلْتُ: أَنَا . فَأَجْلَسُونِي بَيْنَ يَدَيْهِ، وَأَجْلَسُوا أَصْحَابِي خَلْفِي.

[ ص: 580 ] ثُمَّ دَعَا بِتَرْجُمَانِهِ، فَقَالَ لَهُ: قُلْ لَهُمْ: إِنِّي سَائِلٌ هَذَا، عَنِ الرَّجُلِ الَّذِي يَزْعُمُ: أَنَّهُ نَبِيٌّ. فَإِنْ كَذَبَنِي فَكَذِّبُوهُ . قَالَ: فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ : وَايْمُ اللَّهِ! لَوْلَا مَخَافَةُ أَنْ يُؤْثَرَ عَلَيَّ الْكَذِبُ لَكَذَبْتُ. ثُمَّ قَالَ لِتَرْجُمَانِهِ: سَلْهُ: كَيْفَ حَسَبُهُ فِيكُمْ؟ قَالَ: قُلْتُ: هُوَ فِينَا ذُو حَسَبٍ. قَالَ: فَهَلْ كَانَ مِنْ آبَائِهِ مَلِكٌ؟ قُلْتُ: لَا. قَالَ: فَهَلْ كُنْتُمْ تَتَّهِمُونَهُ بِالْكَذِبِ، قَبْلَ أَنْ يَقُولَ مَا قَالَ؟ قُلْتُ: لَا. قَالَ: وَمَنْ يَتَّبِعُهُ؟ أَشْرَافُ النَّاسِ أَمْ ضُعَفَاؤُهُمْ؟ قَالَ: قُلْتُ: بَلْ ضُعَفَاؤُهُمْ. قَالَ: أَيَزِيدُونَ أَمْ يَنْقُصُونَ؟ قَالَ: قُلْتُ: لَا. بَلْ يَزِيدُونَ. قَالَ: هَلْ يَرْتَدُّ أَحَدٌ مِنْهُمْ عَنْ دِينِهِ، بَعْدَ أَنْ يَدْخُلَ فِيهِ، سَخْطَةً لَهُ؟ قَالَ: قُلْتُ: لَا. قَالَ: فَهَلْ قَاتَلْتُمُوهُ؟ قُلْتُ: نَعَمْ . قَالَ: فَكَيْفَ كَانَ قِتَالُكُمْ إِيَّاهُ؟ قَالَ: قُلْتُ: تَكُونُ الْحَرْبُ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ سِجَالًا، يُصِيبُ مِنَّا وَنُصِيبُ مِنْهُ . قَالَ: فَهَلْ يَغْدِرُ؟ قُلْتُ: لَا. وَنَحْنُ مِنْهُ فِي مُدَّةٍ، لَا نَدْرِي مَا هُوَ صَانِعٌ فِيهَا؟

قَالَ: فَوَاللَّهِ! مَا أَمْكَنَنِي مِنْ كَلِمَةٍ أُدْخِلُ فِيهَا شَيْئًا، غَيْرَ هَذِهِ.

قَالَ: فَهَلْ قَالَ هَذَا الْقَوْلَ أَحَدٌ قَبْلَهُ؟ قَالَ: قُلْتُ: لَا. قَالَ لِتَرْجُمَانِهِ: قُلْ لَهُ: إِنِّي سَأَلْتُكَ عَنْ حَسَبِهِ، فَزَعَمْتَ: أَنَّهُ فِيكُمْ ذُو حَسَبٍ . وَكَذَلِكَ الرُّسُلُ، تُبْعَثُ فِي أَحْسَابِ قَوْمِهَا . وَسَأَلْتُكَ: هَلْ كَانَ فِي آبَائِهِ مَلِكٌ؟ فَزَعَمْتَ: أَنْ لَا . فَقُلْتُ: لَوْ كَانَ مِنْ آبَائِهِ مَلِكٌ، قُلْتُ: رَجُلٌ يَطْلُبُ مُلْكَ آبَائِهِ . وَسَأَلْتُكَ عَنْ أَتْبَاعِهِ أَضُعَفَاؤُهُمْ أَمْ أَشْرَافُهُمْ ؟ فَقُلْتَ: بَلْ ضُعَفَاؤُهُمْ . وَهُمْ أَتْبَاعُ الرُّسُلِ . وَسَأَلْتُكَ [ ص: 581 ] هَلْ كُنْتُمْ تَتَّهِمُونَهُ بِالْكَذِبِ، قَبْلَ أَنْ يَقُولَ مَا قَالَ؟ فَزَعَمْتَ: أَنْ لَا. فَقَدْ عَرَفْتُ: أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لِيَدَعَ الْكَذِبَ عَلَى النَّاسِ، ثُمَّ يَذْهَبَ فَيَكْذِبَ عَلَى اللَّهِ . وَسَأَلْتُكَ: هَلْ يَرْتَدُّ أَحَدٌ مِنْهُمْ عَنْ دِينِهِ، بَعْدَ أَنْ يَدْخُلَهُ، سَخْطَةً لَهُ؟ فَزَعَمْتَ: أَنْ لَا. وَكَذَلِكَ الْإِيمَانُ، إِذَا خَالَطَ بَشَاشَةَ الْقُلُوبِ . وَسَأَلْتُكَ: هَلْ يَزِيدُونَ أَوْ يَنْقُصُونَ؟ فَزَعَمْتَ: أَنَّهُمْ يَزِيدُونَ. وَكَذَلِكَ الْإِيمَانُ حَتَّى يَتِمَّ . وَسَأَلْتُكَ: هَلْ قَاتَلْتُمُوهُ؟ فَزَعَمْتَ: أَنَّكُمْ قَدْ قَاتَلْتُمُوهُ، فَتَكُونُ الْحَرْبُ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ سِجَالًا، يَنَالُ مِنْكُمْ وَتَنَالُونَ مِنْهُ . وَكَذَلِكَ الرُّسُلُ، تُبْتَلَى، ثُمَّ تَكُونُ لَهُمُ الْعَاقِبَةُ.

وَسَأَلْتُكَ: هَلْ يَغْدِرُ؟ فَزَعَمْتَ: أَنَّهُ لَا يَغْدِرُ. وَكَذَلِكَ الرُّسُلُ لَا تَغْدِرُ. وَسَأَلْتُكَ: هَلْ قَالَ هَذَا الْقَوْلَ أَحَدٌ قَبْلَهُ؟ فَزَعَمْتَ: أَنْ لَا. فَقُلْتُ: لَوْ قَالَ هَذَا الْقَوْلَ أَحَدٌ قَبْلَهُ، قُلْتُ: رَجُلٌ ائْتَمَّ بِقَوْلٍ قِيلَ قَبْلَهُ .

قَالَ: ثُمَّ قَالَ: بِمَ يَأْمُرُكُمْ؟ قُلْتُ: يَأْمُرُنَا بِالصَّلَاةِ، وَالزَّكَاةِ، وَالصِّلَةِ، وَالْعَفَافِ. قَالَ: إِنْ يَكُنْ مَا تَقُولُ فِيهِ حَقًّا: فَإِنَّهُ نَبِيٌّ. وَقَدْ كُنْتُ أَعْلَمُ أَنَّهُ خَارِجٌ . وَلَمْ أَكُنْ أَظُنُّهُ مِنْكُمْ . وَلَوْ أَنِّي أَعْلَمُ أَنِّي أَخْلُصُ إِلَيْهِ: لَأَحْبَبْتُ لِقَاءَهُ . وَلَوْ كُنْتُ عِنْدَهُ، لَغَسَلْتُ عَنْ قَدَمَيْهِ . وَلَيَبْلُغَنَّ مُلْكُهُ مَا تَحْتَ قَدَمَيَّ .

قَالَ: ثُمَّ دَعَا بِكِتَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَرَأَهُ، فَإِذَا فِيهِ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مِنْ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ، إِلَى هِرَقْلَ عَظِيمِ الرُّومِ سَلَامٌ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى . أَمَّا بَعْدُ . فَإِنِّي أَدْعُوكَ بِدِعَايَةِ الْإِسْلَامِ . أَسْلِمْ تَسْلَمْ، وَأَسْلِمْ يُؤْتِكَ اللَّهُ أَجْرَكَ مَرَّتَيْنِ . وَإِنْ تَوَلَّيْتَ، فَإِنَّ عَلَيْكَ [ ص: 582 ] إِثْمَ الْأَرِيسِيِّينَ وَ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلا نَعْبُدَ إِلا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ .

فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ قِرَاءَةِ الْكِتَابِ، ارْتَفَعَتِ الْأَصْوَاتُ عِنْدَهُ وَكَثُرَ اللَّغْطُ . وَأَمَرَ بِنَا، فَأُخْرِجْنَا .

قَالَ: فَقُلْتُ لِأَصْحَابِي حِينَ خَرَجْنَا: لَقَدْ أَمِرَ أَمْرُ ابْنِ أَبِي كَبْشَةَ إِنَّهُ لَيَخَافُهُ مَلِكُ بَنِي الْأَصْفَرِ . قَالَ: فَمَا زِلْتُ مُوقِنًا بِأَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ سَيَظْهَرُ، حَتَّى أَدْخَلَ اللَّهُ عَلَيَّ الْإِسْلَامَ ].

التالي السابق

الشرح

(الشَّرْحُ)

(عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ) رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا؛ (أَنَّ أَبَا سُفْيَانَ) رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ (أَخْبَرَهُ، مِنْ فِيهِ إِلَى فِيهِ؛ قَالَ: انْطَلَقْتُ فِي الْمُدَّةِ الَّتِي كَانَتْ بَيْنِي وَبَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ) وَآلِهِ (وَسَلَّمَ) يَعْنِي: الصُّلْحُ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ. وَكَانَتِ الْحُدَيْبِيَةُ فِي أَوَاخِرِ سَنَةِ سِتٍّ مِنَ الْهِجْرَةِ.

(قَالَ: فَبَيْنَا أَنَا بِالشَّأْمِ، إِذْ جِيءَ بِكِتَابٍ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ) وَآلِهِ (وَسَلَّمَ إِلَى هِرَقْلَ. قَالَ: يَعْنِي: عَظِيمَ الرُّومِ) .

قَالَ النَّوَوِيُّ : " هِرَقْلُ"، بِكَسْرِ الْهَاءِ وَفَتْحِ الرَّاءِ وَإِسْكَانِ الْقَافِ.

[ ص: 583 ] هَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ. وَيُقَالُ: " هِرَقْلُ " بِكَسْرِ الْهَاءِ وَإِسْكَانِ الرَّاءِ وَكَسْرِ الْقَافِ. حَكَاهُ الْجَوْهَرِيُّ فِي صِحَاحِهِ. وَهُوَ اسْمُ عَلَمٍ لَهُ. وَلَقَبُهُ: "قَيْصَرُ". وَكَذَا كُلُّ مَنْ مَلَكَ الرُّومَ يُقَالُ لَهُ: "قَيْصَرُ" .

(قَالَ: وَكَانَ دَحْيَةُ الْكَلْبِيُّ) بِكَسْرِ الدَّالِّ وَفَتْحِهَا. لُغَتَانِ مَشْهُورَتَانِ، اخْتُلِفَ فِي الرَّاجِحَةِ مِنْهُمَا. وَادَّعَى ابْنُ السِّكِّيتِ: أَنَّهُ بِالْكَسْرِ لَا غَيْرَ. وَأَبُو حَاتِمٍ السِّجِسْتَانِيُّ: أَنَّهُ بِالْفَتْحِ لَا غَيْرَ.

(جَاءَ بِهِ. فَدَفَعَهُ إِلَى عَظِيمِ بُصْرَى) بِضَمِّ الْبَاءِ. وَهِيَ مَدِينَةُ حُورَانَ.

ذَاتُ قَلْعَةٍ وَأَعْمَالٍ، قَرِيبَةٌ مِنْ طَرَفِ الْبَرِّيَّةِ الَّتِي بَيْنَ الشَّامِ وَالْحِجَازِ.

وَالْمُرَادُ بِعَظِيمِ بُصْرَى: " أَمِيرُهَا ".

(فَدَفَعَهُ عَظِيمُ بُصْرَى إِلَى هِرَقْلَ. فَقَالَ هِرَقْلُ: هَلْ هَهُنَا أَحَدٌ مِنْ قَوْمِ هَذَا الرَّجُلِ، الَّذِي يَزْعُمُ: أَنَّهُ نَبِيُّ اللَّهِ ؟ قَالُوا: نَعَمْ. قَالَ: فَدُعِيتُ فِي نَفَرٍ مِنْ قُرَيْشٍ، فَدَخَلْنَا عَلَى هِرَقْلَ، فَأُجْلِسْنَا بَيْنَ يَدَيْهِ. فَقَالَ: أَيُّكُمْ أَقْرَبُ نَسَبًا مِنْ هَذَا الرَّجُلِ، الَّذِي يَزْعُمُ أَنَّهُ نَبِيٌّ ؟) .

قَالَ الْعُلَمَاءُ: إِنَّمَا سَأَلَ قَرِيبَ النَّسَبِ؛ لِأَنَّهُ أَعْلَمُ بِحَالِهِ، وَأَبْعَدُ مِنْ أَنْ يَكْذِبَ فِي نَسَبِهِ وَغَيْرِهِ (فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ: فَقُلْتُ: أَنَا. فَأَجْلَسُونِي بَيْنَ يَدَيْهِ، وَأَجْلَسُوا أَصْحَابِي خَلْفِي) وَإِنَّمَا فَعَلَ ذَلِكَ؛ لِيَكُونَ عَلَيْهِمْ أَهْوَنَ فِي تَكْذِيبِهِ إِنْ كَذَبَ. لِأَنَّ مُقَابَلَتَهُ بِالْكَذِبِ فِي وَجْهِهِ صَعْبَةٌ.

[ ص: 584 ] بِخِلَافِ مَا إِذَا لَمْ يَسْتَقْبِلُوهُ) . (ثُمَّ دَعَا بِتَرْجُمَانِهِ) بِضَمِّ التَّاءِ وَفَتْحِهَا. وَالْفَتْحُ أَفْصَحُ. وَهُوَ الْمُعَبِّرُ عَنْ لُغَةٍ بِلُغَةٍ أُخْرَى. وَالتَّاءُ فِيهِ أَصْلِيَّةٌ. وَأَنْكَرُوا عَلَى الْجَوْهَرِيِّ كَوْنَهُ جَعَلَهَا زَائِدَةً.

(فَقَالَ لَهُ: قُلْ لَهُمْ: إِنِّي سَائِلٌ هَذَا، عَنِ الرَّجُلِ الَّذِي يَزْعُمُ: أَنَّهُ نَبِيٌّ) ثُمَّ أَكَّدَ ذَلِكَ فَقَالَ: (فَإِنْ كَذَبَنِي فَكَذِّبُوهُ) أَيْ: لَا تَسْتَحْيُوا مِنْهُ فَتَسْكُتُوا عَنْ تَكْذِيبِهِ، إِنْ كَذَبَ.

قَالَ: فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ: وَايْمُ اللَّهِ ! لَوْلَا مَخَافَةُ أَنْ يُؤْثَرَ عَلَيَّ الْكَذِبُ، لَكَذَبْتُ) .

أَيْ: لَوْلَا خِفْتُ أَنَّ رُفْقَتِي يَنْقُلُونَ عَنِّي الْكَذِبَ إِلَى قَوْمِي، وَيَتَحَدَّثُونَهُ فِي بِلَادِي، لَكَذَبْتُ عَلَيْهِ، لِبُغْضِي إِيَّاهُ وَمَحَبَّتِي نَقْصَهُ.

وَفِي هَذَا: بَيَانُ أَنَّ الْكَذِبَ قَبِيحٌ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، كَمَا هُوَ قَبِيحٌ فِي الْإِسْلَامِ.

وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ: "لَوْلَا الْحَيَاءُ مِنْ أَنْ يَأْثُرُوا عَلَيَّ كَذِبًا، لَكَذَبْتُ عَنْهُ"، وَهُوَ بِضَمِّ الثَّاءِ وَكَسْرِهَا.

(ثُمَّ قَالَ لِتُرْجُمَانِهِ: سَلْهُ: كَيْفَ حَسَبُهُ فِيكُمْ ؟) أَيْ: نَسَبُهُ.

(قَالَ: قُلْتُ: هُوَ فِينَا ذُو حَسَبٍ. قَالَ: فَهَلْ كَانَ مِنْ آبَائِهِ مَلِكٌ ؟) هَكَذَا [ ص: 585 ] هُوَ فِي جَمِيعِ نُسَخِ صَحِيحِ مُسْلِمٍ. وَوَقَعَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ: " فَهَلْ كَانَ فِي آبَائِهِ مِنْ مَلِكٍ ؟ " وَرُوِيَ هَذَا اللَّفْظُ عَلَى وَجْهَيْنِ؛ أَحَدُهُمَا: " مِنْ " بِكَسْرِ الْمِيمِ، " وَمَلِكٌ "، بِفَتْحِهَا مَعَ كَسْرِ اللَّامِ.

وَالثَّانِي: " مَنْ " بِفَتْحِ الْمِيمِ، " وَمَلَكَ " بِفَتْحِهَا، عَلَى أَنَّهُ فِعْلٌ مَاضٍ. قَالَ النَّوَوِيُّ : وَكِلَاهُمَا صَحِيحٌ. وَالْأَوَّلُ أَشْهَرُ وَأَصَحُّ، وَتُؤَيِّدُهُ رِوَايَةُ مُسْلِمٍ، بِحَذْفِ " مِنْ ".

(قُلْتُ: لَا. قَالَ: فَهَلْ كُنْتُمْ تَتَّهِمُونَهُ بِالْكَذِبِ، قَبْلَ أَنْ يَقُولَ مَا قَالَ ؟ قُلْتُ: لَا. قَالَ: وَمَنْ يَتْبَعُهُ ؟ أَشْرَافُ النَّاسِ، أَمْ ضُعَفَاؤُهُمْ ؟) يَعْنِي بِأَشْرَافِهِمْ: كِبَارَهُمْ، وَأَهْلَ الْأَحْسَابِ فِيهِمْ.

(قَالَ: قُلْتُ: بَلْ ضُعَفَاؤُهُمْ. قَالَ: أَيَزِيدُونَ أَمْ يَنْقُصُونَ ؟ قَالَ: قُلْتُ: لَا. بَلْ يَزِيدُونَ. قَالَ: هَلْ يَرْتَدُّ أَحَدٌ مِنْهُمْ عَنْ دِينِهِ، بَعْدَ أَنْ يَدْخُلَ فِيهِ، سَخْطَةً لَهُ ؟) بِفَتْحِ السِّينِ. " وَالسَّخْطُ ": كَرَاهَةُ الشَّيْءِ، وَعَدَمُ الرِّضَى بِهِ.

(قَالَ: قُلْتُ: لَا. قَالَ: فَهَلْ قَاتَلْتُمُوهُ ؟ قُلْتُ: نَعَمْ. قَالَ: فَكَيْفَ كَانَ قِتَالُكُمْ إِيَّاهُ ؟ قَالَ: قُلْتُ: تَكُونُ الْحَرْبُ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ سِجَالًا، يُصِيبُ مِنَّا وَنُصِيبُ مِنْهُ) .

" السِّجَالُ، بِكَسْرِ السِّينِ. أَيْ: "نُوَبًا " نَوْبَةً لَنَا وَنَوْبَةً لَهُ. قَالُوا:

[ ص: 586 ] وَأَصْلُهُ مِنَ الْمُسْتَقِينَ بِالسَّجَلِ. وَهِيَ الدَّلْوُ الْمَلْأَى. يَكُونُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا "سَجَلٌ ".

(قَالَ: فَهَلْ يَغْدِرُ ؟) بِكَسْرِ الدَّالِ. وَهُوَ تَرْكُ الْوَفَاءِ بِالْعَهْدِ.

(قُلْتُ: لَا. وَنَحْنُ مِنْهُ فِي مُدَّةٍ، لَا نَدْرِي مَا هُوَ صَانِعٌ فِيهَا ؟) يَعْنِي: مُدَّةَ الْهُدْنَةِ. وَالصُّلْحَ الَّذِي جَرَى يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ..

(قَالَ: فَوَاللَّهِ ! مَا أَمْكَنَنِي مِنْ كَلِمَةٍ أُدْخِلُ فِيهَا شَيْئًا، غَيْرَ هَذِهِ. قَالَ: فَهَلْ قَالَ هَذَا الْقَوْلَ أَحَدٌ قَبْلَهُ ؟ قَالَ: قُلْتُ: لَا. قَالَ لِتَرْجُمَانِهِ: قُلْ لَهُ: إِنِّي سَأَلْتُكَ عَنْ حَسَبِهِ، فَزَعَمْتَ: أَنَّهُ فِيكُمْ ذُو حَسَبٍ. وَكَذَلِكَ الرُّسُلُ، تُبْعَثُ فِي أَحْسَابِ قَوْمِهَا) يَعْنِي: فِي أَفْضَلِ أَنْسَابِهِمْ، وَأَشْرَفِهَا.

قِيلَ: الْحِكْمَةُ فِي ذَلِكَ: أَنَّهُ أَبْعَدُ مِنَ انْتِحَالِهِ الْبَاطِلَ، وَأَقْرَبُ إِلَى انْقِيَادِ النَّاسِ لَهُ.

(وَسَأَلْتُكَ: هَلْ كَانَ فِي آبَائِهِ مَلِكٌ ؟ فَزَعَمْتَ: أَنْ لَا. فَقُلْتُ: لَوْ كَانَ مِنْ آبَائِهِ مَلِكٌ، قُلْتُ: رَجُلٌ يَطْلُبُ مُلْكَ آبَائِهِ. وَسَأَلْتُكَ عَنْ أَتْبَاعِهِ، أَضُعَفَاؤُهُمْ أَمْ أَشْرَافُهُمْ ؟ فَقُلْتُ: بَلْ ضُعَفَاؤُهُمْ. وَهُمْ أَتْبَاعُ الرُّسُلِ)، لِكَوْنِ الْأَشْرَافِ يَأْنَفُونَ مِنْ تَقَدُّمِ مِثْلِهِمْ عَلَيْهِمْ. وَالضُّعَفَاءُ لَا يَأْنَفُونَ، فَيُسْرِعُونَ إِلَى الِانْقِيَادِ، وَاتِّبَاعِ الْحَقِّ.

(وَسَأَلْتُكَ: هَلْ كُنْتُمْ تَتَّهِمُونَهُ بِالْكَذِبِ، قَبْلَ أَنْ يَقُولَ مَا قَالَ ؟ [ ص: 587 ] فَزَعَمْتَ: أَنْ لَا. فَقَدْ عَرَفْتُ: أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لِيَدَعَ الْكَذِبَ عَلَى النَّاسِ، ثُمَّ يَذْهَبَ فَيَكْذِبَ عَلَى اللَّهِ. وَسَأَلْتُكَ: هَلْ يَرْتَدُّ أَحَدُهُمْ عَنْ دِينِهِ، بَعْدَ أَنْ يَدْخُلَهُ، سَخْطَةً لَهُ ؟ فَزَعَمْتَ: أَنْ لَا. وَكَذَلِكَ الْإِيمَانُ، إِذَا خَالَطَ بِشَاشَتُهُ الْقُلُوبَ) .

أَمَّا سُؤَالُهُ عَنِ الرِّدَّةِ؛ فَلِأَنَّ مَنْ دَخَلَ عَلَى بَصِيرَةٍ فِي أَمْرٍ مُحَقَّقٍ، لَا يَرْجِعُ عَنْهُ. بِخِلَافِ مَنْ دَخَلَ فِي أَبَاطِيلَ.

" وَبَشَاشَةُ الْقُلُوبِ ": انْشِرَاحُ الصُّدُورِ. وَأَصْلُهَا: اللُّطْفُ بِالْإِنْسَانِ عِنْدَ قُدُومِهِ، وَإِظْهَارُ السُّرُورِ بِرُؤْيَتِهِ. يُقَالُ: بَشَّ بِهِ. وَتَبَشْبَشَ.

(وَسَأَلْتُكَ: هَلْ يَزِيدُونَ أَمْ يَنْقُصُونَ؟ فَزَعَمْتَ: أَنَّهُمْ يَزِيدُونَ. وَكَذَلِكَ الْإِيمَانُ حَتَّى يَتِمَّ. وَسَأَلْتُكَ: هَلْ قَاتَلْتُمُوهُ ؟ فَزَعَمْتَ: أَنَّكُمْ قَدْ قَاتَلْتُمُوهُ، فَتَكُونُ الْحَرْبُ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ سِجَالًا، يَنَالُ مِنْكُمْ وَتَنَالُونَ مِنْهُ. وَكَذَلِكَ الرُّسُلُ، تُبْتَلَى، ثُمَّ تَكُونُ لَهُمُ الْعَاقِبَةُ) مَعْنَاهُ: يَبْتَلِيهِمُ اللَّهُ بِذَلِكَ، لِيُعْظِمَ أَجْرَهُمْ بِكَثْرَةِ صَبْرِهِمْ، وَبَذْلِهِمْ وُسْعَهُمْ فِي طَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى.

(وَسَأَلْتُكَ: هَلْ يَغْدِرُ ؟ فَزَعَمْتَ: أَنَّهُ لَا يَغْدِرُ. وَكَذَلِكَ الرُّسُلُ لَا تَغْدِرُ) .

أَمَّا سُؤَالُهُ عَنِ الْغَدْرِ، فَلِأَنَّ مَنْ طَلَبَ حَظَّ الدُّنْيَا: لَا يُبَالِي بِالْغَدْرِ [ ص: 588 ] وَغَيْرِهِ، مِمَّا يَتَوَصَّلُ بِهِ إِلَى ذَلِكَ. وَمَنْ طَلَبَ الْآخِرَةَ: لَمْ يَرْتَكِبْ غَدْرًا، وَلَا غَيْرَهُ مِنَ الْقَبَائِحِ.

(وَسَأَلْتُكَ: هَلْ قَالَ هَذَا الْقَوْلَ أَحَدٌ قَبْلَهُ ؟ فَزَعَمْتَ: أَنْ لَا. فَقُلْتُ: لَوْ قَالَ هَذَا الْقَوْلَ أَحَدٌ قَبْلَهُ، قُلْتُ: رَجُلٌ ائْتَمَّ بِقَوْلٍ قِيلَ قَبْلَهُ. قَالَ: ثُمَّ قَالَ: بِمَ يَأْمُرُكُمْ ؟ قُلْتُ: يَأْمُرُنَا بِالصَّلَاةِ، وَالزَّكَاةِ، وَالصِّلَةِ، وَالْعَفَافِ) أَيْ: بِصِلَةِ الْأَرْحَامِ، وَكُلِّ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ. وَذَلِكَ بِالْبِرِّ، وَالْإِكْرَامِ، وَحُسْنِ الْمُرَاعَاةِ.

وَأَمَّا الْعَفَافُ، فَهُوَ الْكَفُّ عَنِ الْمَحَارِمِ وَخَوَارِمِ الْمُرُوءَةِ. قَالَ صَاحِبُ الْمُحْكَمِ: " الْعِفَّةُ ": الْكَفُّ عَمَّا لَا يَحِلُّ وَلَا يُجْمَلُ. يُقَالُ: عَفَّ يَعِفُّ، عِفَّةً وَعَفَافًا وَعَفَافَةً. وَتَعَفَّفَ وَاسْتَعَفَّ. وَرَجُلٌ عَفٌّ وَعَفِيفٌ. وَالْأُنْثَى عَفِيفَةٌ. وَجَمْعُ الْعَفِيفِ: " أَعِفَّةٌ، وَأَعِفَّاءٌ ".

(قَالَ: إِنْ يَكُنْ مَا تَقُولُ فِيهِ حَقًّا، فَإِنَّهُ نَبِيٌّ) .

قَالَ أَهْلُ الْعِلْمِ: هَذَا الَّذِي قَالَهُ هِرَقْلُ، أَخَذَهُ مِنَ الْكُتُبِ الْقَدِيمَةِ.

فَفِي التَّوْرَاةِ هَذَا أَوْ نَحْوُهُ، مِنْ عَلَامَاتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ. فَعَرَّفَهُ بِالْعَلَامَاتِ. وَأَمَّا الدَّلِيلُ الْقَاطِعُ عَلَى النُّبُوَّةِ: فَهُوَ الْمُعْجِزَةُ الظَّاهِرَةُ، الْخَارِقَةُ لِلْعَادَةِ. هَكَذَا قَالَ الْمَازِرِيُّ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

(وَقَدْ كُنْتُ أَعْلَمُ أَنَّهُ خَارِجٌ. وَلَمْ أَكُنْ أَظُنُّهُ أَنَّهُ مِنْكُمْ) . وَلَوْ أَنِّي أَعْلَمُ أَنِّي أَخْلُصُ إِلَيْهِ، لَأَحْبَبْتُ لِقَاءَهُ)، هَكَذَا هُوَ فِي مُسْلِمٍ. وَوَقَعَ فِي [ ص: 589 ] الْبُخَارِيِّ: " لَتَجَشَّمْتُ لِقَاءَهُ"، وَهُوَ أَصَحُّ فِي الْمَعْنَى. وَمَعْنَاهُ: لَتَكَلَّفْتُ الْوُصُولَ إِلَيْهِ، وَارْتَكَبْتُ الْمَشَقَّةَ فِي ذَلِكَ. وَلَكِنْ أَخَافُ أَنْ أُقْتَطَعَ دُونَهُ. وَلَا عُذْرَ لَهُ فِي هَذَا. لِأَنَّهُ قَدْ عَرَفَ صِدْقَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ. وَإِنَّمَا شَحَّ فِي الْمُلْكِ، وَرَغِبَ فِي الرِّيَاسَةِ، فَآثَرَهَا عَلَى الْإِسْلَامِ. وَقَدْ جَاءَ ذَلِكَ مُصَرَّحًا بِهِ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ. وَلَوْ أَرَادَ اللَّهُ هِدَايَتَهُ، لَوَفَّقَهُ كَمَا وَفَّقَ النَّجَاشِيَّ، وَمَا زَالَتْ عَنْهُ الرِّيَاسَةُ. وَنَسْأَلُ اللَّهَ تَوْفِيقَهُ.

(وَلَوْ كُنْتُ عِنْدَهُ، لَغَسَلْتُ عَنْ قَدَمَيْهِ. وَلَيَبْلُغَنَّ مُلْكُهُ مَا تَحْتَ قَدَمِي) وَيَا لِلَّهِ الْعَجَبُ مِنْ فَهْمِ هَذَا الرَّجُلِ ! تَمَنَّى هَذَا التَّمَنِّيَ، وَعَلِمَ بُلُوغَ مُلْكِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ مَا تَحْتَ قُدْرَتِهِ، وَلَمْ يُسْلِمْ خَوْفًا مِنْ زَوَالِ الْمُلْكِ. وَايْمُ اللَّهِ ! لَوْ أَنَّهُ أَسْلَمَ، سَلِمَ، وَلَمْ تَزُلْ عَنْهُ رِيَاسَتُهُ.

وَقَدْ وَقَعَ مَا وَقَعَ، وَلَمْ يَنْفَعْهُ هَذَا الْخَوْفُ وَالرَّجَاءُ. وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا. وَمِنْ هُنَا يُقَالُ: الصَّارِمُ قَدْ يَنْبُو. وَالْجَوَادُ قَدْ يَكْبُو. وَلَا شَكَّ أَنَّ هِرَقْلَ كَانَ مِنْ عُقَلَاءِ الرِّجَالِ، وَعُلَمَاءِ الْمُلُوكِ، وَلَكِنْ ذَهَبَ عَقْلُهُ وَضَاعَ لُبُّهُ فِي هَذَا الْمَقَامِ. وَلَمْ يَهْتَدِ إِلَى الْحَقِّ وَحُسْنِ الْعَاقِبَةِ. وَقَدِمَ الدُّنْيَا - الَّتِي لَمْ تَكُنْ تَزُولُ عَنْهُ بِالْإِسْلَامِ - عَلَى الْآخِرَةِ الَّتِي هِيَ دَارُ الْحَيَوَانِ. وَمَنْ يَهْدِي اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْهُ فَلَا هَادِيَ لَهُ.

(قَالَ: ثُمَّ دَعَا بِكِتَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ) وَآلِهِ (وَسَلَّمَ، فَقَرَأَهُ فَإِذَا فِيهِ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. مِنْ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ، إِلَى [ ص: 590 ] هِرَقْلَ عَظِيمِ الرُّومِ. سَلَامٌ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى. أَمَّا بَعْدُ، فَإِنِّي أَدْعُوكَ بِدَعَايَةِ الْإِسْلَامِ) أَيْ: بِدَعْوَتِهِ وَهِيَ كَلِمَةُ التَّوْحِيدِ. وَفِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى؛ الَّتِي ذَكَرَهَا مُسْلِمٌ بَعْدَ هَذَا: " أَدْعُوكَ بِدَاعِيَةِ الْإِسْلَامِ"، وَهُوَ مَعْنَى الْأُولَى. قَالَ عِيَاضٌ : وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ " دَاعِيَةٌ " مَعْنَى " دَعْوَةٍ ". كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ أَيْ: كَشْفٌ.

(أَسْلِمْ تَسْلَمْ. وَأَسْلِمْ يُؤْتِكَ اللَّهُ أَجَرَكَ مَرَّتَيْنِ. وَإِنْ تَوَلَّيْتَ، فَإِنَّمَا عَلَيْكَ إِثْمُ الْأَرِيسِيِّينَ) هَكَذَا وَقَعَ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ، وَهُوَ الْأَشْهَرُ فِي رِوَايَاتِ الْحَدِيثِ، وَفِي كُتُبِ أَهْلِ اللُّغَةِ. وَعَلَى هَذَا اخْتُلِفَ فِي ضَبْطِهِ عَلَى أَوْجُهٍ:

أَحَدُهَا: بِيَاءَيْنِ بَعْدَ السِّينِ.

وَالثَّانِي: بِيَاءٍ وَاحِدَةٍ بَعْدَهَا.

وَعَلَى هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ: الْهَمْزَةُ مَفْتُوحَةٌ، وَالرَّاءُ مَكْسُورَةٌ مُخَفَّفَةٌ.

وَالثَّالِثُ: " الْإِرِّيسِينُ "، بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ، وَتَشْدِيدِ الرَّاءِ، وَبِيَاءٍ وَاحِدَةٍ بَعْدَ السِّينِ.

وَوَقَعَ فِي الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ فِي مُسْلِمٍ، وَفِي أَوَّلِ صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ: " إِثْمُ الْيَرِيسِيِّينَ " بِيَاءٍ مَفْتُوحَةٍ فِي أَوَّلِهِ، وَبِيَاءَيْنِ بَعْدَ السِّينِ. وَاخْتَلَفُوا فِي الْمُرَادِ بِهِمْ عَلَى أَقْوَالٍ؛ [ ص: 591 ] أَصَحُّهَا وَأَشْهَرُهَا: أَنَّهُمُ الْأَكَّارُونَ. أَيِ: الْفَلَّاحُونَ وَالزَّرَّاعُونَ. وَمَعْنَاهُ: أَنَّ عَلَيْكَ إِثْمَ رَعَايَاكَ، الَّذِينَ يَتْبَعُونَكَ وَيَنْقَادُونَ بِانْقِيَادِكَ.

وَنَبَّهَ بِهَؤُلَاءِ عَلَى جَمِيعِ " الرَّعَايَا "؛ لِأَنَّهُمُ الْأَغْلَبُ. وَلِأَنَّهُمْ أَسْرَعُ انْقِيَادًا. فَإِذَا أَسْلَمَ أَسْلَمُوا. وَإِذَا امْتَنَعَ امْتَنَعُوا.

قَالَ النَّوَوِيُّ : وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الصَّحِيحُ. وَقَدْ جَاءَ مُصَرَّحًا بِهِ)، فِي رِوَايَةٍ رُوِّينَاهَا، فِي كِتَابِ دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ لِلْبَيْهَقِيِّ. وَفِي غَيْرِهِ: " فَإِنَّ عَلَيْكَ إِثْمَ الْأَكَّارِينَ".

وَفِي رِوَايَةٍ ذَكَرَهَا أَبُو عُبَيْدٍ، فِي كِتَابِ الْأَمْوَالِ: " وَإِلَّا، فَلَا يَحِلُّ بَيْنَ الْفَلَّاحِينَ وَبَيْنَ الْإِسْلَامِ".

وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ وَهْبٍ: " وَإِثْمُهُمْ عَلَيْكَ ".

قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: لَيْسَ الْمُرَادُ بِالْفَلَّاحِينَ: " الزَّرَّاعِينَ خَاصَّةً"، بَلِ الْمُرَادُ بِهِمْ: جَمِيعُ أَهْلِ مَمْلَكَتِهِ.

الثَّانِي: أَنَّهُمُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى. وَهُمْ أَتْبَاعُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَرِيسٍ، الَّذِي تُنْسَبُ إِلَيْهِ " الْأَرُوسِيَّةُ " مِنَ النَّصَارَى. وَلَهُمْ مَقَالَةٌ فِي كُتُبِ الْمَقَالَاتِ. وَيُقَالُ لَهُمْ: " الْأَرُوسِيُّونَ " .

الثَّالِثُ: أَنَّهُمُ " الْمُلُوكُ " الَّذِينَ يَقُودُونَ النَّاسَ إِلَى الْمَذَاهِبِ الْفَاسِدَةِ، وَيَأْمُرُونَهُمْ بِهَا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَالظَّاهِرُ الرَّاجِحُ: أَنَّ الْمُرَادَ بِهِمْ: جَمِيعُ رَعَايَاهُ.

[ ص: 592 ] قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلا نَعْبُدَ إِلا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ .

فِي هَذَا الْكِتَابِ: جُمَلٌ مِنَ الْقَوَاعِدِ، وَأَنْوَاعٌ مِنَ الْفَوَائِدِ؛ مِنْهَا: دُعَاءُ الْكُفَّارِ إِلَى الْإِسْلَامِ قَبْلَ قِتَالِهِمْ. وَهَذَا الدُّعَاءُ وَاجِبٌ، وَالْقِتَالُ قَبْلَهُ حَرَامٌ: إِنْ لَمْ تَكُنْ بَلَغَتْهُمْ دَعْوَةُ الْإِسْلَامِ. وَإِنْ كَانَتْ بَلَغَتْهُمْ: فَالدُّعَاءُ مُسْتَحَبٌّ. هَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ. وَفِيهِ خِلَافٌ لِلسَّلَفِ سَبَقَ بَيَانُهُ.

وَمِنْهَا: وُجُوبُ الْعَمَلِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ. وَإِلَّا فَلَمْ يَكُنْ فِي بَعْثِهِ مَعَ دَحْيَةَ فَائِدَةٌ. قَالَ النَّوَوِيُّ : وَهَذَا إِجْمَاعُ مَنْ يُعْتَدُّ بِهِ.

وَمِنْهَا: اسْتِحْبَابُ تَصْدِيرِ الْكِتَابِ بِالْبَسْمَلَةِ، وَإِنْ كَانَ الْمَبْعُوثُ إِلَيْهِ كَافِرًا.

وَمِنْهَا: أَنَّ قَوْلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ: "كُلُّ أَمْرٍ ذِي بَالٍ لَا يُبْدَأُ فِيهِ بِحَمْدِ اللَّهِ، فَهُوَ أَجْذَمُ"، الْمُرَادُ بِحَمْدِ اللَّهِ: ذِكْرُ اللَّهِ تَعَالَى. وَقَدْ جَاءَ فِي رِوَايَةٍ: " بِذِكْرِ اللَّهِ ". وَهَذَا الْكِتَابُ كَانَ ذَا بَالٍ. بَلْ مِنَ الْمُهِمَّاتِ الْعِظَامِ. وَبَدَأَ فِيهِ بِالْبَسْمَلَةِ، دُونَ الْحَمْدِ.

[ ص: 593 ] وَمِنْهَا: أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُسَافِرَ إِلَى أَرْضِ الْعَدُوِّ بِالْآيَةِ وَالْآيَتَيْنِ وَنَحْوِهِمَا، وَأَنْ يَبْعَثَ بِذَلِكَ إِلَى الْكُفَّارِ. وَإِنَّمَا نُهِيَ عَنِ الْمُسَافَرَةِ بِالْقُرْآنِ إِلَى أَرْضِ الْعَدُوِّ. أَيْ: بِكُلِّهِ، أَوْ بِجُمْلَةٍ مِنْهُ. وَذَلِكَ أَيْضًا، مَحْمُولٌ عَلَى مَا إِذَا خِيفَ وُقُوعُهُ فِي أَيْدِي الْكُفَّارِ.

وَمِنْهَا: أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْمُحْدِثِ وَالْكَافِرِ: مَسُّ آيَةٍ، أَوْ آيَاتٍ يَسِيرَةٍ، مَعَ غَيْرِ الْقُرْآنِ.

وَمِنْهَا: أَنَّ السُّنَّةَ فِي الْمُكَاتَبَةِ وَالرَّسَائِلِ بَيْنَ النَّاسِ: أَنْ يَبْدَأَ الْكَاتِبُ بِنَفْسِهِ، فَيَقُولَ: " مِنْ زِيدٍ إِلَى عَمْرٍو ". وَهَذِهِ مَسْأَلَةٌ مُخْتَلَفٌ فِيهَا .

قَالَ الْإِمَامُ أَبُو جَعْفَرٍ فِي كِتَابِهِ: (صِنَاعَةِ الْكِتَابِ): قَالَ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ: يُسْتَحَبُّ أَنْ يَبْدَأَ بِنَفْسِهِ، كَمَا ذَكَرْنَا. ثُمَّ رَوَى فِيهِ أَحَادِيثَ كَثِيرَةً، وَآثَارًا. قَالَ: وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ. لِأَنَّهُ إِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ. قَالَ: وَسَوَاءٌ فِي هَذَا: تَصْدِيرُ الْكِتَابِ، وَالْعُنْوَانِ. قَالَ: وَرَخَّصَ جَمَاعَةٌ فِي أَنْ يَبْدَأَ بِالْمَكْتُوبِ إِلَيْهِ، فَيَقُولُ فِي التَّصْدِيرِ وَالْعُنْوَانِ: " إِلَى فُلَانٍ مِنْ فُلَانٍ ". ثُمَّ رَوَى بِإِسْنَادِهِ: أَنَّ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ كَتَبَ إِلَى مُعَاوِيَةَ، فَبَدَأَ بَاسِمِ مُعَاوِيَةَ. وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَنَفِيَّةِ، وَبَكْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، وَأَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيِّ: أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِذَلِكَ. انْتَهَى.

قُلْتُ: وَلَا حُجَّةَ فِي هَذَا. لِأَنَّهُ مَوْقُوفٌ وَلَيْسَ بِمَرْفُوعٍ.

[ ص: 594 ] ثُمَّ قَالَ: وَأَمَّا الْعُنْوَانُ، فَالصَّوَابُ أَنْ يُكْتَبَ عَلَيْهِ: إِلَى فُلَانٍ. وَلَا يُكْتَبُ لِفُلَانٍ. لِأَنَّهُ إِلَيْهِ لَا لَهُ، إِلَّا عَلَى مَجَازٍ. قَالَ: هَذَا هُوَ الصَّوَابُ الَّذِي عَلَيْهِ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ، مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ. انْتَهَى.

قُلْتُ: وَلَمْ يُنْقَلْ إِلَيْنَا. كَيْفِيَّةُ عُنْوَانِ كِتَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ هَذَا، وَلَا غَيْرُهُ. وَالظَّاهِرُ: أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْعُنْوَانُ، عَلَى قَاعِدَةِ الْكِتَابِ: " مِنْ فُلَانٍ إِلَى فُلَانٍ ". وَيَكُونُ الْكِتَابُ، عَلَى مَا كَانَ هَذَا الْكِتَابُ الْمَذْكُورُ فِي هَذَا الْبَابِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.

وَمِنْهَا: التَّوَقِّي فِي الْمُكَاتَبَةِ، وَاسْتِعْمَالُ الْوَرَعِ فِيهَا. فَلَا يُفَرِّطُ وَلَا يُفْرِطُ. وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: " إِلَى هِرَقْلَ عَظِيمِ الرُّومِ " وَلَمْ يَقُلْ: " مَلِكُ الرُّومِ"؛ لِأَنَّهُ لَا مِلْكَ لَهُ وَلَا لِغَيْرِهِ، إِلَّا بِحُكْمِ دِينِ الْإِسْلَامِ. وَلَا سُلْطَانَ لِأَحَدٍ: إِلَّا لِمَنْ وَلَّاهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ، أَوْ وَلَّاهُ مَنْ أَذِنَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ بِشَرْطٍ. وَإِنَّمَا يُنَفِّذُ مِنْ تَصَرُّفَاتِ الْكُفَّارِ، مَا تُنَفِّذُهُ الضَّرُورَةُ.

وَلَمْ يَقُلْ: " إِلَى هِرَقْلَ " فَقَطْ. بَلْ أَتَى بِنَوْعٍ مِنَ الْمُلَاطَفَةِ، فَقَالَ: " عَظِيمُ الرُّومِ ". أَيِ: الَّذِي يُعَظِّمُونَهُ وَيُقَدِّمُونَهُ. وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى: بِإِلَانَةِ الْقَوْلِ، لِمَنْ يُدْعَى إِلَى الْإِسْلَامِ. فَقَالَ تَعَالَى: ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ . [ ص: 595 ] وَقَالَ تَعَالَى: فَقُولا لَهُ قَوْلا لَيِّنًا وَغَيْرُ ذَلِكَ.

وَمِنْهَا: اسْتِحْبَابُ الْبَلَاغَةِ وَالْإِيجَازِ، وَتَحَرِّي الْأَلْفَاظِ الْجَزِلَةِ فِي الْمُكَاتَبَةِ. فَإِنَّ قَوْلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: " أَسْلِمْ تَسْلَمْ"، فِي نِهَايَةٍ مِنَ الِاخْتِصَارِ، وَغَايَةٍ مِنَ الْإِيجَازِ وَالْبَلَاغَةِ وَجَمْعِ الْمَعَانِي، مَعَ مَا فِيهِ مِنْ بَدِيعِ التَّجْنِيسِ، وَشُمُولِهِ لِسَلَامَتِهِ مِنْ خِزْيِ الدُّنْيَا. بِالْحَرْبِ، وَالسَّبْيِ، وَالْقَتْلِ، وَأَخْذِ الدِّيَارِ وَالْأَمْوَالِ. وَمِنْ عَذَابِ الْآخِرَةِ.

وَمِنْهَا: أَنَّ مَنْ أَدْرَكَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ نَبِيَّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ، فَآمَنَ بِهِ: فَلَهُ أَجْرَانِ. كَمَا صَرَّحَ بِهِ هُنَا.

وَفِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ فِي الصَّحِيحِ: "ثَلَاثَةٌ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ، مِنْهُمْ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ" الْحَدِيثَ.

وَمِنْهَا: الْبَيَانُ الْوَاضِحُ: أَنَّ مَنْ كَانَ سَبَبًا لِضَلَالَةٍ، أَوْ سَبَبَ مَنْعٍ مِنْ هِدَايَةٍ: كَانَ آثِمًا. لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: " وَإِنْ تَوَلَّيْتَ، فَإِنَّمَا عَلَيْكَ إِثْمَ الْأَرِيسِيِّينَ "، وَمِنْ هَذَا الْمَعْنَى: قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالا مَعَ أَثْقَالَهُمْ .

وَمِنْهَا: اسْتِحْبَابُ: " أَمَّا بَعْدُ" فِي الْخُطَبِ وَالْكُتُبِ. وَقَدْ تَرْجَمَ الْبُخَارِيُّ لِهَذِهِ بَابًا، فِي كِتَابِ الْجُمُعَةِ. ذَكَرَ فِيهِ أَحَادِيثَ كَثِيرَةً.

[ ص: 596 ] وَفِي قَوْلِهِ " سَلَامٌ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى "، دَلِيلٌ لِمَنْ يَقُولُ: لَا يَبْدَأُ الْكَافِرَ بِالسَّلَامِ. وَفِي الْمَسْأَلَةِ خِلَافٌ؛ فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَجُمْهُورِ أَصْحَابِهِ، وَأَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلْمُسْلِمِ: أَنْ يَبْدَأَ كَافِرًا بِالسَّلَامِ. وَأَجَازَهُ كَثِيرٌ مِنَ السَّلَفِ.

قَالَ النَّوَوِيُّ : وَهَذَا مَرْدُودٌ بِالْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ فِي النَّهْيِ عَنْ ذَلِكَ. وَجَوَّزَهُ آخَرُونَ لِاسْتِئْلَافٍ، أَوْ لِحَاجَةٍ إِلَيْهِ، أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ. انْتَهَى.

نَعَمِ، الضَّرُورَاتُ تُبِيحُ الْمَحْظُورَاتِ. وَمَاذَا يَفْعَلُ مَنْ لَا يَقْدِرُ عَلَى الْعَمَلِ بِالْحَدِيثِ الصَّحِيحِ؛ عِنْدَ خَوْفِ الْعِرْضِ وَالْمَالِ بَلِ النَّفْسِ ؟ وَاللَّهُ تَعَالَى هُوَ الْعَافِي عَنِ الذُّنُوبِ، الَّتِي اسْتُكْرِهَتِ الْأُمَّةُ الْمَرْحُومَةُ عَلَيْهَا فِي آخِرِ الزَّمَانِ، حِينَ تَتَابُعِ الْفِتَنِ وَكَثْرَةِ الْآفَاتِ الصُّورِيَّةِ وَالْمَعْنَوِيَّةِ، وَغُرْبَةِ الْإِسْلَامِ، وَتَسَلُّطِ السَّلَاطِينِ وَالشَّيَاطِينِ عَلَى مَمَالِكِ الْإِسْلَامِ وَأَهْلِهَا. اللَّهُمَّ غَفْرًا.

(فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ قِرَاءَةِ الْكِتَابِ، ارْتَفَعَتِ الْأَصْوَاتُ عِنْدَهُ، وَكَثُرَ اللَّغَطُ) بِفَتْحِ الْغَيْنِ وَإِسْكَانِهَا. وَهِيَ الْأَصْوَاتُ الْمُخْتَلِطَةُ.

(وَأَمَرَ بِنَا، فَأُخْرِجْنَا. قَالَ: فَقُلْتُ لِأَصْحَابِي حِينَ خَرَجْنَا: لَقَدْ أَمِرَ) بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَكَسْرِ الْمِيمِ. أَيْ: عَظُمَ (أَمْرُ ابْنِ أَبِي كَبْشَةَ) . قِيلَ: هُوَ رَجُلٌ مِنْ خُزَاعَةَ، كَانَ يَعْبُدُ الشِّعْرَى، وَلَمْ يُوَافِقْهُ أَحَدٌ مِنَ الْعَرَبِ فِي عِبَادَتِهَا، فَشَبَّهُوا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ بِهِ، لِمُخَالَفَتِهِ إِيَّاهُمْ فِي دِينِهِمْ، كَمَا خَالَفَهُمْ أَبُو كَبْشَةَ. رُوِّينَا عَنِ الزُّبَيْرِ بْنِ بَكَّارٍ، فِي كِتَابِ الْأَنْسَابِ: (قَالَ: لَيْسَ مُرَادُهُمْ بِذَلِكَ عَيْبَ النَّبِيِّ [ ص: 597 ] صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ. إِنَّمَا أَرَادُوا بِذَلِكَ مُجَرَّدَ التَّشْبِيهِ) .

وَقِيلَ: إِنَّ " أَبَا كَبْشَةَ " جَدُّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ مِنْ قِبَلِ أُمِّهِ. قَالَهُ ابْنُ قُتَيْبَةَ، وَكَثِيرُونَ.

وَقِيلَ: هُوَ أَبُوهُ مِنَ الرَّضَاعَةِ. وَهُوَ الْحَارِثُ بْنُ عَبْدِ الْعُزَّى، السَّعْدِيُّ. حَكَاهُ ابْنُ بَطَّالٍ وَآخِرُونَ.

وَقَالَ عِيَاضٌ : قَالَ أَبُو الْحَسَنِ الْجُرْجَانِيُّ، النَّسَّابَةُ: إِنَّمَا قَالُوا: " ابْنُ أَبِي كَبْشَةَ "، عَدَاوَةً لَهُ. صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ. فَنَسَبُوهُ إِلَى نَسَبٍ لَهُ، غَيْرِ نَسَبِهِ الْمَشْهُورِ. إِذْ لَمْ يُمْكِنْهُمُ الطَّعْنُ فِي نَسَبِهِ الْمَعْلُومِ الْمَشْهُورِ. قَالَ: وَقَدْ كَانَ " وَهْبُ بْنُ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ زَهْرَةَ، جَدُّهُ أَبُو آمِنَةَ ". يُكَنَّى: " أَبَا كَبْشَةَ ". وَكَذَلِكَ " عَمْرُو بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسَدٍ الْأَنْصَارِيُّ النَّجَّارِيُّ، أَبُو سَلْمَى أُمِّ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ "، كَانَ يُدْعَى: " أَبَا كَبْشَةَ ". قَالَ: وَكَانَ فِي أَجْدَادِهِ أَيْضًا، مِنْ قِبَلِ أُمِّهِ: " أَبُو كَبْشَةَ ". وَهُوَ أَبُو قَيْلَةَ: " أُمُّ وَهْبِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ، أَبُو آمِنَةَ، أُمِّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ " وَهُوَ خُزَاعِيٌّ. وَهُوَ الَّذِي كَانَ يَعْبُدُ " الشِّعْرَى". وَكَانَ أَبُوهُ مِنَ الرَّضَاعَةِ يُدْعَى: " أَبَا كَبْشَةَ "، وَهُوَ الْحَارِثُ بْنُ عَبْدِ الْعُزَّى السَّعْدِيُّ.

[ ص: 598 ] قَالَ عِيَاضٌ : وَقَالَ مِثْلَ هَذَا كُلَّهُ: مُحَمَّدُ بْنُ حَبِيبٍ الْبَغْدَادِيُّ. وَزَادَ ابْنُ مَاكُولَا، فَقَالَ: وَقِيلَ: " أَبُو كَبْشَةَ " عَمُّ وَالِدِ حَلِيمَةَ، مُرْضِعَتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ.

(إِنَّهُ لَيَخَافُهُ مَلِكُ بَنِي الْأَصْفَرِ) وَهُمُ الرُّومُ.

قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: سُمُّوا بِهِ: لِأَنَّ جَيْشًا مِنَ الْحَبَشَةِ غَلَبَ عَلَى بِلَادِهِمْ، فِي وَقْتٍ، فَوَطِئَ نِسَاءَهُمْ، فَوَلَدْنَ أَوْلَادًا صُفْرًا؛ مِنْ سَوَادِ الْحَبَشَةِ وَبَيَاضِ الرُّومِ.

وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْحَرْبِيُّ: نُسِبُوا إِلَى الْأَصْفَرِ بْنِ الرُّومِ بْنِ عِيصُو بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ. قَالَ عِيَاضٌ : هَذَا أَشْبَهُ مِنْ قَوْلِ ابْنِ الْأَنْبَارِيِّ.

(قَالَ: فَمَا زِلْتُ مُوقِنًا بِأَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: أَنَّهُ سَيَظْهَرُ؛ حَتَّى أَدْخَلَ اللَّهُ عَلَيَّ الْإِسْلَامَ) .

وَهَذَا الْحَدِيثُ، رَوَاهُ أَيْضًا الْبُخَارِيُّ ، فِي صَحِيحِهِ. وَشَرَحْنَاهُ فِي (عَوْنِ الْبَارِي لِحَلِّ أَدِلَّةِ الْبُخَارِيِّ)، شَرْحًا وَاضِحًا، جَامِعًا لِلْفَوَائِدِ وَالْعَوَائِدِ. فَرَاجِعْ.

(الشرح)

(عن ابن عباس) رضي الله عنهما؛ (أن أبا سفيان) رضي الله عنه (أخبره، من فيه إلى فيه؛ قال: انطلقت في المدة التي كانت بيني وبين رسول الله صلى الله عليه) وآله (وسلم) يعني: الصلح يوم الحديبية. وكانت الحديبية في أواخر سنة ست من الهجرة.

(قال: فبينا أنا بالشأم، إذ جيء بكتاب من رسول الله صلى الله عليه) وآله (وسلم إلى هرقل. قال: يعني: عظيم الروم) .

قال النووي : " هرقل"، بكسر الهاء وفتح الراء وإسكان القاف.

[ ص: 583 ] هذا هو المشهور. ويقال: " هرقل " بكسر الهاء وإسكان الراء وكسر القاف. حكاه الجوهري في صحاحه. وهو اسم علم له. ولقبه: "قيصر". وكذا كل من ملك الروم يقال له: "قيصر" .

(قال: وكان دحية الكلبي) بكسر الدال وفتحها. لغتان مشهورتان، اختلف في الراجحة منهما. وادعى ابن السكيت: أنه بالكسر لا غير. وأبو حاتم السجستاني: أنه بالفتح لا غير.

(جاء به. فدفعه إلى عظيم بصرى) بضم الباء. وهي مدينة حوران.

ذات قلعة وأعمال، قريبة من طرف البرية التي بين الشام والحجاز.

والمراد بعظيم بصرى: " أميرها ".

(فدفعه عظيم بصرى إلى هرقل. فقال هرقل: هل ههنا أحد من قوم هذا الرجل، الذي يزعم: أنه نبي الله ؟ قالوا: نعم. قال: فدعيت في نفر من قريش، فدخلنا على هرقل، فأجلسنا بين يديه. فقال: أيكم أقرب نسبا من هذا الرجل، الذي يزعم أنه نبي ؟) .

قال العلماء: إنما سأل قريب النسب؛ لأنه أعلم بحاله، وأبعد من أن يكذب في نسبه وغيره (فقال أبو سفيان: فقلت: أنا. فأجلسوني بين يديه، وأجلسوا أصحابي خلفي) وإنما فعل ذلك؛ ليكون عليهم أهون في تكذيبه إن كذب. لأن مقابلته بالكذب في وجهه صعبة.

[ ص: 584 ] بخلاف ما إذا لم يستقبلوه) . (ثم دعا بترجمانه) بضم التاء وفتحها. والفتح أفصح. وهو المعبر عن لغة بلغة أخرى. والتاء فيه أصلية. وأنكروا على الجوهري كونه جعلها زائدة.

(فقال له: قل لهم: إني سائل هذا، عن الرجل الذي يزعم: أنه نبي) ثم أكد ذلك فقال: (فإن كذبني فكذبوه) أي: لا تستحيوا منه فتسكتوا عن تكذيبه، إن كذب.

قال: فقال أبو سفيان: وايم الله ! لولا مخافة أن يؤثر علي الكذب، لكذبت) .

أي: لولا خفت أن رفقتي ينقلون عني الكذب إلى قومي، ويتحدثونه في بلادي، لكذبت عليه، لبغضي إياه ومحبتي نقصه.

وفي هذا: بيان أن الكذب قبيح في الجاهلية، كما هو قبيح في الإسلام.

ووقع في رواية البخاري: "لولا الحياء من أن يأثروا علي كذبا، لكذبت عنه"، وهو بضم الثاء وكسرها.

(ثم قال لترجمانه: سله: كيف حسبه فيكم ؟) أي: نسبه.

(قال: قلت: هو فينا ذو حسب. قال: فهل كان من آبائه ملك ؟) هكذا [ ص: 585 ] هو في جميع نسخ صحيح مسلم. ووقع في صحيح البخاري: " فهل كان في آبائه من ملك ؟ " وروي هذا اللفظ على وجهين؛ أحدهما: " من " بكسر الميم، " وملك "، بفتحها مع كسر اللام.

والثاني: " من " بفتح الميم، " وملك " بفتحها، على أنه فعل ماض. قال النووي : وكلاهما صحيح. والأول أشهر وأصح، وتؤيده رواية مسلم، بحذف " من ".

(قلت: لا. قال: فهل كنتم تتهمونه بالكذب، قبل أن يقول ما قال ؟ قلت: لا. قال: ومن يتبعه ؟ أشراف الناس، أم ضعفاؤهم ؟) يعني بأشرافهم: كبارهم، وأهل الأحساب فيهم.

(قال: قلت: بل ضعفاؤهم. قال: أيزيدون أم ينقصون ؟ قال: قلت: لا. بل يزيدون. قال: هل يرتد أحد منهم عن دينه، بعد أن يدخل فيه، سخطة له ؟) بفتح السين. " والسخط ": كراهة الشيء، وعدم الرضى به.

(قال: قلت: لا. قال: فهل قاتلتموه ؟ قلت: نعم. قال: فكيف كان قتالكم إياه ؟ قال: قلت: تكون الحرب بيننا وبينه سجالا، يصيب منا ونصيب منه) .

" السجال، بكسر السين. أي: "نوبا " نوبة لنا ونوبة له. قالوا:

[ ص: 586 ] وأصله من المستقين بالسجل. وهي الدلو الملأى. يكون لكل واحد منهما "سجل ".

(قال: فهل يغدر ؟) بكسر الدال. وهو ترك الوفاء بالعهد.

(قلت: لا. ونحن منه في مدة، لا ندري ما هو صانع فيها ؟) يعني: مدة الهدنة. والصلح الذي جرى يوم الحديبية..

(قال: فوالله ! ما أمكنني من كلمة أدخل فيها شيئا، غير هذه. قال: فهل قال هذا القول أحد قبله ؟ قال: قلت: لا. قال لترجمانه: قل له: إني سألتك عن حسبه، فزعمت: أنه فيكم ذو حسب. وكذلك الرسل، تبعث في أحساب قومها) يعني: في أفضل أنسابهم، وأشرفها.

قيل: الحكمة في ذلك: أنه أبعد من انتحاله الباطل، وأقرب إلى انقياد الناس له.

(وسألتك: هل كان في آبائه ملك ؟ فزعمت: أن لا. فقلت: لو كان من آبائه ملك، قلت: رجل يطلب ملك آبائه. وسألتك عن أتباعه، أضعفاؤهم أم أشرافهم ؟ فقلت: بل ضعفاؤهم. وهم أتباع الرسل)، لكون الأشراف يأنفون من تقدم مثلهم عليهم. والضعفاء لا يأنفون، فيسرعون إلى الانقياد، واتباع الحق.

(وسألتك: هل كنتم تتهمونه بالكذب، قبل أن يقول ما قال ؟ [ ص: 587 ] فزعمت: أن لا. فقد عرفت: أنه لم يكن ليدع الكذب على الناس، ثم يذهب فيكذب على الله. وسألتك: هل يرتد أحدهم عن دينه، بعد أن يدخله، سخطة له ؟ فزعمت: أن لا. وكذلك الإيمان، إذا خالط بشاشته القلوب) .

أما سؤاله عن الردة؛ فلأن من دخل على بصيرة في أمر محقق، لا يرجع عنه. بخلاف من دخل في أباطيل.

" وبشاشة القلوب ": انشراح الصدور. وأصلها: اللطف بالإنسان عند قدومه، وإظهار السرور برؤيته. يقال: بش به. وتبشبش.

(وسألتك: هل يزيدون أم ينقصون؟ فزعمت: أنهم يزيدون. وكذلك الإيمان حتى يتم. وسألتك: هل قاتلتموه ؟ فزعمت: أنكم قد قاتلتموه، فتكون الحرب بينكم وبينه سجالا، ينال منكم وتنالون منه. وكذلك الرسل، تبتلى، ثم تكون لهم العاقبة) معناه: يبتليهم الله بذلك، ليعظم أجرهم بكثرة صبرهم، وبذلهم وسعهم في طاعة الله تعالى.

(وسألتك: هل يغدر ؟ فزعمت: أنه لا يغدر. وكذلك الرسل لا تغدر) .

أما سؤاله عن الغدر، فلأن من طلب حظ الدنيا: لا يبالي بالغدر [ ص: 588 ] وغيره، مما يتوصل به إلى ذلك. ومن طلب الآخرة: لم يرتكب غدرا، ولا غيره من القبائح.

(وسألتك: هل قال هذا القول أحد قبله ؟ فزعمت: أن لا. فقلت: لو قال هذا القول أحد قبله، قلت: رجل ائتم بقول قيل قبله. قال: ثم قال: بم يأمركم ؟ قلت: يأمرنا بالصلاة، والزكاة، والصلة، والعفاف) أي: بصلة الأرحام، وكل ما أمر الله به أن يوصل. وذلك بالبر، والإكرام، وحسن المراعاة.

وأما العفاف، فهو الكف عن المحارم وخوارم المروءة. قال صاحب المحكم: " العفة ": الكف عما لا يحل ولا يجمل. يقال: عف يعف، عفة وعفافا وعفافة. وتعفف واستعف. ورجل عف وعفيف. والأنثى عفيفة. وجمع العفيف: " أعفة، وأعفاء ".

(قال: إن يكن ما تقول فيه حقا، فإنه نبي) .

قال أهل العلم: هذا الذي قاله هرقل، أخذه من الكتب القديمة.

ففي التوراة هذا أو نحوه، من علامات رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. فعرفه بالعلامات. وأما الدليل القاطع على النبوة: فهو المعجزة الظاهرة، الخارقة للعادة. هكذا قال المازري. والله أعلم.

(وقد كنت أعلم أنه خارج. ولم أكن أظنه أنه منكم) . ولو أني أعلم أني أخلص إليه، لأحببت لقاءه)، هكذا هو في مسلم. ووقع في [ ص: 589 ] البخاري: " لتجشمت لقاءه"، وهو أصح في المعنى. ومعناه: لتكلفت الوصول إليه، وارتكبت المشقة في ذلك. ولكن أخاف أن أقتطع دونه. ولا عذر له في هذا. لأنه قد عرف صدق النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وإنما شح في الملك، ورغب في الرياسة، فآثرها على الإسلام. وقد جاء ذلك مصرحا به في صحيح البخاري. ولو أراد الله هدايته، لوفقه كما وفق النجاشي، وما زالت عنه الرياسة. ونسأل الله توفيقه.

(ولو كنت عنده، لغسلت عن قدميه. وليبلغن ملكه ما تحت قدمي) ويا لله العجب من فهم هذا الرجل ! تمنى هذا التمني، وعلم بلوغ ملكه صلى الله عليه وآله وسلم ما تحت قدرته، ولم يسلم خوفا من زوال الملك. وايم الله ! لو أنه أسلم، سلم، ولم تزل عنه رياسته.

وقد وقع ما وقع، ولم ينفعه هذا الخوف والرجاء. وكان أمر الله قدرا مقدورا. ومن هنا يقال: الصارم قد ينبو. والجواد قد يكبو. ولا شك أن هرقل كان من عقلاء الرجال، وعلماء الملوك، ولكن ذهب عقله وضاع لبه في هذا المقام. ولم يهتد إلى الحق وحسن العاقبة. وقدم الدنيا - التي لم تكن تزول عنه بالإسلام - على الآخرة التي هي دار الحيوان. ومن يهدي الله فلا مضل له، ومن يضلله فلا هادي له.

(قال: ثم دعا بكتاب رسول الله صلى الله عليه) وآله (وسلم، فقرأه فإذا فيه: بسم الله الرحمن الرحيم. من محمد رسول الله، إلى [ ص: 590 ] هرقل عظيم الروم. سلام على من اتبع الهدى. أما بعد، فإني أدعوك بدعاية الإسلام) أي: بدعوته وهي كلمة التوحيد. وفي الرواية الأخرى؛ التي ذكرها مسلم بعد هذا: " أدعوك بداعية الإسلام"، وهو معنى الأولى. قال عياض : ويجوز أن تكون " داعية " معنى " دعوة ". كما في قوله تعالى: ليس لها من دون الله كاشفة أي: كشف.

(أسلم تسلم. وأسلم يؤتك الله أجرك مرتين. وإن توليت، فإنما عليك إثم الأريسيين) هكذا وقع في هذه الرواية، وهو الأشهر في روايات الحديث، وفي كتب أهل اللغة. وعلى هذا اختلف في ضبطه على أوجه:

أحدها: بياءين بعد السين.

والثاني: بياء واحدة بعدها.

وعلى هذين الوجهين: الهمزة مفتوحة، والراء مكسورة مخففة.

والثالث: " الإريسين "، بكسر الهمزة، وتشديد الراء، وبياء واحدة بعد السين.

ووقع في الرواية الثانية في مسلم، وفي أول صحيح البخاري: " إثم اليريسيين " بياء مفتوحة في أوله، وبياءين بعد السين. واختلفوا في المراد بهم على أقوال؛ [ ص: 591 ] أصحها وأشهرها: أنهم الأكارون. أي: الفلاحون والزراعون. ومعناه: أن عليك إثم رعاياك، الذين يتبعونك وينقادون بانقيادك.

ونبه بهؤلاء على جميع " الرعايا "؛ لأنهم الأغلب. ولأنهم أسرع انقيادا. فإذا أسلم أسلموا. وإذا امتنع امتنعوا.

قال النووي : وهذا القول هو الصحيح. وقد جاء مصرحا به)، في رواية رويناها، في كتاب دلائل النبوة للبيهقي. وفي غيره: " فإن عليك إثم الأكارين".

وفي رواية ذكرها أبو عبيد، في كتاب الأموال: " وإلا، فلا يحل بين الفلاحين وبين الإسلام".

وفي رواية ابن وهب: " وإثمهم عليك ".

قال أبو عبيد: ليس المراد بالفلاحين: " الزراعين خاصة"، بل المراد بهم: جميع أهل مملكته.

الثاني: أنهم اليهود والنصارى. وهم أتباع عبد الله بن أريس، الذي تنسب إليه " الأروسية " من النصارى. ولهم مقالة في كتب المقالات. ويقال لهم: " الأروسيون " .

الثالث: أنهم " الملوك " الذين يقودون الناس إلى المذاهب الفاسدة، ويأمرونهم بها. والله أعلم.

والظاهر الراجح: أن المراد بهم: جميع رعاياه.

[ ص: 592 ] قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون .

في هذا الكتاب: جمل من القواعد، وأنواع من الفوائد؛ منها: دعاء الكفار إلى الإسلام قبل قتالهم. وهذا الدعاء واجب، والقتال قبله حرام: إن لم تكن بلغتهم دعوة الإسلام. وإن كانت بلغتهم: فالدعاء مستحب. هذا مذهب الشافعي. وفيه خلاف للسلف سبق بيانه.

ومنها: وجوب العمل بخبر الواحد. وإلا فلم يكن في بعثه مع دحية فائدة. قال النووي : وهذا إجماع من يعتد به.

ومنها: استحباب تصدير الكتاب بالبسملة، وإن كان المبعوث إليه كافرا.

ومنها: أن قوله صلى الله عليه وآله وسلم في الحديث الآخر: "كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بحمد الله، فهو أجذم"، المراد بحمد الله: ذكر الله تعالى. وقد جاء في رواية: " بذكر الله ". وهذا الكتاب كان ذا بال. بل من المهمات العظام. وبدأ فيه بالبسملة، دون الحمد.

[ ص: 593 ] ومنها: أنه يجوز أن يسافر إلى أرض العدو بالآية والآيتين ونحوهما، وأن يبعث بذلك إلى الكفار. وإنما نهي عن المسافرة بالقرآن إلى أرض العدو. أي: بكله، أو بجملة منه. وذلك أيضا، محمول على ما إذا خيف وقوعه في أيدي الكفار.

ومنها: أنه يجوز للمحدث والكافر: مس آية، أو آيات يسيرة، مع غير القرآن.

ومنها: أن السنة في المكاتبة والرسائل بين الناس: أن يبدأ الكاتب بنفسه، فيقول: " من زيد إلى عمرو ". وهذه مسألة مختلف فيها .

قال الإمام أبو جعفر في كتابه: (صناعة الكتاب): قال أكثر العلماء: يستحب أن يبدأ بنفسه، كما ذكرنا. ثم روى فيه أحاديث كثيرة، وآثارا. قال: وهذا هو الصحيح عند أكثر العلماء. لأنه إجماع الصحابة. قال: وسواء في هذا: تصدير الكتاب، والعنوان. قال: ورخص جماعة في أن يبدأ بالمكتوب إليه، فيقول في التصدير والعنوان: " إلى فلان من فلان ". ثم روى بإسناده: أن زيد بن ثابت كتب إلى معاوية، فبدأ باسم معاوية. وعن محمد بن الحنفية، وبكر بن عبد الله، وأيوب السختياني: أنه لا بأس بذلك. انتهى.

قلت: ولا حجة في هذا. لأنه موقوف وليس بمرفوع.

[ ص: 594 ] ثم قال: وأما العنوان، فالصواب أن يكتب عليه: إلى فلان. ولا يكتب لفلان. لأنه إليه لا له، إلا على مجاز. قال: هذا هو الصواب الذي عليه أكثر العلماء، من الصحابة والتابعين. انتهى.

قلت: ولم ينقل إلينا. كيفية عنوان كتاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم هذا، ولا غيره. والظاهر: أنه ينبغي أن يكون العنوان، على قاعدة الكتاب: " من فلان إلى فلان ". ويكون الكتاب، على ما كان هذا الكتاب المذكور في هذا الباب، والله أعلم بالصواب.

ومنها: التوقي في المكاتبة، واستعمال الورع فيها. فلا يفرط ولا يفرط. ولهذا قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: " إلى هرقل عظيم الروم " ولم يقل: " ملك الروم"؛ لأنه لا ملك له ولا لغيره، إلا بحكم دين الإسلام. ولا سلطان لأحد: إلا لمن ولاه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، أو ولاه من أذن له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بشرط. وإنما ينفذ من تصرفات الكفار، ما تنفذه الضرورة.

ولم يقل: " إلى هرقل " فقط. بل أتى بنوع من الملاطفة، فقال: " عظيم الروم ". أي: الذي يعظمونه ويقدمونه. وقد أمر الله تعالى: بإلانة القول، لمن يدعى إلى الإسلام. فقال تعالى: ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة . [ ص: 595 ] وقال تعالى: فقولا له قولا لينا وغير ذلك.

ومنها: استحباب البلاغة والإيجاز، وتحري الألفاظ الجزلة في المكاتبة. فإن قوله صلى الله عليه وآله وسلم: " أسلم تسلم"، في نهاية من الاختصار، وغاية من الإيجاز والبلاغة وجمع المعاني، مع ما فيه من بديع التجنيس، وشموله لسلامته من خزي الدنيا. بالحرب، والسبي، والقتل، وأخذ الديار والأموال. ومن عذاب الآخرة.

ومنها: أن من أدرك من أهل الكتاب نبينا صلى الله عليه وآله وسلم، فآمن به: فله أجران. كما صرح به هنا.

وفي الحديث الآخر في الصحيح: "ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين، منهم رجل من أهل الكتاب" الحديث.

ومنها: البيان الواضح: أن من كان سببا لضلالة، أو سبب منع من هداية: كان آثما. لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: " وإن توليت، فإنما عليك إثم الأريسيين "، ومن هذا المعنى: قوله سبحانه: وليحملن أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم .

ومنها: استحباب: " أما بعد" في الخطب والكتب. وقد ترجم البخاري لهذه بابا، في كتاب الجمعة. ذكر فيه أحاديث كثيرة.

[ ص: 596 ] وفي قوله " سلام على من اتبع الهدى "، دليل لمن يقول: لا يبدأ الكافر بالسلام. وفي المسألة خلاف؛ فمذهب الشافعي وجمهور أصحابه، وأكثر العلماء: أنه لا يجوز للمسلم: أن يبدأ كافرا بالسلام. وأجازه كثير من السلف.

قال النووي : وهذا مردود بالأحاديث الصحيحة في النهي عن ذلك. وجوزه آخرون لاستئلاف، أو لحاجة إليه، أو نحو ذلك. انتهى.

نعم، الضرورات تبيح المحظورات. وماذا يفعل من لا يقدر على العمل بالحديث الصحيح؛ عند خوف العرض والمال بل النفس ؟ والله تعالى هو العافي عن الذنوب، التي استكرهت الأمة المرحومة عليها في آخر الزمان، حين تتابع الفتن وكثرة الآفات الصورية والمعنوية، وغربة الإسلام، وتسلط السلاطين والشياطين على ممالك الإسلام وأهلها. اللهم غفرا.

(فلما فرغ من قراءة الكتاب، ارتفعت الأصوات عنده، وكثر اللغط) بفتح الغين وإسكانها. وهي الأصوات المختلطة.

(وأمر بنا، فأخرجنا. قال: فقلت لأصحابي حين خرجنا: لقد أمر) بفتح الهمزة وكسر الميم. أي: عظم (أمر ابن أبي كبشة) . قيل: هو رجل من خزاعة، كان يعبد الشعرى، ولم يوافقه أحد من العرب في عبادتها، فشبهوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم به، لمخالفته إياهم في دينهم، كما خالفهم أبو كبشة. روينا عن الزبير بن بكار، في كتاب الأنساب: (قال: ليس مرادهم بذلك عيب النبي [ ص: 597 ] صلى الله عليه وآله وسلم. إنما أرادوا بذلك مجرد التشبيه) .

وقيل: إن " أبا كبشة " جد النبي صلى الله عليه وآله وسلم من قبل أمه. قاله ابن قتيبة، وكثيرون.

وقيل: هو أبوه من الرضاعة. وهو الحارث بن عبد العزى، السعدي. حكاه ابن بطال وآخرون.

وقال عياض : قال أبو الحسن الجرجاني، النسابة: إنما قالوا: " ابن أبي كبشة "، عداوة له. صلى الله عليه وآله وسلم. فنسبوه إلى نسب له، غير نسبه المشهور. إذ لم يمكنهم الطعن في نسبه المعلوم المشهور. قال: وقد كان " وهب بن عبد مناف بن زهرة، جده أبو آمنة ". يكنى: " أبا كبشة ". وكذلك " عمرو بن زيد بن أسد الأنصاري النجاري، أبو سلمى أم عبد المطلب "، كان يدعى: " أبا كبشة ". قال: وكان في أجداده أيضا، من قبل أمه: " أبو كبشة ". وهو أبو قيلة: " أم وهب بن عبد مناف، أبو آمنة، أم النبي صلى الله عليه وآله وسلم " وهو خزاعي. وهو الذي كان يعبد " الشعرى". وكان أبوه من الرضاعة يدعى: " أبا كبشة "، وهو الحارث بن عبد العزى السعدي.

[ ص: 598 ] قال عياض : وقال مثل هذا كله: محمد بن حبيب البغدادي. وزاد ابن ماكولا، فقال: وقيل: " أبو كبشة " عم والد حليمة، مرضعته صلى الله عليه وآله وسلم.

(إنه ليخافه ملك بني الأصفر) وهم الروم.

قال ابن الأنباري: سموا به: لأن جيشا من الحبشة غلب على بلادهم، في وقت، فوطئ نساءهم، فولدن أولادا صفرا؛ من سواد الحبشة وبياض الروم.

وقال أبو إسحاق بن إبراهيم الحربي: نسبوا إلى الأصفر بن الروم بن عيصو بن إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام. قال عياض : هذا أشبه من قول ابن الأنباري.

(قال: فما زلت موقنا بأمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أنه سيظهر؛ حتى أدخل الله علي الإسلام) .

وهذا الحديث، رواه أيضا البخاري ، في صحيحه. وشرحناه في (عون الباري لحل أدلة البخاري)، شرحا واضحا، جامعا للفوائد والعوائد. فراجع.